محمود درويش لم كذبت علينا؟
بقلم: متولي أبي ناصر
الثالثة فجراً. المكان مخيم اليرموك في أحد الملاجئ الصغيرة. 10 دقائق تمر دون سقوط قذيفة، ما يسمح للأطفال المتعبين والجائعين بالنوم أخيراً في أحضان أمهاتهم. لكن الشائعة التي انتشرت بوجوب إخلاء المخيم تدفع بالناس صوب المداخل. من هناك، يرافق الكاتب النازحين الى لبنان ويكتب عن تحطم صورة بيروت في ذاكرة هؤلاء..
اليرموك | «يجب اخلاء المخيم، معكم حتى التاسعة صباحاً»، بعض الشباب النشط في اطار تقديم المساعدات يحاولون تكذيب الشائعة التي بدأت تنتشر بسرعة البرق، سواء عن طريق الانترنت، او عن طريق التحدث الى الناس المنتظرين على ابواب منازلهم بزوغ اولى خيوط الضوء لتبدأ رحلتها الى المجهول خارج المخيم .
مرّت نصف ساعة كانت خلالها شوارع المخيم ولأول مرة خالية حتى من القطط والكلاب. نصف ساعة نصلي فيها أن لا تسقط أية قذيفة ليطمئن الناس فلا يغادروا نحو ذلٍ جديد.
القذيفة الأولى خلف جامع فلسطين. القذيفة الثانية حديقة الطلائع، الثالثة شارع حيفا، الرابعة بجانبي، الخامسة، السادسة، العائلة الأولى، الثانية، الثالثة.. أهرع الى أول المخيم لأتحدث الى رجل الأمن الواقف على الحاجز المرابط هناك. «مرحبا معلم..كيفك .. في مجال توقفوا؟.. طيب في مجال تقولوا للناس أنكم ما رح تدخلوا المخيم؟». لم يكن للكلام أيّة فائدة، الجموع تزداد، والناس تتدافع من كل الجهات الى خارج المخيم، طائرة «الميغ» التي قصفت جامع عبد القادر، ومنطقة المحكمة وراح ضحيتها أكثر من أربعين شهيداً، وضعت حداً لقدرة الناس على التحمل، هكذا أجابني أحد الرجال. «والله يا ابني صرلنا متحملين الهاون والراجمات والمدفعية سنة كاملة، بس ميغ؟ الميغ هاي مو لعبة». طيب وين رايحين؟ سألته. «للهجرة و الجوازات» قال.
قررت ُعدم ترك الناس فلحقت بهم نحو الهجرة والجوازات الفلسطينية في سوريا. كان المشهد أقسى مما تخيلنا، حالة هلع هستيرية تمنع الناس من الاستماع: بكاء الأطفال، وأنين جرحى الأيام السابقة، يمنع الناس حتّى من التفكير.
مضيتُ مع الناس الذين استطاعوا أخذ التصاريح الى الحدود اللبنانية. الثالثة عصراً عندما وصلنا الى الحدود، والساعة الثالثة عصراً عندما أدرك اللاجئون الجدد أن بيروت ليست خيمتنا.
ألقيت نظرة على غرفة الانتظار تذكرت منفردات «فرع فلسطين» للمخابرات، غرفة كبيرة لا تتعدى أكثر من 5 أمتار مربعة يقف فيها أكثر من 500 شخص! تذكرت «التسييف» اي النوم على جهة واحدة بسبب ضيق وازدحام المكان، والنوم قرفصاء، وهو «حل» آخر، ولكن هنا؟ الحالة مختلفة. هنا لا تستطيع حتى الوقوف بشكلٍ مستقيم.
كل نصف ساعة حتى يتيسر لرب عائلة واحد أن يحصل على فيزا، ويخرج كأنه أنهى للتو حرباً خرج فيها منتصراً.
العاشرة ليلاً و لم ينقص من الجموع الواقفة أمام «شباك ختم الفيزا» سوى بعض العائلات.
بدأ الصراخ، وازداد بكاء الأطفال من الجوع، والبرد القارس الذي انهك حتى الأمهات، وتعالت الصيحات..
«شو نحنا بقر؟ ولاد كلب؟ طول عمرنا هيك نحن الفلسطينية؟ شو ها الذل؟ من العشرة واقفين».
بدا الناس بالاعتقاد أن تأخيرهم مقصود، لا بل أن الهدف إهانتهم لا أكثر و لا أقل، وإلا فماذا يعني أن يقف ربّ عائلة من العاشرة صباحاً الى العاشرة ليلاً دون أن يستطيع الدخول الى الأراضي اللبنانية؟.
فتى، لم يتجاوز الخامسة عشرة، صرخ بوجه رجل الأمن عندما رأى والدته تبكي من البرد وذلّ الانتظار. وبدل أن يقدّر رجل الأمن اللبناني وضعه، ضربه على وجهه. وما هي الا ثوان حتى التف حول المراهق أكثر من عنصر وانهالوا عليه بالضرب!
تذكرت حرب تموز وما قدّم هؤلاء الناس في المخيم للنازحين من لبنان. أذكر في تلك الأيام أنّي وبعض الأخوة تمركزنا على الحدود، عند السوق الحرة التي لا تبعد اكثر من مائتي متر، نقدم الخدمات للفارين من الحرب: طعام، شراب، ثياب، وحتى اننا اخترعنا فقرات تسلية من اجل تهدئة روع الأطفال، وفي بعض الحالات قدمنا نقودا، ولو قليلة، لمن يحتاج.
أسئلة كثيرة تجتاح قلبي: لماذا حتى الاآن لا يتم التعامل مع الفارين من الحرب في سوريا كلاجئين؟
لماذا هذا الإذلال للفلسطينيين على الحدود اللبنانية، ولماذا يفرض عليهم دفع مبلغ من المال لقاء الفيزا؟
يقول سلام .ن، وهو أحد الفلسطينيين النازحين من مخيم اليرموك «منذ أكثر من شهر ونصف، أسكن وعائلتي غرفة واحدة في مخيم برج البراجنة، 10 أشخاص ننام ونأكل في هذه الغرفة، صحيح أزمة وبتمرق، لكن يزعجني غيابي عن الجامعة، وعجزي عن العمل هنا، فالحياة هنا تفوق قدرة أهلي على العيش ولو بالحد الأدنى، والفلسطيني في لبنان يعيش وضعا أسوأ مما كنت أعتقد».
يتابع سلام «هذه ليس بيروت التي تربيت عليها، كذب علينا محمود درويش ومرسيل خليفة وأبي، عندما كان يتحدث عن بساطة أهل بيروت وكرمهم أثناء وجوده هنا خلال حصار بيروت».
أما والدته فتقول وهي تربت على ظهر حفيدها: «والله تبهدلنا يا خالتي هون، الحياة غالية وما في شغل، والفصائل ما كانت بالأساس مهتمة فينا باليرموك، فكيف هون؟ والاونروا مش مساوية شي للناس. قال أعطونا 65 دولار! شو بدهم يساووا؟».
الى مخيم شاتيلا حيث التقينا عائلة أخرى تسكن منزلاً مؤلفا من غرفة ومنتفعاتها. من لحظة دخولي الى المنزل أدركت ضخامة عدد السكان:
أكثر من 20 حذاء أمام الباب وعدد الأطفال يتعدّى العشرة.
بطيبة أهل المخيم يستقبلني الحاج ابو حسين، وهو مدرس متقاعد لمادة اللغة العربية. أبادره بالسؤال:كيفك حاج وكيف الصحة؟
بتثاقل ومرارة بادية على وجهه يقول «الحمد لله مستورة، وانشاء الله بتفرج».
كيف عايشين يا حاج؟
يبدو أن الرجل عاش فترة لا يستهان بها في لبنان ابان وجود الفدائيين، يقول «عريان متّكي على مسلخ! شو بدي أحكِ؟ في الأصل وضع الفلسطيني في لبنان سيئ، مخيمات لبنان لا تستطيع أن تحمل كلّ هذا الكم من النازحين، والدولة والاونروا حتّى هذه اللحظة لا تعترف بأننا لاجئين!». ثم يستطرد «أعرف أنّ الشعب اللبناني طيب، بس المشكلة بالتجربة المريرة اللي عاشها خلال العقود الفائته! الله يستر ما نطول هون»، يقول بقلق حقيقي.
خرجتُ من المخيم بذاكرة متناثرة ومصدوما من علاقة مشوهة تحتاج الى علاج بين الفلسطيني واللبناني، وسؤال بدأ يلح عليّ طيلة سيري الى المنزل «لماذا»؟.
ربما كان الجواب يرتبط بالتواصل الإنساني: لا نريد حقوقا في العمل وفي التعلم الخ... فقط تواصلاً إنسانياً قد يساعد على استبعاد تلك الأحكام المسبقة عن بعضنا.
الذاكرة تستدعي شمس بيروت، وحرب الفنادق، وخلده، وحصار بيروت والدم الواحد. الذاكرة الاآن تنكسر..
بيروت ما عادت خيمتنا الاخيرة. عذرا محمود درويش.
أكد أحد العاملين في مجال الإغاثة في مخيم اليرموك أن المعونات التي تدخل المخيم شحيحة ولا تكفي الصامدين بداخله والذين يقدر عددهم بحوالي50 ألف شخص، وقال ان هناك عودة محدودة للأهالي، كماعادت إليه منذ أيام خدمة الكهرباء بمعدل ثلاث ساعات كل ست ساعات في بعض الاحياء، وما زال النقص شديدا بالأدوية والأغذية وبمادتي المازوت والغاز. المصدر نفسه أكد أن الاتصالات جارية بين الفصائل وطرفي الصراع للنأي بالمخيم والسماح بعودة الحياة إلى طبيعتها فيه، ولكن «لا جديد تحت الشمس» حتى الآن.
المصدر: الأخبار