القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2024

مخيم اليرموك.. عاصمتنا المعنوية

مخيم اليرموك.. عاصمتنا المعنوية
 

بقلم: طارق حمود - استانبول

مع بداية الأحداث في سورية كانت المخيمات الفلسطينية هناك في صدر المشهد في درعا واللاذقية من خلال محاولة الزج في تحملها المسؤولية عما يحدث، ولم تكن الأبعاد الحقيقة للمشهد قد اتضحت لمن ألقى بالتهم جزافاً، واليوم تعود المخيمات لتصدر المشهد ثانيةً بعد أن سجلت مخيمات اليرموك وخان الشيح وخان دنون أروع الأمثلة في تسطير حكايات الإخوة مع الشعب السوري، احتضنت المخيمات الأشقاء في البيوت والمدارس والمساجد وكان الدور الذي لعبته المخيمات فيما يجري في سورية أكبر من أن تصفه كلمات، وفي هذا المقال لنا وقفة مع مخيم اليرموك برمزيته دون أن نبخس مخيماتنا الباقية حقها فيما قدمت وتقدم إلى اليوم سواء بعطائها للشعب السوري، أو بتحملها عبء الأحداث مشاركةً لحال الأشقاء. مخيم اليرموك ومنذ سنوات طويلة كان حاضراً بقوة في صورة المشهد الفلسطيني سواء بما قدمه من شهداء، أو بما قدمه من نخب على كل المستويات السياسية والفكرية والأدبية والفنية.. وكان المكان الأكثر حيوية لممارسة كافة أشكال العمل الوطني، والقائد الفلسطيني الذي لم تُكتب له الحياة في مخيم اليرموك فقد من تاريخه النضالي ما فقد، فقد كُتب لليرموك أن يضم بين جنباته مقرات العمل الوطني القيادية الأبرز للفصائل الفلسطينية، وأنتج منها طوال عمر الثورة ما جعل من قادة الاحتلال يتوعدوه بالاسم، وقُدر لمخيم اليرموك أن يضم القادة الشهداء فضلاً عن الأحياء، فخليل الوزير وفتحي الشقاقي ومحمود المبحوح رقدوا في مقبرة شهدائه بعد أن نالت منهم يد الغدر بعيداً عن أرضه، لكن العالم برحابته ضاق أن يضم جثمان شهيد فيما اتسع اليرموك للآلاف منهم، وفي تعبيراته الصارخة تلك يمثل اليرموك وطناً على طريق الوطن، وهي التعبيرات التي ما فتئ اليرموك يطلقها إلى يومنا هذا، ففي هذه الأيام كان اليرموك أوسع من دولٍ أوصدت الباب في وجه أشقاء الأمس واليوم والغد، وكان أرحم من دولٍ صاغت إنسانيتها وفقاً لمعايير الموقف السياسي، استقبل اليرموك آلافاً وآلافاً من النازحين السوريين احتضنهم في جنباته وباتوا في كل بيتٍ ومسجدٍ ومدرسةٍ، فتح اليرموك ذراعيه ككل المخيمات التي كُتب عليها أن تقف مع العز وقفة، لم تضق مساحاته بهم رغم صغر المكان، ولم تنفد مؤونته رغم شحها لأنها ببركة الإخاء امتزجت، ما قدمه مخيم اليرموك اليوم يشبه ما قدمته مخيماتٌ أخرى مثل خان الشيح وخان دنون، وهو يعكس لنا مع المخيمات الأخرى حقيقة فلسطين ووجه الفلسطيني الحقيقي، فالمخيم ككيان معنوي يدفع فاتورته باسم الجميع ومن أجل الجميع للقيام بواجبنا جميعاً.

إن المكانة السياسية والتاريخية النضالية لمخيم اليرموك تعفينا في كثير من الأحيان من شرح طويل فيمن نكون، وأعفتنا اليوم من بعض ما أُثقلت به نفوسنا ونحن نترقب المشهد السوري، إلا أن كل ما تقدم قد لا يبدو جديداً ولا غريباً عن مخيم قدم ما قدم عبر تاريخه الطويل، ولكن الملفت في تجربة اليرموك أمور إجرائية نختصرها بجانبين:

• القدرة التنظيمية الفائقة والتي ابتدأت عفويةً من شباب المخيم، التي تبلورت مع وصول الدفعات الأولى للأشقاء النازحين إلى المخيم، لم تكن مئات العائلات تحتاج لأكثر من ساعتين لتجهيز وتنظيم مراكز الإيواء والإعلان عنها، وفي هذه النقطة ربما يستفيد الفلسطينيون جميعاً في مختلف المخيمات من خبرات كثيرة ووفيرة في مجال العمل الأهلي والذي بات اليرموك عاصمته بلا منازع لا على مستوى المخيمات وإنما على مستوى البلد بأكمله.

• النقطة الثانية هي المتابعة الإعلامية الحثيثة من خلال بعض صفحات التواصل الاجتماعي على الفيس بوك، فلم يكن أي خبر في أي مكان في المخيم يحتاج لأكثر من ثوانٍ معدودة ليقتحم أرجاء المخيم، ويتجاوزه أيضاً، كان مغتربو المخيم خارج البلد عبر بعض الصفحات وكأنهم يعيشون الحدث تماماً في ساحة "أبو حشيش" و شارع "لوبية"، لحظة بلحظة، وكانت نداءات التبرع والإغاثة عبر هذه الصفحات والتوجيه إلى أماكنها في غاية الأهمية.

النقطتان السابقتان لعبتا دوراً مميزاً في الفعل على الأرض من جهة وفي نقل الصورة المضيئة من جهة، إذ كانت صورة محفزة للغاية لدى كل المخيمات التي استعدت لاستقبال ضيوفها، فقدم مخيم خان الشيح صورة لا تقل روعة عن مثيلتها في اليرموك، وقد مخيم خان دنون ما رسخ هذا المشهد أيضاً، ولم تكن المدارس والمساجد مراكزاً للإيواء إلا بعد اتخام البيوت بالضيوف، فنظرة أهل المخيم لم تعكس نظرة تعامل مجرد مع أزمة بقدر ما تعاملت معها كأزمة تتطلب لإدارتها المبدأ قبل كل شيء، نظرة "العيب" لدى أهلنا في ذهاب النازحين للمساجد والمدارس وهناك بيوت لم تستقبل عائلات كانت من صور التجسيد للمصير الواحد مع الشعب الذي عشنا همه وظرفه وجرحه يوماً بيوم.

ربما لم يكتب لتجارب اللجوء أن ترد دينها لمضيفيها قبل عودتهم، لكن المخيمات الفلسطينية كتبت جزءاً من هذا الوفاء قبل أن تعود، ونستذكر مخيمات لبنان التي استقبلت أهل لبنان في بيوتها أثناء حرب تموز 2006 وها هي مخيمات سورية تقوم بما أوجبه التاريخ فينا، فقبل اليرموك كان مخيم درعا وحمص وحماة واللاذقية، وكتبت مخيمات مثل النيرب والحسينية والسبينة لم تحظ بشرف ضيافة السوريين الأشقاء مشاهد أخرى من قصة الإخوة مع الشعب السوري.

مخيم اليرموك حالة معيارية لدى اللاجئين الفلسطينيين وليس مجرد مخيم كبير، مخيم اليرموك بات أحد معالم الوطن المعنوي للفلسطينيين في سورية، والتعامل مع هذا المخيم هو تعامل سكان أي مجتمع مع العاصمة، لا غنى للناس عن العاصمة مهما بلغت إمكانياتهم، ولا غنى للنظام السياسي عن العاصمة أيضاً، ومعيار أي مشهد هو العاصمة واليرموك عاصمتنا.

المصدر: مجلة العودة العدد التاسع والخمسون