مخيم
اليرموك... عام على الحصار؟!
بقلم:
ماهر شاويش
فتات الطعام أصبح حلماً، وأصيب الأطفال بحالات
سوء التغذية، وتوفي بعضهم من قلة الغذاء والدواء،وحمى التيفوئيد وباء جديد بعد فقر
الدم ومرض السل ، فبات مخيم اليرموك جنوب العاصمة السورية دمشق نموذجاً للحصار
الجائر، إلى جانب القصف شبه اليومي لتحقيق عقاب جماعي.
نقف اليوم على أعتاب بداية العام الثاني من حصار
كسر كل المفاهيم والمبادئ، وحتى الموروث الشعبي ليموت الإنسان الفلسطيني اللاجئ
جوعاً بعد أن كنا نسمع من آبائنا وأجدادنا أن لا أحد يموت من الجوع، لكن أكثر من
150 لاجئاً فلسطينياً ماتوا جوعاً بعد أن قضى أكثر من 2300 منهم قتلاً، وتشرد أكثر
من ربع مليون فلسطيني داخل سورية وخارجها، ما جعل العديد من المؤسسات تصف ذلك بأنه
كارثة إنسانية غير مسبوقة.
حصار. كلمة قد لا تعني الكثير، إن لم تُرفَق
بالشروحات التفصيلية لواقع الحياة اليومية للآلاف من النساء والأطفال وكبار السن.
ما
قبل الحصار
بدأت أولى ملامح حصار المخيم بتاريخ 26/12/2012،
أي بعد ما سمي آنذاك "ضربة الميغ"، حيث قصفت قوات النظام السوري لأول
مرة عدة مواقع مدنية في مخيم اليرموك بطائرات الميغ الحربية، ما أدى إلى سقوط
العشرات ما بين شهداء ومصابين، حيث إن القصف استهدف عدة مراكز لإيواء النازحين،
منها: جامع عبد القادر الحسيني ومدرسة الفلوجة في شارع المدارس، وكان أغلب من
سقطوا في تلك المجزرة من نازحي منطقة التضامن والحجر الأسود الذين كانوا قد هربوا
من مناطقهم نتيجة قصف قوات النظام لها. وتوالت الشائعات بعد تلك الضربة، وخاصة بعد
دخول عناصر من الجيش السوري الحر إلى المخيم، ما أدى إلى نزوح عشرات الآلاف من
سكان المخيم إلى خارجه، واشتدت بعد ذلك قبضة النظام الأمنية وقصفه المركَّز على
المخيم، وبدأ بنشر الحواجز على طول الطرق المؤدية إلى المخيم، فمنع أية مواد
إغاثية أو طبية من الدخول إلى المخيم.
الحصار
الفعلي
لم تكن الفترة الزمنية طويلة ما بين ملامح بداية
حصار مخيم اليرموك والإجراءات الفعلية التي بدأت من أجل معاقبة جميع سكان المنطقة
من قبل قوات النظام. فبعد تاريخ 26/12/2012 بدأ جيش النظام بإحكام الخناق على جميع
مداخل مخيم اليرموك.
وبعد ذلك التاريخ منعت قوات النظام إدخال أي شيء
إلى المخيم، ولكن لم يتأثّر سكان المخيم بهذا المنع مباشرة، ذلك أن المخيم كان
يحتفظ بكميات لا بأس بها من مادة الطحين على سبيل المثال، والعديد من المواد
الغذائية الأخرى، وكان الحاجز العسكري التابع للجيش النظامي يمنع إدخال أكثر من
"ربطة" خبز. فإدخال حتى ربطة الخبز حكر على النساء والرجال المسنين. ولم
تمرّ فترة طويلة، حتى مُنع إدخال مادة الخبز بنحو نهائي في بداية شهر شباط 2013
وكان يُسمح فقط بإدخال القليل من المواد الأساسية جداً من مثل القليل من مادة
الأرزّ أو السكر أو البقوليات، ونتيجة لذلك فقد ارتفعت الأسعار ضمن المخيم إلى
أضعاف مضاعفة، وشهد الوضع الإنساني تدهوراً شديداً، شكل لاحقاً سبباً رئيسياً في
كارثة إنسانية يعيشها المخيم الآن.
أمّا النزوح الثاني، فكان في شهر حزيران 2013حيث
نزح أيضاً عشرات الآلاف من السكان، ويبلغ عدد السكان الحاليين ما بين 18 و 20 ألف
نسمة.
مراحل
الحصار
مرّ
الحصار على المخيم بعدة مراحل، فبعد أن كان هنالك بعض "التدقيق" من قبل
الحاجز التابع للجيش السوري النظامي، الذي وضعه النظام في نهاية شهر كانون الثاني
2012، أصبح الحصار أكثر صعوبة، وخاصة بعد أن خضع الحاجز خضوعاً شبه كلي للجان
الشعبية التابعة لأحمد جبريل، وبدأ الحصار يشتدّ أكثر على المخيم، مُنع إدخال
المواد الغذائية إلّا بكميات قليلة جداً، ولم يقتصر على أنه لا يُسمح بإدخال أكثر
من ربطة خبز واحدة للعائلة الواحدة، بل تعداه ليمنع دخول أكثر من نصف كيلو من
الخُضروات مثل البندورة أو الخيار والبصل. ومنذ بداية تموز 2013، وتحديداً في 5
رمضان الفائت، أُغلقت المنطقة الجنوبية بنحو كامل، وأُغلقت جميع المداخل والمخارج
عن المناطق الجنوبية جميعها، وهي: ببيلا، يلدا، حجيرة، القدم، عسالي التضامن،
الحجر الأسود، البويضة، مخيم الحسينية،والسبينة ، بالإضافة إلى مخيم اليرموك نفسه.
اضطر
المواطنون المحاصرون إلى تقليص عدد وجبات الطعام من ثلاث وجبات إلى وجبة واحدة فقط
لعدم توافر الطعام الكافي، وحيث إنه لا يوجد أي كميات من مادة الطحين، عمد الكثير
من الأهالي إلى صنع مادة الخبز من العدس مثلاً أو البرغل، وسُجِّل أكثر من حالة
جفاف وسوء تغذية وسوء امتصاص، وجميع أصحاب هذه الحالات هم من الأطفال والنساء،
وذلك نتيجة انعدام الطعام الكافي، وخاصة بعد فقدان مادة حليب الأطفال بنحو كامل.
وأمّا بالنسبة إلى الخدمات الأخرى، مثل الكهرباء والاتصالات، فهي شبه مقطوعة، وما
زال المواطنون الباقون في المخيم، إضافة إلى المشافي، يعتمدون على المولدات
الكهربائية التي تستهلك الكثير من الوقود الذي نفد معظمه.
تدمير
ممنهج
يعيش
مخيم اليرموك حصاراً منذ عام، من قبل قوات النظام أولاً، والجبهة الشعبية بقيادة
أحمد جبريل ، وبقايا تنظيم فتح الإنتفاضة ثانياً، حيث أغلقوا جميع مداخل مخيم
اليرموك ومخارجه، وبالتحديد مُنع دخول أي نوع من المواد الغذائية أو الطحين، أو
حتى المواد المعيشية البسيطة، "أي مستلزمات الحياة". كل هذه المعاناة
تحصل تحت سياسة قصف ممنهج واضحة ظهرت آثارها جليّة على حجم الدمار الذي طاول منازل
المخيم ومساجده ومشافيه ومعظم بناه التحتية. ولعل معظم الصور التي ظهرت على وسائل
الإعلام تدلّ بما لا يدع مجالاً للشك على سياسة التدمير التي اتبعت واستخدم عبرها
العديد من الأساليب والوسائط التدميرية من وسائل القتال المدمرة كالمدفعية
والطيران والسيارات المفخخة، وغيرها الكثير.
الحصار
الطبي والدوائي
يمكن
اعتبار الحصار الذي فُرض على مخيم اليرموك من الناحية الطبية، من أشرس وأقسى ما
شهدته المناطق السورية، وخاصة من ناحية منع دخول الأطباء، حيث اعتُقل العديد من
الأطباء على الحواجز المؤدية إلى المخيم، ويمكن القول إنه قبل حدوث "ضربة
الميغ"، كان هنالك العشرات من الأطباء من جميع الاختصاصات، إضافة إلى عشرات
الممرضين والمسعفين. لكن بعد "ضربة الميغ"، غادرت جميع الكوادر الطبية،
حتى أمسى المخيم مقتصراً على طبيب جراحة عامة واحد و11 مسعفاً ميدانياً كانوا في
مراحلهم الأولى من التدريب، حيث غادرت الكوادر مشفى الباسل الذي تاثر مباشرةً
بالضربة العسكرية، وغادرت الكوادر أيضاً مشفى فلسطين ومشفى الهلال الأحمر، ووصلت
الحالة الطبية لأسوأ أوضاعها بعد تاريخ 10/1/2013.
ولم
يكن الاعتقال السبب الوحيد في خوف الأطباء من الدخول إلى المخيم ومحاولة مساعدة
الجرحى والمصابين، فقد كان القصف العشوائي سبباً في فقد العديد من المسعفين
والأطباء الذين استشهدوا جراء ذلك.
هذا
النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية الأولية، كان سبباً في وفاة الكثير من
الحالات التي كان بالإمكان إنقاذها.
وكانت
الإصابات تتفاقم كثيراً نتيجة لانعدام وسائل العلاج، وقد شهد المخيم عشرات الحالات
لأناس مصابين استشهدوا متأثرين بجراحهم، حتى إن النقاط الطبية والمشافي الرئيسية
كانت تفتقر إلى أبسط المواد المعقَّمة.
مع
بدء الحصار والقصف العشوائي، تدهور الوضع الطبي بنحو أكثر خطورة، وخاصة بعد
استهداف المشافي الرئيسية الموجودة في المخيم، مثل مشفى فلسطين ومشفى الباسل الذي
تأثر مباشرةً بفعل "ضربة الميغ"، ومشفى الشهيد فايز حلاوة الذي تعرض
للقصف أكثر من أربع مرات، حيث سقط على المشفى العديد من القذائف دمّرته تدميراً
كاملاً.
أمّا
في ما يتعلق بالتجهيزات والمواد الطبية، وخاصة المواد الإسعافية، فإنها شبه
معدومة. فعلى سبيل المثال، وصلت الأمور إلى لحظة لم يكن هنالك إلا سيارة إسعاف
واحدة غير مجهزة طبياً، وهي عبارة عن سيارة "فان" تحتوي على سرير لا
غير. والمشفى الوحيد الباقي في المخيم يعاني نقصاً شديداً وحاداً في كافة
التجهيزات والمواد الطبية الأساسية لعلاج الجرحى والمصابين مثل البلاستر والشاش
وأكياس الدم.
وإضافة
إلى المعاناة في نقص الأجهزة الطبية، هنالك ندرة في الأدوية الأساسية وغير
الأساسية على حد سواء. فمادة الكحول مادة شبه مفقودة، و"البوفيدون" مادة
تعقيم الجروح أيضاً، وأدوية الالتهاب والمضادات الحيوية عموماً مفقودة، والمسكنات
بأنواعها في طريقها إلى الانتهاء. وأيضاً هنالك نقص في مضادات الوزمة وخافضات
الحرارة، وهنالك نقص شديد في السيرومات الملحية والفيتامينات والمتممات الغذائية
الخاصة بحالات ما بعد الولادة.
وهنالك
موضوع مهمّ جداً، وخاصة في ما يتعلق بالكسور العظيمة، حيث لا يوجد في المخيم طبيب
جراحة عظمية، ولا مركز تصوير أشعة، ولا توجد مواد لتثبيت الكسور وجبرها، وهنالك
عشرات الحالات المصابة بكسور مختلفة لم يتماثل أصحابها للشفاء بسبب عدم وجود
الطبيب أو المواد التي تساعد في تثبيت الكسر، وخاصة مَن يعاني تفتتاً في العظم.
وبعد
انسحاب المراكز الطبية التابعة للأونروا من المخيم، وجد العشرات من المصابين
بالأمراض المزمنة أنفسهم في مواجهة الموت، وخاصة فقر الدم، التلاسيميا، الضغط،
السكري ومرضى القلب. وإضافة إلى ذلك، انتشرت ظاهرة انعدام الحليب عند الأمهات بسبب
نقص التغذية عن الأم نفسها، وقد استقبل مشفى فلسطين أكثر من حالة من هذا النوع.
هذا
غيض من فيض، وباختصار فإنّ مخيم اليرموك مهدد بكارثة إنسانية كبيرة ما لم تدخل
المواد الغذائية والدوائية إليه وما لم يرفع الحصار عنه بنحو كامل، ولا يكون ذلك
إلا بعودة دخول السكان وخروجهم.