مخيم اليرموك والحياد الممنوع
بقلم: عبد الباري عطوان
وضع الفلسطينيين، اللاجئون منهم وغير اللاجئين، في الدول العربية وضع لا يحسدون عليه، وغالبا ما يدفعون ثمنا غاليا من دمائهم واستقرارهم في حال حدوث اضطرابات او غزو اجنبي او ثورات ربيع عربي. فهناك دائما من يريدهم كبش فداء، ويلصق بهم التهم من اجل الانتقام منهم، لأسباب طائفية او سياسية.
في الكويت تعرضوا للاضطهاد من قبل السلطات وميليشياتها بعد اخراج القوات العراقية على ايدي القوات الامريكية، وجرى ابعاد ما يقرب من 400 الف فلسطيني بتهمة التواطؤ مع النظام العراقي، وجرى التعتيم المتعمد على العديد من الفلسطينيين الذين قاتلوا مع المقاومة الكويتية وقُتلوا، ولم يكرّم هؤلاء مطلقا من قبل السلطات الكويتية حتى هذه اللحظة.بل لا نبالغ اذا قلنا ان من بين الاشخاص الرئيسيين الذين كانوا يدربون ما سميت في حينها بالمقاومة الكويتية ضابطا في حركة 'فتح' اسمه السكسك، وقد قابلته شخصيا في تونس، وعندما حاول الرئيس ياسر عرفات تهريبه بسيارة السفير الفلسطيني الدبلوماسية من الكويت الى طائرة الرئاسة ومن ثم الى تونس، فوجئ الرئيس الفلسطيني ،وهو يوشك ان يستقل الطائرة نفسها، بالرئيس العراقي الذي كان في وداعه يقول له: 'يا ابا عمار انت غال جدا علي وعلى العراق العظيم وكذلك القضية المركزية العربية الاولى، ولو قلت لي انك تريد السكسك لأوصلته لك الى تونس بكل احترام'، ففهم الرئيس عرفات الرسالة!
في العراق نفسه، وبعد نجاح القوات الامريكية الغازية في اطاحة النظام العراقي عام 2003، قامت ميليشيات طائفية حاقدة بعمليات انتقام من الجالية الفلسطينية بتهمة تأييد حزب البعث، وتعرض العشرات، وهناك من يقول المئات، للخطف والقتل والتعذيب، مما دفع الكثيرين للهروب الى الصحراء قرب الحدود الاردنية (مخيم الرويشد) ليعيشوا بين الثعابين والعقارب الى ان انتهى الحال بهم وعائلاتهم في البرازيل او ايسلندا.
لا نريد هنا الحديث عن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ونفتح جروح مجازر صبرا وشاتيلا وتل الزعتر ونهر البارد، فهي لم تلتئم حتى هذه اللحظة، تجنبا للتكرار، ولكننا نود الحديث عن الحلقة الاخيرة في هذا المسلسل الدموي المزعج المتمثل في مخيم اليرموك في العاصمة السورية دمشق.
بداية لا بدّ من التأكيد بأننا نرفض كل انواع التمييز بين ابناء المخيمات والشعب العربي الحاضن لهم، كما اننا لا يمكن ان نطالب بمعاملة خاصة لهؤلاء لانهم فلسطينيون، ولكننا لا نتردد في الاشارة الى الظروف الخاصة التي تفرض التمييز بين هؤلاء ونظرائهم السوريين واللبنانيين والعراقيين والكويتيين (اثناء الغزو العراقي).
فعندما يلجأ هؤلاء الى دول الجوار مثل الاردن والعراق ولبنان (مثلما هو حال السوريين حاليا)، يجدون الحدود مفتوحة على مصراعيها امامهم، والشيء نفسه يقال ايضا عن العراقيين الذين وصل تعدادهم الى فوق المليوني لاجئ في سورية والاردن في ذروة العنف الطائفي عام 2007. ولا ننسى ان نشير الى تدفق نصف مليون كويتي الى المملكة العربية السعودية ودول الخليج الاخرى صيف عام 1990 هربا من الغزو العراقي في حينها. اما الفلسطيني فيجد صدودا وحدودا مغلقة في وجهه في معظم الاحيان، وكان لبنان الكريم المضياف هو الاستثناء في موجة النزوح الفلسطيني الاخيرة من سورية.
الفلسطينيون ليسوا جميعا ملائكة، وكذلك العرب الآخرون، فالقتال في العراق كان ولا يزال بين عراقيين، والقتال الحالي في سورية هو بين سوريين، بعضهم مع النظام وبعضهم الآخر ضده، والحال نفسه في الجزائر وليبيا قبل ذلك.
مخيم اليرموك بات احدى البوابات الرئيسية لاقتحام دمشق من قبل قوات المعارضة المسلحة، والدفاع عنها من قبل القوات السورية، ولذلك بات من الصعب ان يظل بعيدا عن هذا الصراع الدموي المشتعل حاليا منذ 22 شهرا دون ان يحسم لمصلحة هذا الطرف او ذاك.
من الطبيعي ان تنعكس الأزمة السورية الحالية على الفلسطينيين بأشكالها الدموية كافة، ومن الطبيعي ايضا ان ينقسم الفلسطينيون فيما بينهم تماما مثلما انقسم نظراؤهم السوريون، فهناك من الفلسطينيين من يؤيد النظام في دمشق، ومن بين هؤلاء فصائل مقاتلة حظيت دائما بدعمه ومساندته، لانها وقفت في خندقه في ذروة خلافه مع منظمة التحرير وقيادتها، وهناك من الفلسطينيين من وقف في خندق المعارضة السورية، والاسلامية منها على وجه الخصوص، وشكلوا فصائل اقرب الى كتيبة النصرة والجماعات الجهادية الاخرى، مثل لواء زهرة المدائن، ولواء العهدة العمرية، ونفذوا عمليات تفجيرية ضد اهداف امنية للنظام.
لكن الأغلبية الساحقة من ابناء مخيم اليرموك، والمخيمات الفلسطينية الاخرى في سورية، يفضلون البقاء على الحياد، ويقدرون للشعب السوري وسلطاته المتعاقبة المعاملة الطيبة التي وصلت الى درجة المساواة في كل شيء مع مضيفهم السوري، باستثناء رئاسة الجمهورية، وهؤلاء المحايدون يريدون ان يظلوا بعيدا عن الصراع، وان لا يطالهم القصف الجوي الرسمي الذي استهدف مخيمهم لملاحقة المتسللين المسلحين الذين لجأوا اليه، واستخدموه كقاعدة للقيام بعملياتهم ضد النظام ومؤسساته.
اكثر من مئة الــــف من ابــــناء المخـــيم غـــــادروه هربا من القــصـف ومن المواجهات الدموية بين النظام ومعارضيه المسلحين، وهؤلاء باتوا ممنوعين من العودة الى بيوتهم البائسة بعد ان ضاقوا ذرعا من البقاء في العراء لأشهر في مواجهة البرد والجوع.
وكالة غوث اللاجئين التي تتولى اغاثة اهل المخيم منذ نكبة فلسطين لا تستطيع اقامة مخيمات لجوء جديدة لهم، ولا حتى لاشقائهم السوريين الذين يعيشون وضعا ربما اكثر سوءا، ولذلك العودة الى المخيم هي الحل الوحيد، فلماذا لا يتم اتفاق بين السلطة والمعارضة على احترام حيادية المخيم؟
نشعر بالحنق والغضب عندما نسمع اصواتا في الغرب تطالب دولا عربية، بل وحتى سلطة حماس في قطاع غزة باستيعاب هؤلاء، ولا يطالبون اسرائيل التي تقف خلف جريمة لجوء هؤلاء قبل اكثر من ستين عاما.
عار على بان كي مون امين عام الامم المتحدة ان يلوم السلطتين في رام الله وغزة على عدم عمل شيء لهؤلاء، ولا يوجه كلمة لوم واحدة لاسرائيل.
نعم.. الفلسطينيون جزء من المجتمع السوري، ويجب ان ينحازوا الى الشعب السوري، ولكن الى اي فريق ينحازون من هذا الشعب في ظل الانقسام الحالي المرعب الذي يلبس اثوابا طائفية في كثير من الاحيان؟
نعترف انها قضية معقدة، لا تقل تعقيدا عن القضية الفلسطينية الأم، ونريد لفت الانظار، انظار الجميع، داخل سورية وخارجها، لمأساة ابناء مخيم اليرموك بسبب خصوصيتها، وتفهم وضعهم الحساس في محيط متفجر.
لا نتردد لحظة، وفي ظل استمرار هذه المحارق الفلسطينية التي سببتها اسرائيل للفلسطينيين، داخل فلسطين وخارجها، داخلها من خلال عدوانها المتواصل على اهلنا في غزة والضفة، وفي الخارج بتشريد ستة ملايين فلسطيني في مخيمات اللجوء والمنافي، بالدعوة الى ان يتوجه جميع ابناء المخيمات في لبنان وسورية والاردن في مسيرات نحو حدود فلسطين في محاولة لاقتحامها، واذا عجزوا فليقيموا مخيماتهم هناك لتذكير العالم، والعرب على وجه الخصوص، بالسبب الحقيقي لمأساتهم وحالة الظلم وعدم الاستقرار في المنطقة.
المصدر: القدس العربي، لندن