علي بدوان
لم تتوقف دراما النكبة الفلسطينية عند شهر أيار/مايو
من العام 1948 عندما أُعلنَ عن قيام الدولة العبرية الصهيونية على أنقاض الكيان الوطني
والقومي للشعب العربي الفلسطيني، فيما تحوّلت غالبية سكان ومواطني فلسطين إلى لاجئين
في دياسبورا المنافي والشتات، وفي الداخل المتبقي من أرض فلسطين التاريخية في الضفة
الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية.
دراما النكبة، إستكملت فصولها المتتالية بنكباتٍ
لاحقة أصابت عموم الفلسطينيين، كان أخرها ماوقع ويقع الآن بحق اللاجئين الفلسطينيين
في سورية بعد تغريبتهم الجديدة التي خرجوا فيها من مخيم اليرموك ومن بعض المخيمات والتجمعات
الفلسطينية في سورية إلى مواقع شتات جديدة داخل سورية وحتى خارجها.
سورية التي إحتضنت جزءاً من لاجئي الشعب العربي
الفلسطيني منذ العام 1948، تبقى هي سورية، بشعبها وأرضها، وفية لقضية فلسطين، ولحق
العودة لكل فلسطيني عاش فوق أرضها مهجّراً أو لاجئاً من وطنه فلسطين الى القسم الأخر
من وطنه الشامي الكبير. فأسرتي الصغيرة وصلت إلى سوريا نهاية الشهر السابع من العام
1948 من مدينة حيفا، التي غادرتها تحت وطأة الغزو الإستعماري الكولونيالي الصهيوني،
فتركت بيتها الحجري الحديث في حينها، والواقع في شارع الناصرة في قلب مدينة حيفا، لتركب
سفن اللجوء والتغريبة الفلسطينية القاسية بإتجاه لبنان ومن ثم لسورية.
في دمشق، وفي حي الشاغور الدمشقي العريق في قدمه،
وفي جامع الصابونية التاريخي والواقع قرب (باب الجابية) في دمشق القديمة، وجدت عدة
عائلات حيفاوية لاجئة إلى سوريا مأوى جديد في هذا الجامع بإنتظار الفرج الموعود بإتجاه
العودة لفلسطين.
في جامع الصابونية المقام منذ أوائل العهد العثماني،
والقريب من سوق الحميدية الشهير في دمشق، كانت بداية التغريبة الفلسطينية الأولى لعائلتي
ولعشرات العائلات الفلسطينية الحيفاوية وغير الحيفاوية في رحلة اللجوء الدمشقي المؤقت.
أقامت في جامع الصابونية عدة عشرات من العائلات الحيفاوية تفصل بطانية بين كل عائلة
وعائلة، من العام 1948 وحتى العام 1954، عندما غادرت تلك العائلات جامع الصابونية بإتجاه
مخيم اليرموك الذي باتت من حينها موئلاً لآلاف اللاجئين الفلسطينيين، على أرض بعض البساتين
التابعة لحي الشاغور الدمشقي بعد دفع أثمانها الكاملة كأراضٍ عقارية، ونسبة 15% منها
اشترتها الهيئة العامة للاجئين، وصولاً لخريطتها العقارية عام 2004. وإلى الجانب القريب
من تلك المنطقة ووسط أحياء دمشق القديمة في حي الأمين والميدان والقيمرية والعماره
وسوق المناخلية وشارع الملك فيصل، والحلوانية، والديوانية ... كانت عشرات الأسر الفلسطينية
القادمة من مدن شمال فلسطين تقيم في تلك الأحياء مؤقتاً على أمل العودة السريعة لفلسطين.
إذاً، في جامع الصابونية المقام منذ أوائل العهد
العثماني، والقريب من سوق الحميدية الشهير في دمشق، كانت بداية التغريبة الفلسطينية
الأولى لعائلتي ولعشرات العائلات الفلسطينية الحيفاوية وغير الحيفاوية في رحلة اللجوء
الدمشقي المؤقتة، في حواري الشام وأزقتها وعموم حاراتها الضاربة في عمق تاريخها، بلد
الفقير والغني. وفي تلك الحارات الدمشقية القديمة، عشنا سوياً مع إخوتنا الدمشقيين
وعموم السوريين في نسيجٍ واحد، لم يكن ليخدشه أحد، فأصبح فلسطينيو سوريا هم كذلك سوريو
فلسطين، وليس عجباً أن نرى بأن أروع ما كتب من مسلسلات درامية تتعلق بالحياة الدمشقية
كمسلسل (أيام شامية) كتبها كُتاب فلسطينيون عاشوا بدمشق منذ تغريبة اللجوء الفلسطينية
الأولى عام 1948، كالكاتب (أكرم شريم) صاحب مسلسل (أيام شامية) بحلقاته الطويلة التي
تحكي سيرة أهل دمشق والدمشقيين. فالكاتب الفلسطيني أكرم شريم من مواليد مدينة يافا
في فلسطين المحتلة، وقد لجأت أُسرته منها إلى دمشق عام النكبة وهو طفل صغير، فعاش حياته
في حي العمارة والقيمرية الدمشقي وقد تَشَرَبَّ روح الشام ونكهتها وعراقة تاريخها ومجدها،
فأمسى دمشقياً أكثر من الدمشقيين، وفلسطينياً مخلصاً لوطنه ولمدينته يافا عروس البحر
البيض المتوسط. كذلك الكاتب الفلسطيني حسن سامي اليوسف، والسيناريوست عثمان السعدي،
والشاعر صالح هواري، والشاعر فواز عيد وغيرهم، فيما صدحت حنجرة الشاعر يوسف الخطيب
من دمشق بأروع القصائد الوطنية.
في جامع الصابونية الدمشقي القديم في حي الشاغور
الدمشقي، هناك حكايات تاريخ عريق وأصالة، ومجد، وأسطورة. وهناك تاريخ وحكايات ومشاهد
ووقائع ودلائل نكبة وتغريبة فلسطينية كانت هي التغريبة الأولى في سفر التيه الفلسطيني.
فلو قيض لجدران وأسقف جامع الصابونية أن تتكلم لنطقت بسيرة التيه الفلسطيني، وبسيرة
الأحبة من ابناء فلسطين الذين أقاموا عدة سنوات في هذا الجامع قبل الإزدلاف نحو منطقة
واسعة من بساتين الشاغور بات أسمها مخيم اليرموك.