مخيم شاتيلا.. التراجيديا الفلسطينية
بقلم: ياسر علي
من يقرأ تاريخ ومراحل تشكّل مخيم شاتيلا، يدرك أن هذا المخيم الصغير كان نصيبه
كبيراً في «التراجيديا» الفلسطينية، ولا أقول «التغريبة»، فهذا المخيم تحديداً تخطى
مستويات التغريبة إلى التراجيديا!
من مخيم صغير غير معترف به، شاءت الأقدار أن يكون أقرب مخيمات اللاجئين إلى
بيروت، فكان بوابة حزام البؤس من جهته الجنوبية، يفرغ نهاراً حين ينطلق كل صباح العمال
الفلسطينيين المياومين، ثم يمتلئ ليلاً..
عاش المخيم المضايقات من كل الجهات، واحتاج أهله إلى تراخيص لكي يتنقلوا وكي
يحسّنوا بيوتهم وكي يعملوا وكي يزوروا الأقارب.. ثم جاءت المرحلة الثانية فإذا بأبنائه
يشاركون مع الثورة الفلسطينية في نضالها في الستينات والسبعينات، وتشاء الأقدار أن
تكون بوسطة عين الرمانة عائدة من تشييع شهيد في شاتيلا، واعتدى عليها اليمين اللبناني
فكانت الشرارة التي أشعلت الحرب اللبنانية. وتعرض المخيم لعدة نوبات قصف عشوائي في
أثناء الحرب أدّت إلى مقتل العديد من أبنائه.
نال المخيم حصته الكبرى في المجزرة الأشهر والأكبر في تاريخ الحرب العربية الصهيونية،
وكانت المجزرة التي فضحت الكيان الصهيوني بشكل صارخ، ولم تستطع حتى البي بي سي أن تجد
صهيونياً بريطانياً واحداً يدافع في برنامج إذاعي عن وجهة النظر الصهيونية، فاستضافوا
يومها أمريكياً.
وقد عاش المخيم، نكبات أخرى بعد المجزرة، من اعتقالات رجاله على يد السلطة اللبنانية
عام 1983، ونشوب حرب المخيمات ثم الحرب الداخلية التي راح ضحيتهما 587 شهيداً داخل
المخيم، فضلاً عن الشهداء الذي سقطوا خارجه.
واليوم، يعيش أبناء هذا المخيم، الأحوال الضيقة ذاتها التي يعيشها أبناء الشعب
الفلسطيني في لبنان. في كل عام تتسابق الوفود والشخصيات الرسمية اللبنانية والأجنبية
لزيارة مقبرة شهداء صبرا وشاتيلا، ثم يعود الوضع إلى ما كان عليه، حرمان من العمل والتملك
والبناء و.. و.. الشكوى لغير الله مذلة!
* * *
بالإضافة إلى الشهادات الميدانية لا بد من التعريج بشكل سريع على الرؤية القانونية
والدولية لما جرى باختصار، والنتائج المترتبة عليها، حيث أن المجزرة لم تنته فصولها
بعد، حتى لو مات شارون.
فهَرَباً من تحقيقات لجنة دولية، شكل الكيان الصهيوني لجنة كاهان (1982)، مباشرة
بعد مجزرة صبرا وشاتيلا (أول مجزرة مُتلفزة). نتج عن هذه اللجنة إزالة التهمة عن الجيش
الصهيوني، و«تنظيف الدولة من إرهابها»، وكانت العقوبة القصوى هي تحميل شارون جزءاً
من المسؤولية، وسُحبت منه حقيبة وزارة الدفاع، وعاد وزيراً للبنى التحتية، ثم أصبح
رئيساً للوزراء لاحقاً.
كما برأ المجتمعُ الصهيوني نفسه (وضميره) بمظاهرة ضخمة في تل أبيب، وعادوا من
التظاهرة كمن اغتسلوا من الذنب تجاه إحدى أبشع مجازر العصر، وما لبث هذا المجتمع نفسه
لاحقاً أن انتخبوا بعد عقدين من الزمن أرييل شارون رئيساً للحكومة الصهيونية، كما هو
الحال بالنسبة لمناحيم بيغن الذي أصبح رئيساً للحكومة الصهيونية، رغم كونه قائداً لعصابات
الأرغون (مجزرة دير ياسين)، وخليفته إسحق شامير قائد عصابات شتيرن (عملية فندق الملك
داود).
يقول عبد الوهاب المسيري في موسوعته:
وبينما استمرت المذبحة طوال يوم الجمعة وصباح يوم السبت أيقظ المحرر العسكري
الإسرائيلي رون بن يشاي أرييل شارون وزير الدفاع في حكومة مناحيم بيجين ليبلغه بوقوع
المذبحة في صبرا وشاتيلا فأجابه شارون ببرود: «عام سعيد». وفيما بعد وقف بيغن أمام
الكنيست ليعلن باستهانة: «جوييم قتلوا جوييم... فماذا نفعل؟» أي «غرباء قتلوا غرباء...
فماذا نفعل؟».
ولقد اعترف تقرير لجنة كاهان الإسرائيلية بمسؤولية بيغن وأعضاء حكومته وقادة
جيشه عن هذه المذبحة استناداً إلى اتخاذهم قرار دخول قوات الكتائب إلى صبرا وشاتيلا
ومساعدتهم هذه القوات على دخول المخيم. إلا أن اللجنة اكتفت بتحميل النخبة الصهيونية
الإسرائيلية المسؤولية غير المباشرة. واكتفت بطلب إقالة شارون وعدم التمديد لرافائيل
إيتان رئيس الأركان بعد انتهاء مدة خدمته في أبريل 1983.
ولكن مسؤولاً بالأسطول الأمريكي الذي كان راسياً قبالة بيروت أكد (في تقرير
مرفق إلى البنتاجون تسرب إلى خارجها) المسؤولية المباشرة للنخبة السياسية والعسكرية
الإسرائيلية وتساءل: «إذا لم تكن هذه هي جرائم الحرب، فما الذي يكون؟». وللأسف فإن
هذا التقرير لم يحظ باهتمام مماثل لتقرير لجنة كاهان، رغم أن الضابط الأمريكي ويُدعَى
وستون بيرنيت قد سجل بدقة وساعة بساعة ملابسات وتفاصيل المذبحة والاجتماعات المكثفة
التي دارت بين قادة الكتائب المنفذين المباشرين لها (إيلي حبيقة على نحو خاص) وكبار
القادة والسياسيين الإسرائيليين للإعداد لها.
لقد كان رأي أغلبية أعضاء اللجنة الدولية التي حققت في الانتهاكات الإسرائيلية
للقانون الدولي خلال غزوها لبنان بأن هذه المذابح كانت مذابح إبادية. واستخدام تعبير
«تواطؤ في الإبادة الجماعية» كاف لتحميل «إسرائيل» مسؤولية الجرائم. وبخلاف الجرائم
الدولية مثل حروب العدوان حيث تكون الدولة فقط هي المسؤولة، فإن جرائم الحرب والجرائم
المرتكبة ضد الأمن والإنسانية تحمّل مسؤولية فردية. ومن هنا، أوصت اللجنة المستقلة
محاكمة المتورطين في تنفيذ وتخطيط وتسهيل تلك المجازر.
أرييل شارون يومها أقام في الطابق الرابع في أحد مباني الضباط التابعة للجيش
اللبناني قرب السفارة الكويتية المرتفعة والقريبة من مكان المجزرة والمطلّة عليه.
القضية بالطبع لم تنته، فما زال رأس مرتكبي الجريمة مطلوباً في عدد من الدول،
وما زالت التطورات في القضايا تظهر، وما زال هناك مئة مخطوف أو مفقود فقدوا في أثناء
المجزرة (66 فلسطينياً، 13 سورياً، 11 لبنانياً، 6 قيد الدرس، 3 مصريين، وبريطاني واحد)،
الذين ستبقى المطالبة بهم قائمة ويتحمل مسؤولية اختفائهم كل من كانت له يد في تنفيذ
المجزرة.
المصدر: شبكة العودة الإخبارية