مخيّم «برج البراجنة»..
غير قابلِ للشّيطنة
بقلم: زينب سرور
إذا حدث ودخلتَ أروقة
المخيّم، ابحثْ عن الأطفال. سلّمهم زمام القيادة. امسك يدَهم، واتبعهم كيفما توجّهوا.
اسألهم عمّا وراء هذا الزّاروب، عن اسم هذا السّمّان، عن البلدة الّتي يتحدّر منها
هذا الطّاعن في السّنّ، عن القدرة على الرّؤية داخل ذاك الدّهليز، عن المخاطرة في ولوج
تلك البقعة، عن أسماء الحارات، الدّهاليز، الأروقة، عن أصل التّسميات، عن اسم اللّعبة
الّتي يلعبها أقرانهم. اسمٌ فلسطيني، هكذا ستكون على الأغلب الإجابة. اضحك وأنتَ تسأل
عن الأنفاق. هل يُعقل لطفلٍ في السّادسة أن يعرف ما يوصف بالسّرّي؟ قد تفاجئك الإجابة.
إذا حدثَ ودخلتَ أروقة
المخيّم، تذكّر أنّك تطأ أرضاً يعي أهلها معنى الموت. ومع ذلك، لا يخشونه. تمعّن في
عيون أبناء «برج البراجنة»، ترى وقود الثّورة. وُسِم الفلسطينيّ يوماً بتلك الصّفة،
وما زال أهلاً لها. حاولوا جعله حطباً للسّلام فما استطاعوا. امشِ في دهاليز المخيّم.
لن يمنعَك أحد، لن يعترضكَ حتّى. احفظ أسماء المناطق العشر داخله. حارة «الوزّان»،
أو «طلعة الدّبدوب»، الاسم الأكثر شهرةً لها. سُمّيت كذلك تيمّناً برجلٍ من آل الدّبدوب
يسكن أوّل الطّلعة. أكمل مسيرك، تصل إلى جامع «فلسطين»، ثمّ ساحة «أبو طاقة»، فزاوية
«أبو فيصل». توقّف قليلاً في حارة «الطّراشحة»، أنظر إلى الخلف حيث «حيّ الأكراد».
تمعّن في شيءٍ من الاندماج، واكمل. ساحة «جيش التّحرير»، فحيّ البعلبكيّة، وصولاً إلى
مستشفى «حيفا»، التّابعة لـ»الهلال الأحمر الفلسطيني». لا تخجلْ من السّؤال. استفسر
عن كلّ ما يمرّ في مخيّلتك. ما هذه البقعة؟ هنا حيّ الغضبان، امتدادٌ للمخيّم.
إذا حدثَ ودخلت أروقة
المخيّم، لا تجزع من حاملي البنادق. حاول التّماشي مع «الفتحاوي» (نسبةً إلى حركة فتح)
الّذي يجعل من بندقيّته خير جليس. و «الحمساوي» (نسبةً إلى حركة حماس) الّذي يتأبّط
سلاحه كمن يحمل علبة سجائر. وابن «الجبهة العربيّة والدّيموقراطيّة» الّذي لا يعرف
السّير من دون «الرّفيقة». وعنصر «الجهاد الإسلامي» الّذي يرى في المخيّم امتداداً
لفلسطين.
إذا حدث ودخلت أروقة
المخيّم، اعلم أنّ في المكان توزيعَ قوى. لـ «فتح» حضورٌ قويّ. للمنشقّة عنها، «فتح
الانتفاضة» وزنٌ أيضاً. لـ «حماس» الأمر عينه. لـ «الجهاد الإسلاميّ» «ثقلٌ» كذلك.
على الرّغم من وضوح نسب التّوزيع داخل المخيّم، يقع خلافٌ بين أبنائه على «مَنْ هو
الفصيل الأقوى». فبينما يرى البعض غياباً شبه تام لـ «الجبهة الشّعبية لتحرير فلسطين»،
يصرّ آخرون على تواجدٍ قويّ لهذا الفصيل داخل المخيّم.
إذا حدثَ ودخلتَ أروقة
المخيّم، انحنِ كي تتمكّن من المرور أسفل كابلات الكهرباء. لا سماءَ زرقاء في تلك الأرض.
تحجبُ الكابلات أيّ إمكانيةٍ لجمال الصّورة. لا تتخلّى عن عامل الانتباه. إذا حدثَ
وتمكّنت من تفادي الارتطام بشرائط الموت، هيّئ نفسك للأسوأ. التقط أنفاسك وأنت تتلقّف
حبّات ماءٍ تمتزج مع وابل من الكابلات. حاول قدر المستطاع تفادي ذلك. في لحظة غفلة،
قد يُضاف اسمك إلى لائحة ضحايا «الكهرباء». هؤلاء وصل عددهم إلى أكثر من سبعين شخصاً
خلال الفترة الأخيرة.
إذا حدَث ودخلتَ أروقة
المخيّم، حاول أن لا ترتطم بالآخرين. حضّر نفسك مسبقاً لفكرة أنّك تلج مساحةً لا تزيد
على كيلومترٍ مربّع، مع كثافةٍ سكّانيّةٍ لا تقلّ عن خمسةٍ وأربعين ألف نسمة. على سوئه،
لم يكن الحال كذلك. قبل خمس سنوات، امتلأ المخيّم بالنّازحين. الفلسطينيّون السّوريّون،
السّوريّون، وجدوا في البقعة المحدودة فضاءً واسعًا. رحّب بهم أهل المخيّم. هم يُدركون
أنّ «الحال من بعضه»، وأنّ فكرة رفض الاستقبال غير واردة. ربّما خفّف من الزّحمة هجرة
بعض أهل المخيّم، بطريقةٍ غير شرعيّة، عبر البحر. إلّا أنّ الأوضاع بقيت على حالها:
فقر، ضعف خدمات، جرذان، زحمة، ضجيج، سلاح، ضياع، رغبة، عزيمة، أمل، مقاومة.
إذا حدثَ ودخلتَ أروقة
المخيّم، لا تستهجن من الارتفاع الهائل في الإيجارات. شقّةٌ صغيرةٌ لا تزيد مساحتها
على مئة متر مربّع، غريبة التّصميم، ضعيفة الخدمات، يتراوح إيجارها ما بين أربعمئة
وستمئة دولار. وكأنّ الأمر أصبح سياسةً متّبعة: أغلب من يملكون شققاً واسعةً بعض الشّيء
يقومون بتقسيمها إلى قسمين أو ثلاثة، ويؤجّرون «شبه الشّقّة» بهذا المبلغ الباهظ. صحيحٌ
أنّ النّزوح السّوري زاد من وتيرة ونسبة اعتماد تلك السّياسة، إلا أنّ الأمر لم يبدأ
معه. جاء الأمر نتيجة طبيعيّة لاستمراريّة الحياة: عائلاتٌ أنجبت أجيالاً وأجيالاً.
قسّمت الشّقق، أعطت الأبناء ثمّ الأحفاد قسماً منها. وعندما ضاق بها العيش، قرّرت التّوجّه
نحو خيار التّأجير.
إذا حدَث ودخلت أروقة
المخيّم، لا تصبّ جلّ اهتمامك على الموت فيه. بين مشاهد القبح جمالٌ كثير. استرق النّظر
إلى شبابٍ ونساءٍ ورجالٍ يسخّرون حياتهم لمساعدة الآخرين. في رواقٍ من الأروقة مركزٌ
اسمه «أمان». الجمال الطّاغي على المكان، الألوان الكثيرة، يُجبرك على التّوقّف والسّؤال:
«ما هذا»؟ «مركز مدعومٌ من منظّمة «أطباء بلا حدود»، يقوم بالعديد من الأنشطة. مساعدات
ذوي الاحتياجات الخاصّة، أنشطة رياضيّة، توزيع حصص تموينيّة، تأمين عكازات للمرضى،
تأمين نظّارات طبّيّة، تأمين معدّات لمستشفى «حيفا»، تأسيس مركز اسمه «إنسان» لاستقبال
مرضى المخدّرات. وهذا غيضٌ من فيض.
إذا حدث ودخلت أروقة
المخيّم، اسأل عن سهى علي تلّيس. اغضب معها على وكالة «غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين»
(الأونروا). اطّلع بأمّ العين على مرض السّرطان الّذي نهش جسدها. اشعر بحرقة حديثها
عن ابنها المتوفى منذ شهرين، عن مرض السّرطان الّذي تعانيه، عن إبرةٍ يبلغ سعرها مئةً
وتسعين دولاراً غير قادرة على تأمينها. وحاول، فقط حاول، أن لا تدمع عيناك وهي تطلب
منك المساعدة.
إذا حدثَ ودخلتَ أروقة
المخيّم، حاول امتصاص كمّ الغضب من حولك. اعكسه كتابةً، موسيقى، شعراً، صوتاً، ثورة.
ستسمع شيئاً عن إرغام رجل دينٍ مطلوبٍ لصبّيّةٍ على الخروج من اجتماع «من يشدون الحرّيّة
لأهل فلسطين» لأنّ «صوتها عورة». ستنهال الشّكاوى: طرد المرأة الوحيدة من اجتماعات
«خليّة الأزمة»، تغييب صوت المرأة، الغضب على أخرى لأنّها ترتدي سترةً بنصف كمّ، ضعف
مشاركة الشّباب..
إذا حدثَ ودخلتَ أروقة
المخيّم، استعدّ كي تسمع كثيراً عن حرب المخيّمات. سالت دماءُ كثيرة، ولمّا يمسحها
الفلسطينيّ بعد. هو يُحاول أخذ العبر من وحشيّة الماضي لرسم مستقبلٍ أكثر لطفاً وقوّةً.
البرج يُشبه غزّة. موتٌ بطيءٌ هنا وآخر هناك. قصص مَن في الخارج شيطنت المخيّم، هو
غير القابل للشّيطنة. لا يُريد أهل المخيّمات البقاء هنا، اخلعوا عنهم هذه التّهمة.
هم يحبّون اللّبنانيّ أكثر ممّا يحبّهم. لا يطلبون شيئاً سوى المعاملة بالمثل.
وإذا حدثَ وخرجتَ من
المخيّم، لا تنسَ أن تسأل الأطفال عن أقرب مخرج.
المصدر: السفير