مرج الزهور في عيون التاريخ!
بقلم: لمى خاطر
كانت ردّة فعل غاضبة وغير محسوبة تلك التي اتخذتها حكومة الاحتلال قبل عشرين عاماً بعد أسر كتائب القسام الجندي الصهيوني (نسيم توليدانو) في ذكرى انطلاقة حماس، حين قرّرت إبعاد 415 من رموز حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى خارج فلسطين عبر الحدود اللبنانية!
كان توجّه الاحتلال في ذلك الحين هو القيام بحركة اجتثاث كاملة بحقّ حركة كان يتصوّرها جديدة وحديثة البناء والتنظيم على الساحة الفلسطينية، وكان يعتقد أن ردّة فعل عنيفة من هذا الطراز على سلسلة عمليات حماس العسكرية ستلقنها درساً بليغاً يتكفّل بإجهاض نشاطها العسكري من جهة، وبشلّ قدرتها على النهوض من جهة ثانية، بعد أن يتفرق قادتها في دول الشتات ويظل تنظيمها في الضفة وغزة بلا رأس أو جسم مركزي، خصوصاً مع اشتداد حملة الاعتقالات في صفوف رموز وعناصر كثيرة من حركة حماس حينها.
لم يدر في خلد الاحتلال أن تلك الحركة الناشئة كانت تقودها نخب قيادية متميّزة وضاربة في عمق البنيان الدعوي للحركة الإسلامية في فلسطين، وتحمل إرثاً كبيراً من القيم والمبادئ ومن مقوّمات الثبات والصمود والاستعداد للتضحية والبذل.
كان القرار القطعي للمبعدين حينها بالمرابطة على حدود الوطن في مخيّم مرج الزهور ثاني محطة حاسمة في تاريخ حماس الناشئة بعد قرارها دخول ساحة العمل العسكري ضد الاحتلال. وكان لهذا القرار الحاسم ما بعده كما قالت فصول التاريخ التالية، لكنّه جعل الاحتلال يتوقف على حقيقة هامة لم تغادر حساباته في مختلف مراحل استهدافه حماس وضرب بناها التحتية؛ وهي أن هذه الحركة أكبر من كل مخططات إنهائها، وأن لديها قدرة على التجدد وإعادة تشكيل البنيان تتجاوز المعايير المادية المجرّدة، فأيقن الاحتلال حينها أنه بات يواجه عدوّا مختلفا، ولمس معنى أن تكون الحركة المقاومة ذات بعد عقائدي وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على معادلة الصراع.
كانت تجربة مرج الزهور وصمود المبعدين في العراء تحت المطر والثلج بمثابة بطاقة تعريف خارجية بحركة حماس، فالتفتت أنظار العالم كلّه إليها، وصار مخيم العودة في جنوب لبنان قبلة كثيرين ما بين سياسيين وإعلاميين ومتضامنين، وهو ما أتاح لهم الوقوف على حقيقة وطبيعة هذه الحركة الناشئة، لأنه كان يراها من خلال قادتها ورموزها، وعبر ما يترجمه صمودهم وإصرارهم على تحدي غطرسة المحتل وقهر إرادته في تغييبهم ونفيهم وإبعادهم عن ساحة المواجهة.
ثبت مبعدو مرج الزهور على خيارهم المرّ وقرارهم الجريء، في وقت كان يرى فيه آخرون ألا سبيل لإرغام الاحتلال على إعادة أي مبعد إلى وطنه، لكنّ الاحتلال رضخ في نهاية المطاف وأعاد جميع المبعدين على دفعتين، وكانت تلك أولى محطّات انتصار حماس على كيان الاحتلال، ومعركة عضّ الأصابع الأولى التي تسجّل فيها تفوّقها ثم جدارتها بالاسم الذي تحمله والمشروع الذي تتبناه.
كثيرون من محبي الحركة على امتداد العالم أدهشهم هذا الانتصار فاحتفوا به مع حركة حماس، وأكبروا في قادة الحركة اختيارهم العودة إلى السجون على الإبعاد عن الوطن، وظلّوا يرقبون مسيرة الحركة فيما بعد، ويتابعون فصول تميّزها في مختلف المراحل.
بعد حين من سنوات الجهاد والاستشهاد، والسجن والمطاردة، وارتقاء نفر من فرسان مرج الزهور شهداء؛ لم يعد تسجيل بصمات الانتصار حدثاً نادراً خلال مسيرة حماس، بل ظلّت الحركة من حين لآخر تزيل جانباً من ركام اليأس وتضيء زاوية من حلكة الليل، فكان تحرير غزة، وكان تحرير الأسرى، وكان قهر الاحتلال في معركتي الفرقان وحجارة السجيل، وكان لسان حال حماس وهي تختم ربع قرن من عمرها الجهادي يقول: ما زلنا نمتلك زمام المبادرة، وما زالت فلسطين كلّها محطّ أنظارنا، فما نقص إصرارنا ولا جفّ في عروقنا الأمل الذي زيّن هامات قادتنا وهم ينشدون في مرج الزهور: "يا أهلنا بفلسطين، إحنا عالعهد صامدين.. حبّة زعتر ناكلها، ولا بنعيش مشرّدين"!