القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الإثنين 25 تشرين الثاني 2024

مسرح البسطة في فلسطين

مسرح البسطة في فلسطين

بقلم: زياد خداش *

لم ينتبه لهم أحد من مسؤولي ثقافتنا ووطننا، لكن كل بسطاء الناس انتبهت لهم. ذلك لم يكن عائقاً، قابلوا اللانتباه باللاتوقف، واصلوا التجوال في شوارع المدن الفلسطينية، ممتلئين ثقةً ومحبة وناساً وانتماء للمسرح وللوطن. لا يحتاجون إلى منصة، فالشوارع منصاتهم، وأحياناً تتحول ضحكات الناس منصاتٍ رائعة لهم، لا ضرورة لديكور، فكل شيء جاهز حولهم في الطرقات، كل ما يملكونه عربة صغيرة، وأصواتهم وفكرتهم المعتنى بها جيداً والطرقات، شباب مقدسيون، كانوا في الأصل (مسحراتية) في أزقة القدس وأحيائها. ثم صاروا ممثلي شكل مسرحي فلسطيني جديد ملفت، ربما لم تعرفه الحركة المسرحية الفلسطينية من قبل، أو ربما عرفته. لكن، من دون اكتمالٍ أو رؤية.

(حسام غوشة، بهاء نجيب، محمود أبو شمسية، صلاح الدين نزال) أربعة شبان من فلسطين، أربعة مبدعين، في العشرين من أعمارهم، هم أبطال مسرح المباغتة الفلسطيني، يهزّون رتابة نهاراتكم في أية لحظة، استعدّوا لصيحاتٍ خارج محلاتكم، وجماهير من كل الأعمار والفئات الاجتماعية والمهن المختلفة، يمشون خلفهم وأمامهم. جمهور خليط عجيب فيه كل التناقضات، ظالمين ومظلومين، أثرياء وفقراء، قتلة وضحايا، ساخرين ومتأملين، آباء وأطفالا. مسرح فلسطيني عجيبٌ بلا تذاكر، بلا مخرج واضح صارم التعاليم، بلا نصٍّ متخندق في بنوده، بلا إعلانات أو يافطات مسبقة، بلا قاطع تذاكر بملامح جامدة وتجارية، بلا حارس متجهم على باب المسرح يدقق في البطاقات، حولهم يتراكض أطفالٌ، يفكّون أيادي أمهاتهم من أياديهم، ويندفعون متحمسين، مستغربين: (مين هذول يمااا؟)، موظفات ضجرات يطللن من شبابيك البيوت وعمارات المكاتب، عمال مطاعم، يتركون طاولات الزبائن، ناقصة صحناً أو خبزاً، طلاب المدارس، يقفزون عن السور، مدفوعين بنهر فضول يجرفهم من مقاعدهم، ربّات بيوت على العتبات: (مين هذول يا أم حسام؟ بس بجننوا ما أحلاهم، نادي أم عمر خليها تتفرج معنا،).

أربعة مقدسيين، مبدعين بأصواتهم العالية يمسرحون قصص تعبنا، وحكايات ظلمنا، وانكسارات أحلامنا. تبدأ عروض البسطة بصيحةٍ متكرّرة، وهي لازمة لكل عرض، (فرمان فرمان)، وهي نداء مرسوم والي السلطان العثماني الشهيرة التي ُتبدأ بها أوامره للعامة، من أشهر عروض البسطة عرض التضامن مع الأسرى المضربين عن الطعام، وعرض الانحياز لمطالب المعلمين الفلسطينيين في ربيعهم الصاخب، وعروض أخرى، كانت ثيمتها الأساسية نقد ممارسات السلطة، وتكوين رأي عام فلسطيني شعبي، يعرف حقوقه، ولا يتنازل عن كرامته، هو شكل من أشكال حماية صوت الناس الذين لا يسمع صوتهم، فضلاً عن المتعة الفنية المجانية التي يقدمها ممثلو مسرح البسطة للناس البسطاء الذين ربما لم يُشاهد معظمهم عرضاً مسرحياً في حياته، بالإضافة إلى لفت نظر البسطاء الى أهمية الفن المسرحي في الدفاع عن قضاياهم ومستقبلهم.

فكرة المسرح الشعبي غير المقصود موجودة في الشوارع، وفي أسواق الخضار الثابت. راقبوا معي صيحات بائعي عربات الفراولة والبطيخ والمشمس مثلاً، اسمعوا صيحاتهم وطريقة نطق عباراتهم، هي أقرب للغناء والرقص والمسرح، المشترون هم جمهور هذا البائع- الممثل، بعضهم ينظر لعرض مسرحه- عربته ولا يتحمس للشراء، بعضهم يشتري، بعد أن يتـأكد من سلامة البضاعة، سلامة الأفكار وطزاجتها، إن صح التعبير.

مسرح المقدسيين الأربعة، صيغة فلسطينية عميقة وممتعة لنضال شعبي جديد، يخوضه فنانون شبان مخلصون، نقداً لممارسات السلطة، وسرد حكايات شهداء فلسطين، ووجع فقرائها، وكل ما يشوه حياتنا، ويسرق حلمنا. ليس هذا المسرح اختراعا فلسطينيا، فالفكرة منفذة في دول عديدة، ولعل الفنان المغربي الراحل، الطيب الصديقي، كان أول من نفذها في العالم العربي، تحت اسم مسرح الشارع أو الفرجة، ومعروف أيضا أن أول مسرحي جوال في تاريخ البشرية كان (ثيسبيس) اليوناني، لكن روعة النسخة الفلسطينية عن المسرح الجوال بدت شديدة الوفاء لبسطاء الناس، في عصر فلسطيني مخيف، عزّ فيه الوفاء. هذا يدعو فعلاً إلى الفخر والسعادة، ولا أظن أن شعبا فيه من هؤلاء الفنانين عرضة للهزيمة أو للفناء.

* كاتب فلسطيني

المصدر: العربي الجديد