مسيرات العودة أفشلت خطة صفقة القرن
يوسف قطينة
الرئيس الأميركي دونالد ترامب أكثر الرؤساء الأميركيين
تأييداً لاسرائيل، رغم أن كل الرؤساء الأميركيين الذين تعاقبوا على رئاسة الولايات
المتحدة منذ إقامة "إسرائيل” على أنقاض وطن الشعب الفلسطيني، في الخامس عشر من أيار
من سنة ١٩٤٨ أجمعوا كلهم على تأييد "إسرائيل”، باعتبارها الحليف الاستراتيجي الوحيد
لهم في المنطقة العربية، والمدافعة الأولى عن المصالح الاميركية في المنطقة، وسياسة
الإدارات الاميركية في المنطقة العربية عمادها: إبقاء "إسرائيل” قوية عسكرياً واقتصادياً
كي تكون متفوقة عسكرياً على الدول العربية مجتمعة، وضمان الحصول على النفط العربي بأبخس
الأثمان، ومنذ الأيام الاولى لترؤسه الإدارة الأميركية سعى ترامب الى تنفيذ ما التزم
به تجاه "إسرائيل” خلال حملته الانتخابية الرئاسية، ففي المؤتمر الصحفي الذي عقده مع
رئيس وزراء "إسرائيل” بنيامين نتنياهو، في الخامس عشر من شباط من سنة ٢٠١٧ اعلن ترامب
تخليه عن فكرة حل الدولتين كسبيل لتحقيق تسوية بين الجانبين: الفلسطيني والاسرائيلي،
وأنه يقبل ما يتفق عليه الجانبان، وهو يعلم يقيناً أن نتنياهو يرفض حل الدولتين، ويريد
إبقاء الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية والقدس الشرقية دائماً، من خلال إدارة الصراع،
ومحاولة الاستمرار في فرض سياسة الأمر الواقع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من خلال
الاستمرار في تهويد القدس وطمس هويتها العربية والاسلامية، ومصادرة المزيد من الأراضي
في الضفة وزرعها بمزيد من المستوطنات، وتوسيع المستوطنات القائمة، بحيث يصبح حل الدولتين
مجرد أوهام وسراب في عقوب اللاهثين وراء خرافة «السلام» مع "إسرائيل” وخرافة حل الدولتين.
كما أن ترامب وفى بوعده لاسرائيل بالاعتراف بالقدس
«عاصمة لاسرائيل»، علماً أن ايا من سابقيه من الرؤساء الأميركيين لم يجرؤ على تنفيذ
قرار «الكونغرس» الأميركي في الثالث والعشرين من تشرين الأول من سنة ١٩٩٥ نقل السفارة
الأميركية من تل أبيب الى القدس، كإعلان أميركا الاعتراف بالمدينة المقدسة عاصمة لاسرائيل،
فأعلن بكل وقاحة وتحد لمشاعر ملايين العرب والمسلمين بعامة، والفلسطينيين بخاصة الاعتراف
بالقدس عاصمة لاسرائيل، وذلك في السادس من كانون الأول من سنة ٢٠١٧.
وان تعجب، وإن لم يعد هناك شيء يستعجب منه عربيا
اليوم، فاعجب من الموقف العربي الباهت والهزيل إزاء خطوة ترامب الاعتراف بالمدينة المقدسة
عاصمة لاسرائيل، واعتزامه المشاركة في احتفالات نقل سفارته الى القدس في الخامس عشر
من أيار الجاري، خلال ما تسميه "إسرائيل” الذكرى السبعين لإقامتها، وهو ما يصادف الذكرى
السبعين للنكبة الفلسطينية، حتى مجرد عبارات الشجب والاستنكار والادانة الممجوجة التي
اعتاد القادة العرب على إصدارها في بياناتهم ازاء الاعتداءات والانتهاكات للحقوق العربية
عامة والحقوق الفلسطينية خاصة اختفت، ولم تر النور كرد فعل على خطوة ترامب الحمقاء
المستفزة.
بل إن العديد من القيادات العربية كافأت ترامب على
اعترافه بالقدس عاصمة لاسرائيل واعتزامه نقل سفارته الى القدس، بأن قدمت له مئات المليارات
من الدولارات أثماناً لصفقات سلاح، لا للدفاع عن الشعوب العربية، بل لاستخدامها في
تدمير بلدان عربية، وتزويد الارهابيين التكفيريين بتلك الأسلحة، للقيام نيابة عن "إسرائيل”
بتدمير جيوش تلك الدول العربية، أو لإقامة مشاريع بمليارات الدولارات في الولايات المتحدة
لإيجاد آلاف الوظائف للأميركيين!!
وذهب قادة عرب في تأييدهم لخطوات ترامب العدائية
هذه الى الحد بمطالبة الشعب الفلسطيني بالتخلي عن القدس، والاكتفاء بأبوديس وبعض أحياء
القدس عاصمة لدولتهم الفلسطينية، مقابل وعود مالية سخية بمليارات الدولارات، وكأن القدس
ومقدساتها سلعة تباع في أسواق النخاسة العربية، وكأن القدس ملك للفلسطينيين وحدهم،
وليست للعرب والمسلمين جميعاً، وكأنها ليست وقفاً إسلامياً الى قيام الساعة، لا يحل
لأحد أيا كان، وفي أي زمان، ان يبيع هذا الوقف الاسلامي، الذي أعلن الله عز وعلا اسلاميته
منذ أكثر من اربعة عشر قرناً في آية كريمة استهل بها سورة «الاسراء» وربط بين مسجدها
الاقصى المبارك وبين المسجد الحرام في مكة المكرمة، فالتفريط
بأحدهما تفريط بالآخر.
ولأن حق العودة هو العنوان الأبرز للنكبة الفلسطينية،
المستمرة منذ سبعين عاماً، وهو السبيل الوحيد أمام الأجيال الفلسطينية المتتالية للتذكير
بوطنهم الذي شردوا منه، واحتله الغرباء القادمون من وراء المحيطات والبحار، ومن الآفاق
البعيدة، الذين لم ير معظمهم فلسطين طيلة حياته، ولم يسمع بها من قبل، الا من خلال
اساطير زائفة لكل ذلك، فإن ترامب بتحريض من نتنياهو هو وقادة "إسرائيل”، أعلن بكل صفاقة
أن حق العودة، خارج إطار المفاوضات، وأنه لم يعد له وجود، ولذا يجب إلغاء وكالة الغوث
الدولية «الأونروا» التي هي الواجهة الدولية لحق العودة هذا، وفي إطار هذا الإلغاء
أعلن عن وقف تمويل الولايات المتحدة لهذه الوكالة.
ومعلوم أن المساهمة المالية الأميركية في «الأونروا»
هزيلة، مقدارها ١٢٥ مليون دولار سنوياً، تستطيع أي دولة عربية نفطية تسديده بكل سهولة
وأريحية إن شاءت، وإن لم تراع إغضاب ترامب، علماً أن تلك الدول أنفقت وما زالت تنفق
المليارات، في حروب ليس للعرب فيها ناقة ولا جمل، بل وتنفق الملايين ايضاً في شراء
القصور في الدول الغربية، وفي شراء اليخوت الفاخرة، واللوحات الفنية الأثرية، ومع ذلك
لم تتطوع أي من تلك الدول بالإعلان عن استعدادها لدفع ذلك المبلغ البخس، حرصاً على
عدم اغضاب ساكن البيت الأبيض.
وكل خطوات ترامب هذه لإنهاء القضية الفلسطينية وشطبها
من التداول، والتي أسماها صفقة القرن، أي بعد قرن على وعد بلفور المشؤوم، هدفها الأساس
تيئيس الشعب الفلسطيني، وحمله على القبول بالأمر الواقع، ودفعه للقبول بمساعدات مالية،
مقابل إسقاط حقوقه في أرضه وأرض آبائه وأجداده، ولكن الشعب الفلسطيني الذي يخوض صراعاً
وجودياً منذ قرن من الزمان أظهر أنه شعب أبيّ لا يذل، ولا يهان، ولا يستخذي، ولا يستجدي،
ولا يبيع أرضه ووطنه بكل كنوز الدنيا وثرواتها، ناهيك أن يبيعها بثمن بخس مليارات من
الدولارات.
ولعل مسيرات العودة، التي بدأت في الذكرى السنوية
ليوم الأرض في الثلاثين من آذار الماضي، هي أصدق تعبير عن الرفض الفلسطيني المطلق لصفقة
القرن، وعن التمسك بحق العودة، وكافة الحقوق الفلسطينية، وقد أظهر الشعب الفلسطيني،
من خلال تلك المسيرات، خاصة الأهل في قطاع غزة، أنهم على استعداد لبذل الدماء والمهج
والأرواح للدفاع عن ذلك الحق المقدس، فقد قدموا عشرات الشهداء وآلاف الجرحى، ولم تستطيع
القوة الباطشة التي استخدمها جيش الاحتلال في قمع تلك المسيرات، بل إنها أسبوعاً بعد
أسبوع تزداد عنفواناً وقوة وإصراراً على التمسك بهذا الحق المقدس، الذي تتوارثه الأجيال
الفلسطينية جيلاً بعد جيل.
تلك المسيرات السلمية التي يشارك فيها كل أطياف
شعبنا في القطاع، تضم كافة الأجيال، من أطفال ونساء وشيوخ وشباب وفتيات، أبطلت القول
الاسرائيلي الزائف، «إن جيل النكبة سيموت، وأن الأجيال التي تليه ستنسى النكبة وحق
العودة»، حيث ظهر جلياً أن الأجيال التالية أشد تمسكاً بهذا الحق، حتى الطفل والطفلة
في مخيمات اللجوء في الوطن والشتات عندما تسأل من أين أنت؟ لا يقول لك: انا من المخيم
كذا والقرية كذا والمدينة كذا التي لجأ اليها أجداده، والمقيم حالياً، بل يقول لك إنه
من يافا وحيفا واللد والرملة وعسقلان وبيت جبرين وبيت نوبا ويالو وعمواس وعجور والعباسية
وعين كارم ودير ياسين وقبية وغالين و.... و... و...
ولا يقتصر التمسك بحق العودة على اللاجئين من أبناء
الشعب الفلسطيني، الذين يعانون من ضنك الحياة وشظفها، بل يمتد إلى النخبة من أبناء
هذا الشعب، من أكاديميين يدرسون في أعرق الجامعات في الولايات المتحدة وبريطانيا وسواهما
من الدول، ومن رجال الأعمال الذين يمتلكون المليارات والمشاريع الاقتصادية الكبرى،
ونجتزىء في هذا المجال للدلالة على صحة ذلك، بالبروفيسور الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد،
الذي حرص على زيارة بيت العائلة في القدس الغربية عام ١٩٩٨، لكنه أصيب بصدمة حين وجد
البيت تسكنه عائلة من المستوطنين، رفضت حتى السماح له بدخول البيت لإلقاء نظرة من الداخل
عليه، فعاد أدراجه وهو يبكي بحرقة، ودموعه تفيض من عينيه حزناً على ذلك البيت الذي
طردت العصابات الصهيونية أسرته منه في عام النكبة وفي ذهنه حلم واحد راسخ لا يزول،
وهو حلم العودة.
ان صفقة القرن وغيرها من الصفقات التي تسعى حثيثاً
لشطب القضية الفلسطينية وإلغاء حق العودة، مآلها البوار، فهي بضاعة كاسدة لا تروج عند
الشعب الفلسطيني، المتمسك بحقوقه كافة وفي مقدمتها حق العودة، الذي لا يسقط بالتقادم،
والذي يتوارثه جيل بعد جيل، والذي يحميه الشعب الفلسطيني برموش العيون، ويسقيه بدماء
شهدائه وجرحاه وسيظل متمسكاً به الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
المصدر : القدس