مشاهد مقدسية: كفى خرقاً لقوانين "إسرائيل"
بقلم: إيهاب أبو غوش
1 - في محكمة البلدية
في القدس، على مقربة من أسوار البلدة التاريخية، ومقابل «باب الخليل» وهو
البوابة الغربية، تصطف أبنية متكتلة وكأنها ثكنات عسكرية، هي أبنية السلطة
المحلية، هي بعينها بلدية أورشليم العبرية. في البناية الرقم 3، في الطبقة السفلية
حيث تجتمع الغرف والقاعات الأرضية، يتمركز منذ سنوات قمرية وميلادية ما يعرف بـ
«محكمة البلدية»، أو بتسميتها المهنية، «محكمة الشؤون المحلية».
هناك، في إحدى القاعات المليئة بازدحام المظلومية، قام من قام فكان رجلاً
مقدسياً في مطلع سنوات الخمسين من العمر ويحمل بيده اليمنى أوراقاً ملفوفة ومطوية،
وفي طياتها مأساة حقيقية، ففيها أمرٌ من محكمة البلدية، يقضي بإلزامه هدم قسم من
شقته السكنية، بهدم غرفتين قد بناهما لتشكلا «وحدة سكن» إضافية لشقته المنسية،
فتخدمان عما قريب ابنه وخطيبته كعش لحياتهما الزوجية. بعد سماع قرار محكمة البلدية
وحصوله على نسخة منه، قام مستجمعاً ما تبعثر منه، تابعاً بوصلة روحه التي غادرته
من شدة الأسى، أما عيناه فقد مُلئتا بماء الدمع فهما لا ترسلان الدمع أمام الحضور
حتى لا يعتبر بسبب البكاء «رجلاً ضعيف الشخصية». ولكن الدمع انهمر عندما سمع
سؤالاً عن حاله وما قد حل به باللغة العربية، انهمرت دموعه الزكية، وأجاب قائلاً:
كيف أزف هذه البشرى (رافعاً الأوراق المطوية)، وماذا سأقول لابني، فهو وعروسه
منهمكان الآن في تجهيز «الشقة» وما تبقى من الأدوات المنزلية!
إنها قصة أسى بدموع رجل من رجال ونساء كثيرين «أبطال» دراما حقيقية، تحيكها
سيناريوات «محكمة البلدية»، وما أدراك ما محكمة البلدية!
2 - العبارات الإسرائيلية الموجهة للمقدسيين
لا يقل إيلاماً من التراجيديات اليومية، العبارات العلنية الموجهة
للفلسطينيين سكان القدس الشرقية، وتقال ضمن نبرة ونسق من توبيخ المستعمر المتكبر
لمن دونه:
«كفاكم بناءً بغير تراخيص وخرقاً للقوانين الإسرائيلية... لماذا تبنون
البيوت والشقق من دون تراخيص وخلافاً للقانون؟ لمَ تقومون بالبناء من دون الامتثال
للقوانين التنظيمية؟ لماذا هذه التصرفات الجنائية؟ انظروا من حولكم كيف أصبحت
حارات القدس الشرقية... انظروا للاكتظاظ البشع وللازدحام المروع ولحياتكم التي لا
تطاق في هذه الكثافة السكانية... انظروا كيف غدت أحياؤكم أشبه بمخيمات لاجئين بنيت
بطرق عشوائية... انظروا إلى البيئة التي هدمتموها من حولكم وأي اكتراث لديكم
بالأمور البيئية... انكم لا تمتثلون للقوانين الإسرائيلية... إنكم لا تستعملون
وسائل الحذر والأمان ولا تهتمون بسلامة السكان في منطقتكم الشرقية... أي حياة هذه؟
وأي قدس هذه وأي أماكن لها قدسية يخرق فيها القانون في شكل فظ ومتعمد ومستمر؟
والمؤسف كل الأسف ان أكثركم يتنافس على تطبيق هذه العقلية الغوغائية والهمجية...
فقد أصبح خرق القانون لديكم حالة اجتماعية عادية وعادة متأصلة وتقليدية... أي حياة
هذه التي تعيشونها؟ فكفاكم بناء بغير تراخيص وكفاكم خرقاً للقوانين الإسرائيلية».
هذا حشد من العبارات الاستفزازية الأشبه بالعيارات النارية، تطلق في خطابات
متكررة علنية ومرئية وجلية، يُسمعها الإسرائيلي، على تعدده واختلافه الوظيفي،
للمقدسيين في مواقع ومناسبات مختلفة، أهمها ما يتعلق بمشاكل البناء بغير تراخيص
(وكأنه يمكن البناء بموجب تراخيص! فهنالك شبه انعدام لمخططات تنظيمية). وعند
التوجه إلى حل مشاكل الضائقات الـسـكنية بالـمطالـبة بإجـراء تنظيمات وتخطيطات
هيكلية لوائية أو محلية (وهي أقـرب لأن تكـون معدومة)، وفي المـساءلات الإدارية
والمحاكمات القـضائية) الـتي يُجرَّم فيها المقدسي في كل الحـالات ومن دون
استـثناء)، وعند تـسـليم أوامر هدم البـيوت لأصـحابها، وعـند مناقشتها في المحافل
المختلفة، وبالأخص عند تنفيذ هدم البيوت بواسطة القوات الإسرائيلية على مرأى ومسمع
محزن ومدمع ومبكى أصحابها الفلسطينيين.
ويجدر الذكر وفي شكل واضح، وبناء على المعطيات الإسرائيلية، أن الغالبية
المطلقة لأوامر الهدم صدرت لهدم بيوت وشقق وبنايات سكنية وليس لهدم حوانيت أو
متاجر أو مصانع أو أية أبنية أقيمت لاستعمالات تجارية أو صناعية. فحاجة المقدسيين
الملحة إلى أماكن سكنية، تُظهر مدى الضائقة الإنسانية التي يعيشونها، فإن بنوا
بغير تراخيص إسرائيلية، فعلوا ذلك ليس لمخالفة أي قانون كان، ولا لكسب الأرباح
المادية ولا لتوسيع منطقة نفوذ شخصية أو جماعية ولا من دافع للملكية أو السيطرة
الاستيطانية والاستفزازية، بل لعدم وجود أماكن للسكن حتى البسيط منها ولعدم توافر
أراض «صالحة» لتشييد البنايات السكنية، وذلك لامتناع بلدية أورشليم من توفير
مخططات تنظيمية تسمح بالبناء على أراضي القدس الشرقية. فلعدم توافر هذه الإمكانات،
وفي ظل الازدياد السكاني يلجأ المقدسي إلى البناء الاضطراري.
أيا سامعاً هذه البلوى، اعلم أنه في القدس الشرقية لا مسكن ولا مأوى قد
يسلم من الشكوى، وإن لم تتغلغل بعد بعمدانه أو جدرانه قرارات المحاكم وأوامر
الهدم، فإن غداً لناظره قريب.
3 - جواب المقدسي للإسرائيلي
تخيّل المشهد الآتي، فيه يقوم مواطن مقدسيٌّ في محكمة البلدية، صاعقاً بهذه
العبارات الاستفزازية:
«كفاكم استبداداً وكفاكم فرضاً لسياسات احتلالية باسم القوانين
الإسرائيلية، وكفاكم خرقاً للقوانين الدولية وللمواثيق الإنسانية مدَّعين شرعية
ربّانية. القدس وقدسيتها وسكانها المقدسيون لا يخالفون بطبيعتهم القانون، وخرق
القانون لديهم ليس طبيعة، ولا حتى عادة مكتسبة أم موروثة، بل فُرضت عليهم إكراهاً
حال ليس كمثلها حال، وينطبق عليهم قول القائل: «ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء».
فمن لا يعلم، والكل يعي ويعلم، أنكم منذ الاحتلال صادرتم القسم الأكبر من
أراضي القدس الشرقية! ومن لم يرَ، والكل يرى حتى من استراح تحت الثرى، ما قد أقمتم
على هذه الأراضي المصادرة من أحياء ومدن سكنية ومدارس وشوارع ومؤسسات تعليمية
ومراكز جماهيرية ومتنزهات ومرافئ ومستشفيات وحدائق وملاعب وأماكن صناعية وأخرى
تجارية وبنايات للمكاتب الخاصة، إضافة للأبنية الحكومية وسكك الحديد، كلها يهودية
وإسرائيلية.
فحتى مقبرة مأمن الله الإسلامية، صودرت وجرف الكثير من قبورها ليبنى على
رفات الأموات ما يزعم بحديقة للكلاب ومتحف «للتسامح والكرامة الإنسانية»!
فاحتلالكم القدس وفلسطين يعتبر أكبر مخالفة لتاريخ القوانين الدولية والقيم
الإنسانية.
قل لي يا صاحب العبارات الاستفزازية: ما هي مخططات ومشاريع التنظيم الهيكلي
التي نفذتموها على الأراضي الشرقية منذ احتلاها؟ وما هو عدد الأحياء السكنية التي
ساهمتم في بنائها في القدس الشرقية؟ أهي راموت، وجيلو، وجبل جيلو، وجبل شعفاط،
ومعاليه أدوميم، وميشور أدوميم، وأبو غنيم، ومدينة داود، وأحياء موسكوفيتش، والتلة
الفرنسية، وبسجات زئيف والنبي يعقوب، وآدم جبع، وجفعات زئيف وجفعون هاحاداشا
وجيرانها وجاراتها من فرخ للبؤر الاستيطانية؟
أليست هذه كلها مستوطنات وأحياء سكنية، كل حي منها أشبه بمدينة من كونه
حياً بمدينة؟! أليست كلها خُططت ونُظّمت ودُعمت وبُنيت على أرض القدس والمقدسيين
بعد الاحتلال وفق القوانين الإسرائيلية؟ والأهم والأدهى، أليست كلها لمواطنين
مستوطنين يهود غير عرب؟ ألم تُقدِّم القوانين الإسرائيلية وحكوماتكم بأذرعها
المختلفة شتى المعونات والمساعدات المالية للسكان اليهود لتمكينهم من «شراء»
العقارات في هذه المدن والأحياء السكنية؟ ناهيك عن التخفيضات الملحوظة والميزات
والأفضليات المقوننة المحفّزة والمنشّطة للسكن، وفضلاً عن الخدمات المميزة التي
يتمتع بها سكان هذه الأحياء الاستيطانية.
يا أيها المحتمي بالقوانين الإسرائيلية: أليست قوانينكم هي التي سمّت
لاجئينا بالغائبين بعد أن هُجّروا من بيوتهم بعمليات قسرية؟ أليست هي التي تنادي
حاضرينا بالغائبين أيضاً حتى ولو حمّلوا الهوية أو الجنسية الإسرائيلية؟ وتحت شعار
«أملاك الغائبين» سلبتم أراضينا وصادرتم ممتلكاتنا لتتحول كلها بلحظة لـ «أراضي
دولة» أو «حكومية»، وأقمتم عليها مشاريعكم الصناعية والتجارية والزراعية والقرى
التعاونية، أليست قوانينكم هي التي تتذرّع بـ «الحجج الأمنية» لتُحيط أقصانا
المبارك بالكتائب العسكرية؟ أليست هي القوانين التي تمنعنا من إقامة الصلاة
وشعائرنا الدينية؟
من ثنايا قوانينكم على القدس الشرقية يفيض التهجير والمصادرات وفصل
العائلات وجدران الفصل واللاجئون والاحتلال وتجريد الهويات وإلغاء الإقامات
والأسرى والحواجز والاعتقالات الإدارية وأملاك الغائبين وهدم البيوت والغرامات
المالية وأخرى وأخريات. إنه قاموس، والحمدلله، غني بمعجم مصطلحات، وإن كتبت هنا
بحروف عربية، فإن معانيها وبحصرية قد عُرّفت وفق مفردات دستورية إسرائيلية.
أيا سامعي: إنكم قد جعلتمونا، بفضل قوانينكم، في زماننا هذا أكثر من
السجادة نلامس الهوية، وقد تظنون أن حياتنا تتعلق بروح وكأننا نستمدها من بطاقة
تحمل من ألوان الطيف ما صبغته وزارة الداخلية! أو من تصاريح عليها خاتم «الإدارة
المدنية»! إلى أين وصلتم في عالم قوانينكم هذا التي فيها تحاولون استبدال الهوية
الشخصية والمعنوية، فكرية كانت أم قومية، بهوية تُنعت وتتميز بالألوان الزرقاء أو
الحمراء أو الخضراء أو حتى الهوية البرتقالية!
4 - الخاتمة
فإن كانت معادلتكم أنه من يخالف قوانين البناء الإسرائيلية تكون حياته بربرية،
فكيف حال من يخالف قوانين ومواثيق عالمية وإنسانية؟ كيف تكون حياته، إنسانية هي أم
إجرامية؟ و «العدل» في قوانينكم ومحكمتكم هو أقرب لما تصفه هذه المعادلة الشعرية:
والعدلُ في الأرضِ يُبكي الجنَّ لو سمعوا
بهِ ويستضحكُ الأموات لو نظروا
فالسجنُ والموتُ للجانين إن صغروا
والمجدُ والفخرُ والإثراءُ إن كبروا
فسارقُ الزهر مذمومٌ ومحتقرٌ
وسارق الحقل يُدعى الباسلُ الخطر
وقاتلُ الجسمِ مقتولٌ بفعلتهِ
وقاتلُ الروحِ لا تدري بهِ البشرُ
يا من تدّعي بالقوانين الإسرائيلية، لا تقل لي شيئاً، بل أنا من سيقول:
«إنه رغما عن ذلك كله، ورغماً عن أي من قرارات المحكمة البلدية، وما تحويه
من أوامر هدم أو غرامات أو عقوبات جنائية، فإننا ها هنا في القدس الشرقية باقون.
ها هنا باقون ما بقي أخضر شجر الزيتون، فنحن أصحاب البيوت والأرض والحقوق المحمية،
دائماً سنكون، هنا باقون، حتى لو راح جيل فسيأتي آخرون، أجيال كلها ترفض الاستبداد
والاحتلال وتنادي باسم الحرية».
(فأين هو ذلك المقدسي؟!)
الحياة، لندن، 10/5/2013