القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الخميس 28 تشرين الثاني 2024

مشعل.. الاستقالة الخطأ في الوقت الخطأ

مشعل.. الاستقالة الخطأ في الوقت الخطأ

بقلم: أسامة أبو ارشيد

لعله من نافلة القول إن رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) خالد مشعل، يحظى برمزية خاصة لدى كثيرين، إسلاميين وعلمانيين، رسميين وشعبيين، وهي مكانة قلَّ أن يحظى بها زعيم فلسطيني من التيارات والفصائل الأخرى اليوم، اللهم باستثناء رئيس وزراء حماس في غزة إسماعيل هنية.

فلم الاستقالة إذن؟

ورغم ذلك يصر مشعل على مسألة استقالته من رئاسة المكتب السياسي لحماس. وهكذا يكون السؤال المطروح هو: كيف يعقل لحركة مثل حماس تعيش حالة من الانتعاش بعد تصديها ببسالة لعدوانين صهيونيين وحشيين (2008/2009 و2012)، ويعتقد بأن الرهان على أسهمها اليوم تجارة رابحة.. كيف يمكن لها أن تتخلى ببساطة عن رجل يملك مثل تلك الكاريزما والقبول؟

صحيح أن الدائرة المحيطة بالرجل تبرر قراره ذاك بكونه يريد أن يقدم نموذجا لتخلي القائد عن موقعه وهو في قمة عطائه، وذلك في أفق إتاحة الفرصة لضخ دماء ومقاربات جديدة لرفد العمل. غير أنه من الواضح أيضا أن ثمة معطيات تنظيمية وسياسية داخلية خلافية في حماس حاضرة في قرار مشعل.

ونعلم من خلال ما يصرح به قادة في الحركة وفي الإخوان المسلمين أن ثمة جهودا كبيرة بذلت -وربما ما زالت- لإقناع الرجل بالعدول عن رأيه هذا. ومع ذلك، فإني ما زلت غير مقتنع بأن حركة مثل حماس تنتمي إلى التيار الإخواني العام بأدبياتها وتنظيراتها التربوية والتنظيمية، مضطرة إلى النزول عند رأي فرد فيها مهما علت مكانته وقيمته التنظيمية والقيادية.

وثمة إدراك داخل حماس والإخوان بأن فترة صلاحية وعطاء مشعل كرئيس للمكتب السياسي للحركة لم تنته بعد. فإذا ما ربطنا هذا الأمر بأدبيات الإخوان -ومنها حماس- بأن المناصب "تكليف لا تشريف"، يغدو من الصعب القبول بأن مشعل يرفض التجديد لولايته رغم كل الضغوط الممارسة عليه لأسباب تتعلق برؤيته الشخصية فحسب، وبأنه قرر من تلقاء نفسه وضعها فوق القرار الشوري لحركته.

إذا ما اتفقنا مع هذا التحليل، فإنه لا مناص إذن من النظر إلى المعطيات الأخرى التي تسرب، وتحديدا فيما يخص وجود بعض الخلافات بين مشعل وبعض قادة حماس، وخصوصا في قطاع غزة.

واضح أن هذه الخلافات تتعلق بقدر كبير بملف المصالحة الفلسطينية التي يبدي مشعل حماسة أكبر لها من كثير من قيادات الحركة في القطاع، وقد وصل الأمر إلى حد الخلاف -الذي أخرجه بعض قيادات غزة الحمساوية إلى العلن- على اتفاق الدوحة الذي وقعه مشعل مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس برعاية قطرية في فبراير/شباط 2012.

ورغم أن حماس عادت لتتفق على دعم الاتفاق والتوحد خلف قائدها، خصوصا بعد تأييد هنية له، فإن الضجة والبلبلة التي أثارها الاتفاق داخل الحركة أضعف -كما يبدو- موقف مشعل حينئذ.

ما سبق وغيره من الأحداث الأخرى التي لا مجال لذكرها في مقال كهذا، أمور تواترت في الإعلام وأشارت إليها تصريحات بعض قيادات حماس في غزة، وواضح أن فيها قدرا من الصحة.

الكاريزما والقيادية

غير أن قيادة مشعل ستعود للانتعاش مجددا بعد العدوان الصهيوني الأخير على قطاع غزة في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 والتصدي الباسل لحماس ومعها الفصائل الفلسطينية الأخرى له. فقد ساهم ذلك العدوان في إعادة إنتاج حماس المقاوِمة من جديد.

هذه المرة، كان مشعل حاضرا في قيادته للحركة كما في تحركاته العربية والإسلامية والدولية لوقف العدوان على القطاع وضمان تحقيق إنجاز سياسي معتبر لمقاومة وبسالة حركته عسكريا على الأرض. وفعلا، ستتمخض المفاوضات غير المباشرة مع الإسرائيليين والتي تمت عبر المخابرات المصرية عن وقف لإطلاق النار يتضمن لأول مرة رضوخا إسرائيليا لشروط تخفيف الحصار على قطاع غزة ضمن تنازلات إسرائيلية أخرى.

لقد كان هذا الإنجاز ثاني إنجاز في الآونة الأخيرة لحركة حماس تحت قيادة مشعل، وذلك بعد صفقة "وفاء الأحرار" للأسرى في أكتوبر/تشرين الأول 2011. وتوج ذلك كله بزيارة مشعل التاريخية لقطاع غزة في ديسمبر/كانون الأول 2012، حيث استقبل هناك استقبال الفاتحين وبدا من الواضح توحد كل أجنحة الحركة تحت قيادته واصطفافها خلفه.

لا شك في أن مكانة مشعل خارج صفوف حركته ما كان لها أن تكون على ما هي عليه اليوم لولا تضحيات ومقاومة وصمود وإنجازات حماس على الأرض، لكن هذا لا ينفي أيضا أن للرجل كاريزما خاصة، وحضورا فلسطينيا وعربيا وإسلاميا ودوليا لا ينكر، ومهارات قيادية واضحة، وقبولا كبيرا لدى من يعرفه، من محبيه وخصومه على السواء.

ولذلك لم يكن من المستغرب أن نجد خصما لحماس ومشعل مثل وزير الخارجية المصري الأسبق أحمد أبو الغيط، يقول في مذكراته الصادرة مؤخرا "ينبغي الاعتراف بأنني أعجبت بشخصية مشعل وبمقدرته في الحديث والجدل.. ووصل الأمر أن قلت له: سوف تكون يوما ما رئيسا لفلسطين إذا ما طورت مواقفكم نحو المفاوضات وحققت الحلم الفلسطيني...".

الجيل الرابع من القيادة الفلسطينية "الرسمية"

يمكن القول بأن القيادة الفلسطينية "الرسمية" مرت عموما بأجيال ثلاثة بعد النكبة وقيام إسرائيل في مايو/أيار 1948.

- الجيل الأول مثلته حكومة عموم فلسطين التي تشكلت في غزة بقرار من الجامعة العربية يوم 23 سبتمبر/أيلول 1948 برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي. وقد تمّ حل هذه الحكومة التي كانت تعمل تحت الوصاية المصرية، بقرار من الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر عام 1959.

- الجيل الثاني مثلته منظمة التحرير الفلسطينية التي أسست في مايو/أيار 1964 بقرار من الجامعة العربية وبضغط من عبد الناصر. وقد كان أول رئيس لها أحمد الشقيري، وتبعه يحيى حمودة رئيسا بالوكالة بعد هزيمة العرب في يونيو/حزيران 1967 أمام إسرائيل.

- الجيل الثالث مثلته أيضا منظمة التحرير الفلسطينية ولكن هذه المرة بانتقال القيادة عام 1969 إلى الفصائل الفلسطينية المقاومة، وتحديدا حركة فتح برئاسة ياسر عرفات. حينها، كان نظام عبد الناصر الخارج للتو من هزيمة مهينة أمام إسرائيل في نكسة عام 1967، يبحث عن بديل قيادي فلسطيني لمنظمة التحرير ليتحمل مسؤولية المقاومة.

وخلال أشهر وتحديدا في مارس/آذار 1968، كانت فتح وفصائل فلسطينية أخرى تتصدى ببسالة في معركة "الكرامة" لاجتياح صهيوني لشمال الأردن. وقد تمكنت تلك الفصائل -وبإسناد من بعض وحدات الجيش الأردني- من إلحاق هزيمة بالجيش الإسرائيلي، وكانت تلك بداية صعود فتح وعرفات إلى سدة قيادة العمل الفلسطيني "الرسمي"، وذلك بعدما استوعب عبد الناصر هذه القوة الفلسطينية الصاعدة وسلمها زمام قيادة المشروع الفلسطيني.

وما زالت هذه القيادة -في الإطار الواسع- هي من تقود "رسميا" المشروع الفلسطيني عبر قيادتها للمؤسسة الفلسطينية التي تحظى "رسميا" بالشرعية الفلسطينية والعربية والدولية، أي منظمة التحرير.

الآن، وفي خضم الثورات العربية التي تقوم حاليا بإعادة رسم وصياغة الخريطة السياسية والثقافية العربية، وفي ظل وصول الإسلاميين -وإن بشكل مرتبك حتى الآن- إلى الحكم في بعض الدول العربية وتحديدا في مصر، يمكن استشراف أننا قد نشهد إرهاصات ولادة شرعية فلسطينية "رسمية" جديدة رابعة.

ففي الأجيال الثلاثة السابقة لتحديد القيادة الفلسطينية "الرسمية" لعبت مصر دوما دور "بيضة القبان"، سواء أكان ذلك تحت الملكية أم ثورة الضباط الأحرار وما بعدها. ولا شك في أن مرحلتي النظام بمصر سابقا بحثتا عمن يتوافق مع رؤاهما ومصالحهما.

اليوم وصل الإخوان المسلمون إلى سدة الحكم في مصر (بغض النظر عن إشكالات هذا الوصول)، وتجاورهم غزة تحت حكم حركة حماس ذات الجذور الإخوانية، وفي ظل محيط عربي غير مستقر ويصعب التنبؤ بتوجهات أحداثه، فضلا عن أنه قابل للانفجار في أي لحظة.. وليس ذلك فحسب، ففي غزة ثمة "سلطة فصيل" مقاوم أعاد إنتاج "كرامته" -سحبا على معركة الكرامة عام 1968- الخاصة مرات عدة، وفي الضفة "سلطة فصيل" مرتهن لسياسات إسرائيل والغرب والنظام العربي التقليدي والقديم.

أعرف أن مصر -"بيضة القبان" سابقا في القرار الفلسطيني- لم تعد هي ذات مصر تحت الملكية أو ثورة الضباط الأحرار، فثمة قوى عربية أخرى برزت وتضاعف نفوذها، وتحديدا في الخليج. كما أعلم أن مصر اليوم تمر بمخاض عسير لا يعرف أحد أين ومتى وكيف سيستقر وينتهي، ونفس الأمر ينسحب على المحيط العربي كله ومستقبل الإسلاميين في ضوء المخاض القائم اليوم.

ولكن ذلك لا ينفي أن ثمة إرهاصات أولية تفيد بإمكانية تشكل محور جديد في فضاء المنطقة يتكون من مصر وتركيا وقطر، وقد تنضاف إليه ليبيا وتونس وربما غدا سوريا ما بعد الأسد، قد يعمل على الدفع قريبا نحو إنتاج قيادة فلسطينية "رسمية" جديدة قد تكون حماس طرفا أساسيا فيها.

بل إن الولايات المتحدة الساعية لتقليل انخراطها في المنطقة قد لا تضع فيتو على ذلك، بغض النظر عن الموقف الإسرائيلي. وحينها فإن نبوءة أبو الغيط قد تتحقق ويكون مشعل رئيسا لمنظمة التحرير أو فلسطين يوما.

المصلحة العامة تقدم على الخاصة

مشعل يملك الإمكانيات ويحظى بالقبول والدعم الفلسطيني والعربي والإسلامي، وله فرصة كبيرة كي يكون رمز الجيل الرابع للقيادة الفلسطينية "الرسمية". فلماذا إذن يُسْمَحُ للرجل بأن ينسحب في واحدة من أكثر المراحل حراجة في تاريخ القضية الفلسطينية؟ وكيف تقبل حماس منه ذلك؟

أعرف أن ثمة مُوازين موضوعيين لمشعل في قيادة حماس كالدكتور موسى أبو مرزوق وهنية، ولكن تبقى ميزة مشعل تلك الكاريزما والقبول الفلسطيني والإخواني والعربي والإسلامي له، فضلا عن القبول الحمساوي الواسع له والاصطفاف خلفه. أضف إلى ذلك أن حماس تخطئ كثيرا لو حصرت رئيس مكتبها السياسي وأعلى هرم السلطة فيها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما يجعله عرضة للاغتيال وتقييد الحركة يوما.

في سبتمبر/أيلول 1997 نجَّى الله مشعل من جريمة محاولة اغتيال إسرائيلية في العاصمة الأردنية عمان، ومنذ ذلك اليوم وأسهم الرجل وحماس في صعود. وفي تقديري -كمتابع لشؤون هذه الحركة ولقضية فلسطين- فإن إصرار مشعل على الاستقالة الآن قد يحقق -دون قصد- ما أرادته إسرائيل وفشلت فيه حينئذ.

لا يضير مشعل أن يقر ببعض الأخطاء الإجرائية التي وقع فيها -خصوصا عدم استشارة المكتب السياسي كهيئة- فيما قاله يوم توقيع اتفاق المصالحة في القاهرة في مايو/أيار 2011 وفي توقيعه اتفاق الدوحة عام 2012. أيضا، ينبغي على مشعل أن يأخذ في اعتباره جديا التخوف المشروع لدى كثيرين من محبي حماس ممن يخشون أن تصبح علاقاته الواسعة فلسطينيا وعربيا وإسلاميا ودوليا واضطراراه للمجاملة كثيرا، قيدا على رقبة حركته ومواقفها ومصالحها.

كما أنه ينبغي على بعض قادة حماس، وخصوصا في قطاع غزة، الناقدين لقيادته -وهم محقون في أمور كثيرة- أن يقدموا القضية والمشروع الوطني الفلسطيني ومصلحة حماس على ذواتهم وحساباتهم. هذه الدعوة تشمل مشعل أيضا، وذلك عبر ضرورة تراجعه عن قرار استقالته الخاطئ في الوقت الخطأ.

المصدر: الجزيرة نت