القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الجمعة 29 تشرين الثاني 2024

معادلة الردع.. وحماية المقدسات

معادلة الردع.. وحماية المقدسات

بقلم: د. عبدالله معروف *

لا يستطيع أحد أن يتجاهل ما يحدث اليوم في المسجد الأقصى المبارك من هجمة صهيونية غير مسبوقة على المسجد وساحاته بهدف تحقيق فكرة التقسيم الزماني بالقوة، في مقدمةٍ على ما يبدو للانتقال إلى مرحلة التقسيم المكاني التي تكلمت عنها مجموعة من الهيئات الصهيونية في رسالتها للحكومة الصهيونية مؤخراً.

لم يحدث على مر سنوات الصراع المرير في فلسطين أن فرغ المسجد الأقصى المبارك تماماً من المسلمين ساعةً كاملةً لصالح صلاة المستوطنين اليهود بهذا الشكل المفضوح. وهذا يعني أن المشروع الصهيوني في المسجد الأقصى المبارك قد حصل على الضوء الأخضر من قبل قوى دولية كثيرة للتصعيد وحسم الصراع في المسجد. ولنكن أكثر صراحةً، فالصمت العربي المطبق على ما يجري في القدس لا يمكن تفسيره بأقل من موافقة ضمنية على فرض حل التقسيم داخل المسجد الأقصى المبارك حسب الرؤية الصهيونية، فلولا وجود موافقةٍ ضمنية من بعض القوى الدولية والعربية على تطبيق هذا "الحل" الصهيوني للقضية في القدس لما تمكنت المؤسسة الاحتلالية من التمادي في أفعالها داخل المسجد إلى الحد الذي تتجرأ فيه على منع حراس المسجد الأقصى المبارك أنفسهم من المشي داخل المسجد خلال اقتحام الجماعات اليهودية المتطرفة المكان بحراسة الشرطة الصهيونية، ولا يمكننا هنا أن ننسى وثائق الجزيرة التي فضحت هذه الموافقة التي قدمها المفاوضون الفلسطينيون في وقتٍ سابق. وإن كان هذا التحليل غير دقيق، فلتتفضل دول الجامعة العربية وتتخذ موقفاً قوياً (مع خطين تحت كلمة "قوي") إزاء ما يحدث في المسجد الأقصى المبارك اليوم.

كنا قد طالبنا قبل ذلك بأقل الواجب في هذه الظروف، وذلك بالتهديد، نعم مجرد التهديد، بإلغاء الاتفاقيات والمعاهدات التي عقدتها بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني أو حتى التهديد بمراجعتها. ولكن الجميع بقي على صمته ولم يتخذ أي إجراء، مما أرسل رسالةً للمؤسسة الصهيونية بأن الضوء الأخضر قد أعطي لها لحسم هذه القضية وتصفيتها نحو التقسيم، دون أن تأخذ هذه القوى والدول درساً من ما حدث في المسجد الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل، الذي تحول بسبب نفس سياسة اللامبالاة من مسجدٍ إسلامي كان يُسمَح لليهود بالصلاة فيه بعد الاحتلال عام 1967، إلى كنيسٍ يهودي يُسمَح للمسلمين بالصلاة فيه بعد الإعلان الصهيوني الشهير عام 2009 بإعلانه جزءاً من "التراث اليهودي".. هكذا ببساطة.

وفي ظل هذه الظروف، فإن الأمل بتغيير هذه المعادلة وقلبِ الطاولة ليس معولاً على هذه الحكومات والقوى الرسمية العربية والدولية، بل أصبح فعلياً معلقاً بقدرة المقاومة الفلسطينية على الردع العسكري للمشروع الصهيوني في الأقصى المبارك، حيث ثبث بالوجه القاطع أن هذه الممارسات الصهيونية لا تردعها إلا القوة، بمعنى أن المؤسسة الصهيونية لا تخشى أبداً إلا الجهة التي تهددها باستعمال القوة للردع، وهذا ليس متوفراً اليوم في الدول المحيطة المشغولة بأحداثها الكبرى، وليس موجوداً إلا بيد المقاومة الفلسطينية في فلسطين، كل فلسطين. والظروف التي تحيط بالمقاومة في فلسطين بالرغم من صعوبتها إلا أنها تعد فرصةً ذهبيةً للتحرك للأمام بدلاً من التراجع.

فالضفة الغربية اليوم ترزح تحت احتلالين بكل معنى الكلمة، احتلال الدولة الصهيونية، واحتلال المتعاونين مع الاحتلال، ولابد للضفة أن تخرج من هذا القمقم لتطلق انتفاضتها الثالثة في وجه الاحتلالين، وما الأحداث الأخيرة التي حصلت في الخليل وغيرها من مدن الضفة الغربية إلا مقدمة على ما يبدو للانطلاق في هذا الاتجاه. أما غزة، فبالرغم مما تعانيه اليوم من ضغط هائل كبير من قبل دولة الاحتلال أو دولة الجوار إلا أن عليها أن لا تفقد معادلة الردع مع الاحتلال، وما يحدث اليوم في القدس يمثل فرصة ذهبية لدفع الأمور إلى الأمام بدلاً من التقوقع ومحاولة التعامل مع الواقع الراهن والحصار الظالم المفروض على غزة، مما سيكون له أكبر الأثر بعد ذلك في إنهاء الحصار على غزة بعد إظهارها قوة الردع المتعلقة بالقدس، ويكفيني هنا أن أضرب مثالاً من تاريخنا:

أورد ابن عساكر في تاريخ دمشق أنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصر أبو بكر رضي الله عنه على أن يكون أول قرار يتخذه باعتباره رأساً للدولة إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنه إلى الشام بالرغم من معارضة أغلب الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي كان رأيه ضرورة التريث في إنفاذ هذه البعثة العسكرية خوفاً على المدينة من ردة العرب التي بدأت معالمها تلوح في الأفق. وأطلق أبو بكر البعث وأمر أسامة بن زيد رضي الله عنه أن يمتثل تماماً لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بأن ينطلق مسرعاً ويهاجم منطقة "أبنى" في الشام في ما يشبه الاستعراض العسكري ثم يعود، وهو ما تم فعلاً، ويقول ابن عساكر: ورد خبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإغارة أسامة بن زيدٍ على ناحيةٍ من الشام على الروم في نفس اليوم، فقالوا: (ما بالى هؤلاء بموت صاحبهم أن أغاروا على أرضنا).

فظهر أن السياسة التي اتبعها أبو بكر رضي الله عنه اعتمدت أسلوب التقدم للأمام بدلاً من الترقب والتقوقع وانتظار ما تسفر عنه الأحداث لاتخاذ رد الفعل المناسب، بل إنه بهذا العمل جعل العرب والروم على حد سواء يخشون المسلمين في المدينة كثيراً، وساهم ذلك في انخذال كثير من العرب عن قتال المسلمين، وحفظ للدولة الوليدة شوكتها.

هذا المثال من التاريخ تتشابه ظروفه مع ما يجري في غزة اليوم، وما يجري اليوم في القدس في الحقيقة قد يكون فرصةً ذهبيةً للمقاومة في غزة للتقدم وقلب الطاولة على رأس الاحتلال ومعاونيه وتقديم نفسها مقاومةً قويةً لا تقهرها قوة الاحتلال بالرغم من الحصار المشدد، بل إنها قادرة على التعامل مع القضايا الكبرى الأخرى بنفس القوة التي تتعامل بها مع قضية الحصار، وفي نفس الوقت سيكون لذلك أثر كبير في إحداث ردة فعل مدوية داخل مشروع دولة الاحتلال في القدس، فهذا المشروع اليوم يهرب إلى الأمام بعد أن عرف مدى فشله في تحقيق أفقٍ حقيقي للدولة ومشروعها في ما تعتبره عاصمتها، ولا شك بأن تراجع المشروع الصهيوني بفعل هذه الردة سيكون له أكبر الأثر في إضعاف المشروع برمته أكثر وأكثر.

وأما أهلنا في القدس، فإن دورهم في هذه المرحلة هو الصمود –والصمود فقط –في وجه هذه القوة الاحتلالية الكبيرة، فهذه الأيام صعبة جداً لا شك، ولابد أن انشغال المحيط العربي بما يجري في مصر وسورية أثر كثيراً على معنويات المقدسيين، إلا أن عليهم أن لا ينسوا أبداً أن كل ما يجري في المحيط العربي منبعه ومآله في النهاية إلى القدس. وقَدَرُ المقدسيين أن يكونوا خط الدفاع الأول عن هذه المدينة وهذا المسجد، وبالتالي فإن عليهم أن يكونوا على قدر مسؤولية المرحلة، وذلك باعتبار الاحتلال احتلالاً لا دولة. فالمقدسيون ليسوا مواطنين في دولة الاحتلال حتى يتعاملوا معها كتعامل المواطنين مع دولتهم، وهي لا تعتبرهم مواطنين أصلاً، بل هم مقيمون، وبالتالي فإن عليهم إيقاف أي إجراء من شأنه أن يُفهَمَ منه موافقةٌ أو اعترافٌ بسلطة الاحتلال على المدينة والمسجد، وذلك بعدم التعامل مع الاحتلال في أي شيء.

ولنا أن نتخيل كيف سيكون وضع دولة الاحتلال في القدس لو أن جميع سكان القدس (أو أغلبهم على الأقل) امتنعوا عن الامتثال لأوامر الاحتلال بالمنع من دخول المسجد الأقصى المبارك لمئات الممنوعين منه، وامتنعوا بمجموعهم عن دفع الضرائب للاحتلال وعلى رأسها ضريبة الأرنونا وضرائب المؤسسات الصهيونية المختلفة، ولم يقبلوا استلام الهويات الإسرائيلية الممغنطة التي تريد فرضها عليهم. قد يقول قائل إن هذا الأمر يكاد يكون مستحيلاً، لكن التاريخ علمنا في القدس نفسها أن العصيان المدني ممكن، فهو ما قام به المقدسيون إبان الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الاحتلال البريطاني، وهو ما يمكن تطبيقه لأن المقدسيين ليسوا أقلية مغلوبة على أمرها، بل هم الأكثرية في القسم الشرقي من القدس.وأهلنا في الأراضي المحتلة عام 1948 عليهم دور كبير في إسناد صمود المقدسيين وتكثيف الوجود الإسلامي في المسجد الأقصى المبارك لأنهم يشكلون ما نسبته عشرون بالمائة من سكان الدولة العبرية، وهذه نسبة لا يستهان بها، وتشبه قنبلةً موقوتةً في قلب دولة الاحتلال تحسب لها الحكومة الصهيونية ألف حساب.

إن العصيان المدني الشامل في القدس سيؤدي حتماً إلى اشتداد الأزمة وربما إلى اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، خاصة ونحن في العام الثالث عشر منذ بداية الانتفاضة الثانية، التي اندلعت – للمفارقة التاريخية – في العام الثالث عشر بعد بداية الانتفاضة الأولى، وأرى أن الوقت بات ملحاً وضرورياً للانتفاضة الفلسطينية الثالثة، وهذا هو السبيل الأقوى اليوم لإيقاف الاحتلال عند الخطوط الحمراء المتعلقة بالمقدسات في فلسطين بل إلى تراجعه إلى أبعد من ذلك وإسقاط مشروعه التوسعي ونقله إلى مرحلة الانكفاء.

الأمل اليوم معلق بالمقاومة بكافة أشكالها: الشعبية والمدنية والعسكرية داخل فلسطين، ولا يمكن ردع الاحتلال وتأخير مشروعه في الوقت الراهن إلا بذلك، ولا تحتاج القدس اليوم أكثر من الوقتِ ترقباً لانجلاء الأحداث من حولها عن انتصار الشعوب في مسعاها للحرية والكرامة، لتعود الشعوب وتلتفت بعد ذلك إلى قضيتها الأولى، لأن بوصلة الأمة لم تحد يوماً عن القدس، وأثبت التاريخ الحديث ذلك.

* أستاذ دراسات بيت المقدس ومسؤول الإعلام والعلاقات العامة السابق بالمسجد الأقصى المبارك