من «بلفور» إلى ماي ... النكبة مستمرة
بقلم: فاتنة الدجاني
بين «وعد بلفور» وحكومة تيريزا ماي قرنٌ
من الزمن. مئة عام لم يطرأ خلالها تغيير يُذكر على السياسة البريطانية في محاباة اليهود
ثم إسرائيل على حساب الفلسطينيين منذ أن مُنح اليهود وطناً قومياً لهم في فلسطين.
وحين تحلُ «مئوية وعد بلفور» بعد ثلاثة
أسابيع، ستكون بريطانيا أمام امتحان أخلاقي، فإما أن تحتفل مع إسرائيل، كما أُعلن،
بهذه الجريمة، وإما أن تعتذر من الفلسطينيين وتعترف بمسؤوليتها وتصحح هذا الخطأ التاريخي
بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، بحسب ما تطالب الضحية.
والاعتذار استحقاقٌ ملح، إن لم يكن بسبب
طول سنوات المعاناة الفلسطينية، فبسبب مفاعيل هذا الوعد المشؤوم المستمرة حتى يومنا
في السياسة البريطانية إزاء إسرائيل، أو في سياسات الاحتلال الاستعماري للأراضي الفلسطينية
المحتلة. فالفلسطينيون لا ينسون أن «وعد بلفور» أصل نكباتهم وجذرها القوي.
التكفير عن هذه الجريمة ليس في وارد ماي،
لا بالاعتذار عنها ولا بتصحيح الخطأ التاريخي والاعتراف بفلسطين. كيف تعتذر عن وعد
تقول إن حكومتها «ستحتفل بذكراه باعتزاز» باعتباره «أحد أهم الرسائل في التاريخ»؟ على
الأقل هذا ما أعلنته لأصدقاء إسرائيل داخل حزبها، المحافظين، نهاية العام الماضي. وهو
أيضاً ما ردت به حكومتها على عريضة بريطانية تطالبها بالاعتذار. ذهبت ماي في هذا الرد
بعيداً، فأعربت عن فخرها بدور بلادها في قيام إسرائيل، وحددت المهمة الآن في تشجيع
التحرك نحو السلام وحل الدولتين. هل نجرؤ على السؤال عن أي دولتين تتحدث والجميع يعرف
موقف رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو من هذا الحل؟ أم أنه كلام في كلام؟
الأنكى أن ماي وجهت الدعوة إلى نتانياهو
لحضور الاحتفالات بهذه الذكرى. وقد يكونان ناقشا هذه القضية في الاتصال الهاتفي بينهما
أول من أمس. صحيح أن الحكومة البريطانية غيّرت، بفعل الضغوط والاحتجاجات الفلسطينية
والعربية، صيغة الدعوة من حضور «الاحتفالات» بهذه المئوية، إلى «إحياء ذكراه»، إلا
أن حقيقة الأمر أن الفلسطينيين غير معجبين بهذه الفذلكة اللغوية ولا يفهمون الفرق،
بل يَرَوْن هذا التعديل أقرب إلى التحايل البريطاني اللغوي منه إلى موقف مبدئي.
لوهلة، يُذكّر منطق ماي بمنطق الإمبراطورية
البريطانية التي لم تغب عنها الشمس، مع فارق واحد، الشمس غربت عنها منذ زمن، وبريطانيا
لم تعد إمبراطورية، ولا هي بريطانيا العظمى إلا على الورق. لوهلة أخرى، تبدو بريطانيا
أقرب إلى دولة عالم ثالث في استجدائها رضا إسرائيل بوصفها الباب العالي الذي من خلاله
تُحصّل تأييداً أميركياً. انحياز ماي التام لإسرائيل أقرب إلى التزلف والمداهنة. موقف
الضعيف. لكن هذا كله لن ينفع رئيسة الوزراء في حل مشكلاتها داخل حزبها، المحافظين،
وقلقها من إطاحتها. إسرائيل لن تستطيع أن تحميها.
ليس سراً أن الدول لا تعتذر أو تغير سياساتها
برضاها، بل عندما تصبح كلفة عدم الاعتذار أكبر بكثير من الاعتذار. والمطلوب والممكن
هو رفع الدعاوى أمام القضاء الدولي، وتصعيد المقاطعة لإسرائيل. لن يضر أيضاً شن حملات
ديبلوماسية وسياسية وقانونية وحقوقية وأخرى تركز على الأبعاد الأخلاقية والإنسانية
والثقافية. بالتأكيد سيكون مفيداً التواصل والتنسيق والتعاون مع الوسط السياسي البريطاني
المؤيد مثل هذه المساعي، خصوصاً زعيم المعارضة العمالية جيريمي كوربن، وهذا كان اعتذر
وأعرب عن حزنه لما تعرض له الفلسطينيون نتيجة الوعد.
أمام اعتزاز الحكومة البريطانية بوعد بلفور
كأهم إنجاز تاريخي للقرن الماضي وفي العصر الحديث، وأمام إصرارها على عدم الاعتذار،
ورفضها تأييد مطلب إقامة دولة فلسطينية، ودعمها المستمر لإسرائيل، ومحاربتها المقاطعة
الاقتصادية للدولة العبرية، وسن قانون لحماية المسؤولين الإسرائيليين الحاليين والسابقين
من الملاحقة القانونية في أراضيها بتهم ارتكاب جرائم حرب... أمام هذا كله، يبدو كأن
الوعد صدر أمس، وأن الحكومة البريطانية ملتزمة حمايته.
من «وعد بلفور» الى سياسات ماي. النكبة
مستمرة.
المصدر: الحياة