القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الخميس 28 تشرين الثاني 2024

من حيفا إلى القدس

من حيفا إلى القدس

بقلم: حسام شاكر

من حيفا انطلقت المسيرة الراجلة حتى بلغت مقصدها في القدس، لتكشف في الذكرى السابعة والستين للنكبة عن أحد التطوّرات الكبرى التي تتخلل المشهد الفلسطيني الراهن. إنهم فلسطينيو 48، الذين يستكشفون من داخل الداخل خريطة الطريق للعبور إلى صميم المشهد الفلسطيني، دون مفارقة المكان.

تهيّأ للمشروع الصهيوني سنة 1948 أنه أنجز عملية الاقتلاع، فلم تبق سوى "كسور عشرية" من الشعب الفلسطيني، ظن أنها ستنحلّ في مفاعلات الإخضاع المنهجي التي تقوم عليها "دولة اليهود". كانوا مئة ألف وقتها، فتضاعفت أعدادهم ليناهزوا اليوم مليون ونصف مليون فلسطيني، وهو ما يعني ترميماً مزدوجاً لأعداد الذين تم تهجيرهم سنة النكبة.

بيد أنّ النمو لا يقاس بالمؤشرات الديموغرافية وحدها، وإنما كذلك بالتطوّرات النوعية التي تتفاعل على أرضية الوعي بالذات.

في القصة أنهم لبثوا في بطن الحوت عقوداً سبعة حافلة بالخبرات، فأطلقوا في خطابهم المتجدد مفردات خاصة، ونحتوا مصطلحات مميزة، وابتكروا أدواتهم التي توسع هوامش الممكن في الفعل، وتفتح آفاقاً لبرامج العمل الشائك تحت سقوف الاحتلال وبين جدرانه. أتقن الجيل الفلسطيني الجديد في داخل الداخل مهارة شد القوس حتى النقطة القصوى دون الانكسار، ليسدد الرمي كما ينبغي أن يكون.

اعتمدوا لغة مفعمة بالترميز والإيحاء، ومعززة بشحنات الوعي متنامي المنسوب، حتى انتقلوا من إحياء ذكرى النكبة إلى إقامة وقائع رمزية من قبيل "يوم العودة إلى إجزم"، وهي قرية فلسطينية مهجرة سنة النكبة اختاروها موقعاً لفعالية 2015 الجماهيرية في تجسيد العودة بصفة رمزية.

إنها رسالة إنعاش لمشروع العودة، الذي يتفاعل عبر جماهير الشعب الفلسطيني في مواقع الانتشار كافة، وصولاً إلى أقاصي الأرض، رغم تملص الرسمية الفلسطينية من الالتزام بذلك.

وأن تنطلق مسيرة حيفا صوب القدس بالتحديد، حاملة الأعلام وصادحة بالهتافات، وتتمكن من تحدي قوات الاحتلال التي حاولت عرقلتهم عند بوابات المدينة، فإنها إشارة إلى الدور المركزي الذي ينهض به فلسطينيو 48 منذ عشرين سنة على الأقل نحو النقطة المركزية في معادلة الصراع.

فهم يتصدّون لمسؤولية حماية القدس، ويباشرون تنبيه الأمّة إلى أنّ "الأقصى في خطر"، ويواصلون إطلاق المشروعات والبرامج والتحركات الفاعلة على الأرض لتعزيز صمود المدينة تحت الاحتلال. فمنذ عزل القدس عن الضفة بدءاً من عهد أوسلو، وجد فلسطينيو 48 أنفسهم إلى جانب المقدسيين في مواجهة المسؤولية التاريخية التي لا تتأتى لغيرهم، بالمرابطة في المقدسات وإنعاش الهوية العربية في المدينة العتيقة التي يفترسها التهويد.

إنه تحوّل تاريخي أنضجته التجارب وصاغته المحطات، التي كان منها مذبحة كفر قاسم سنة 1956، وواقعة يوم الأرض 1976، وهبّة الجليل والمثلث مع اندلاع انتفاضة الأقصى 2000، ومحطات متعددة من المواجهة من قبيل ما جرى مطلع صيف 2014.

وفي التفاصيل وفرة من الإشارات، منها قرية العراقيب البدوية التي ما إن يهدمها الاحتلال حتى يعيد أهلها بناءها في موقعها ذاته في النقب، وقد تكرر ذلك عشرات المرات بلا هوادة.

إنها إشارة لا تخطئها العين عن ثقافة التحدي التي تتعاظم حتى ضمن ما كان بعضهم يعدّها هوامش سكانية في الصحراء ظن الاحتلال أنها قادر على هضمها.

أما قيادات فلسطينيي 48 فتتعزز شعبيتها عبر مطاردات الاحتلال وتضييقاته، فتبلورت طبقة قيادية عبر مشهد ممتد من الشيخ رائد صلاح حتى النائب حنين الزعبي، وقد جمعهما وآخرين من القيادات أسطول الحرية الذي أبحر صوب غزة سنة 2010 بكل ما في هذا من رمزية.

واضح أنّ الاحتلال يواجه معضلات مستعصية مع فلسطينيي 48 بعد أن جرّب خيارات الاقتلاع والعزل والضغط والتذويب والتضليل، حتى وجد البرلمان الإسرائيلي ذاته منهمكاً في سن تشريعات سخيفة تحظر ما يُقال وما يخالج الصدور، من قبيل التلفظ بمفردة "النكبة" أو استذكارها، مزيحاً قناع الديمقراطية الزائفة، وكاشفاً عن الصفة العنصرية الفاضحة في مشروع الاحتلال المسكون بالهواجس.

انهارت الأوهام، فمن كان عليهم بمنطق مشروع الاحتلال أن يكونوا مجرد "عرب إسرائيل"، باتوا بجدارة "فلسطينيي 48"، ويسجلون حضورهم الفاعل من داخل الداخل.

برهن هذا المكوِّن الفلسطيني الصاعد على أنه أكثر وعياً وأعمق جذوراً وأبعد نظراً من برامج "الأسرلة"، فالانتماء الفلسطيني الراسخ ألصق أزمة الهوية بدولة الاحتلال ذاتها وبمجتمعها الاستيطاني الذي يفترق إلى تجمعات إثنية متفرقة الألسن والأهواء.

لم يعد الوجود الفلسطيني في داخل الداخل مفعولاً به في معادلة الصراع، بل أصبح فاعلاً يشتد عوده يوماً بعد يوم، ويسجل حضوره باقتدار.

وقد أبطل فلسطينيو 48 نبوءة "دولة اليهود" التي خرج بها هرتزل في نهاية القرن التاسع عشر، بما يضطر دولة الاحتلال اليوم إلى الاحتماء بدفقات عنصرية مضاعفة في التشريعات والسياسات والإجراءات والشعارات، مع الإمعان في تحصيل الاعتراف من الضحية بيهودية الدولة.

إنه احتلال مرتعد الفرائص من وجود يتفاعل في أحشائه، ويمضي به إلى حتمية تاريخية لا مناص منها بحساب التاريخ.

المصدر: العربي 21