من شيطنة حماس إلى شيطنة الشعب الفلسطيني
د. عبد الحميد صيام
الشعب الفلسطيني مثله
مثل بقية الشعوب العربية، انقسم عموديا وأفقيا حول الأحداث في بلدان الربيع
العربي. فمنهم من أيد الثورة السورية ومنهم من وقف ضدها وبقي على تأييده لنظام
بشار الأسد، ومنهم من أيد وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر، ومنهم من رأى في
ذلك خطرا محدقا على القضية برمتها بعد المصالحة التاريخية بين التيارات الإسلامية
والولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها إسرائيل، ومنهم من اعتبر ثورات الربيع
العربي ردا طبيعيا من الجماهير المقهورة المهمشة على الدكتاتوريات العفنة، ومنهم
من اعتبرها مؤامرة غربية تندرج تحت اسم الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة.
استمر الانقسام وبشكل أكثر حدة حول التطورات في مصر، خاصة بعد عزل الرئيس مرسي من
قبل الجيش، فمنهم من رأى في ذلك انقلابا على الشرعية، ومنهم من رأى في ذلك تصحيحا
لمسار ثورة 25 يناير 2011 المباركة التي أسقطت نظام مبارك. ما الغريب في هذا؟ إنه
أمر طبيعي بسبب اختلاف الآراء والخلفيات والتحليل والانتماء والرؤية والتوجه
والفهم. لكن الأمر يختلف عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، فهناك من يشيطن وهناك من
يخون وكأن ما هو مسموح لكل العرب ممنوع على الفلسطينيين.
لا نشك للحظة أن هناك
علاقات مميزة بين حركة حماس ذات المرجعية الإخوانية وحركة الإخوان المسلمين في
مصر، التي وصلت الى كرسي الحكم عن طريق صناديق الاقتراع بعد 83 سنة من إنشائها.
لقد احتفلت حماس ووزعت الحلوى في شوارع غزة بعد فوز محمد مرسي في الانتخابات
الرئاسية ليصبح أول رئيس منتخب لمصر. لقد عزز انتخاب مرسي نظرية متداولة لدى
الإخوان المسلمين، مفادها أن الشعوب العربية والإسلامية، لو أتيح لها فرصة
الانتخاب الحر والنزيه لما وصل أحد للحكم إلا الاتجاهات الإسلامية. وبغض النظر عن
صحة هذه المقولة فلا شك أن الجماعات الإسلامية احتفلت بفوز أكبر وأعرق حركة
للإخوان المسلمين في العالم واعتبرتها نصرا لها وللإسلام. لكن الفشل الذريع الذي
ميز السنة الأولى من حكم مرسي واحتباسه أسيرا في بوتقة الحزب ومرجعيته الرباعية
(بديع والعريان والبلتاجي والشاطر) وعدم انفتاحه على جميع التيارات المكونة للشعب
المصري، ومحاولاته الدؤوبة لأخونة الدولة، أدى إلى اصطفاف الغالبية من الشعب
المصري ضده، وبرر(على الأقل في نظر البعض) قيام الجيش المصري بعزل الرئيس مرسي.
ومع أن هذا شأن مصري داخلي بالدرجة الأولى، إلا أن حركة حماس أصيبت بنوع من
الإحباط الصامت لهذا التغير، بينما أقامت سلطة رام الله الأفراح والليالي الملاح
لسقوط حكم الإخوان في مصر، الذي سيضعضع حركة حماس منافسها التاريخي. الذي يعنينا
هنا هو ان استغلال هذه الأوضاع الصعبة من قبل فلول نظام مبارك للنفاذ منها لشيطنة
حماس والشعب الفلسطيني ككل، وصل إلى حد التحريض على الفتك بالفلسطينيين والسوريين.
الإعلام المصري الذي
بقي مسيطرا عليه من قبل جماعات الفلول ما فتئ يلصق التهم بحركة حماس منذ البداية
في كل ما يتعرض له الشعب المصري من مشاكل. فانقطاع الكهرباء بسبب تحويلها إلى
القطاع، وأزمة الوقود بسبب تزويد القطاع بكميات كبيرة والشعب المصري بأمس الحاجة
إليها، واستهداف أفراد من الجيش المصري في سيناء بتخطيط وتدبير وتنفيذ من حركة
حماس، واقتصاد الأنفاق يلحق الأذى بالاقتصاد المصري… لكن الأمور أخذت منحى جديدا
بعد عزل الرئيس مرسي وتجريم حركة الإخوان المسلمين بشكل عام، فقد بدأت الأصوات الفلولية
تتهم حركة حماس بالوقوف خلف عمليات استهداف الجيش المصري في سيناء، والتحضير لغزو
السجون المصرية لإنقاذ الرئيس المخلوع، ولم يبق أمام الجيش المصري إلا الرد الصارم
على حركة حماس التي تشكل تهديدا للأمن القومي المصري، وذلك بإغلاق المعبر الوحيد
الرابط بين الشعبين وهدم الأنفاق وقطع أي نوع من الإمدادات للقطاع. لقد طالت
الحملة المغرضة كل الشعب الفلسطيني، ما يذكرنا بأيام إبراهيم سعدة وأسامة سرايا
وبشير نافع وجوقة الصحافيين المرتبطين بنظام المخلوع مبارك، ثم إذا كانت حركة حماس
متعاطفة مع نظام مرسي فبالمقابل فإن السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس لم تخف
فرحتها بسقوط نظام الإخوان المسلمين، وكان عباس ثاني حاكم عربي يزور مصر ما بعد 3
تموز/يوليو. فلماذا يتم شيطنة كل الشعب الفلسطيني؟ لماذا تستخدم حماس شماعة لتجريم
الشعب الفلسطيني بكامله؟
إن مصر بالنسبة
للقطاع هي الرئة التي يتنفس منها، والممر الذي يتيح للمحاصرين أن ينطلقوا منه نحو
العالم، والمشفى الذي يستقبل مرضاهم وحبة الدواء لأوجاعهم، ويد العون التي تمتد
لهم في محنهم. ومصر قبل هذه وذاك بلد التضحيات التي لا تحصى من أجل قضيتهم وقضية
مصر الأولى. فمن هو هذا الفلسطيني الذي تسول له نفسه أن يعتدى على الجيش المصري،
أو يتدخل في شؤون مصر الداخلية بهدف زعزعة أمنها؟ أليس الأمن القومي المصري مصلحة
عليا للشعب الفلسطيني بكافة مكوناته؟ لو كان هناك من تسول له نفسه أن يلحق الأذى
بمصر وجيشها لكان قد فعلها أيام المخلوع مبارك، لكن الفلسطينيين لم يحرفوا بوصلتهم
أبدا عن العدو الرئيسي الجاثم على صدورهم واعتبروا دائما أن العلاقة مع مصر
استراتيجية لا تقبل التلاعب بها، بغض النظر عمن يحكمها. أتذكرون عندما اندفع يوم
23 كانون الثاني (يناير) 2008 ما يزيد عن 300000 غزي إلى الجانب المصري كسرا
للحصار الخانق ولشراء احتياجاتهم؟ لقد تصرفوا بطريقة حضارية، فقد عادوا إلى القطاع
ولم يخلوا بنظام ولم يعتدوا على أحد ولم يأخذوا شيئا من دون دفع ثمنه نقدا، رغم
تهديدات أحمد أبو الغيط، وزير خارجية نظام مبارك، بتكسير أرجلهم. فهل يعقل أن يقوم
فلسطيني شريف بمثل هذه التدخلات غير المقبولة التي تصب في المحصلة الإسرائيلية
وتعطي تبريرا لتشديد الحصار على القطاع المحاصر أصلا وتخريب العلاقات الاستراتيجية
بين قطاع غزة ومصر. ولنفرض جدلا أن عناصر مصرية تكفيرية من بينها فلسطيني أو
اثنان، ارتكبت بعض الجرائم في سيناء؟ لماذ يعاقب الكل بذنب الفرد أو المجموعة؟
النظام العربي الرسمي
واستهداف الفلسطينيين
مصر ليست الاستثناء
لقاعدة تجريم الشعب الفلسطيني بسبب تصرف مجموعة أو أفراد، فما فتئ النظام العربي
الرسمي بكل أشكاله وأطيافه يستخدم الفلسطيني كبش فداء عندما يريد أن يبحث عن عذر
أو شماعة يعلق عليها فشله أو تقصيره أو مخططه المشبوه، لانه مهيض الجناح لا دولة
تحميه ولا قيادة كريمة تنتصر له ولا جواز سفر عادي يؤهله للحل والترحال على هواه،
ولا قاعدة آمنة يلجأ إليها في الملمات.
وللتذكير فقط، أود أن
أسرد للقراء الكرام مجموعة من الحوادث (من دون تسلسل تاريخي) قام بها أكثر من نظام
عربي، تتمحور حول فرض عقوبات جماعية على الفلسطينيين لتصرف فرد أو قائد أو مجموعة
أو تصدير أزمة داخلية واتهام الفلسطينيين زورا وبهتانا بها، أو لتغطية فشل أو
مؤامرة دنيئة لا يجد ما يبررها فيضع اللوم على الفلسطينيين جماعة وليس أفرادا:
- تتعرض كنيسة
القديسين في الإسكندرية لعملية انتحارية ليلة رأس السنة في 31 كانون الأول/ ديسمبر
2010 قتل فيها نحو 90 بريئا. المتحدث باسم الداخلية المصرية يتهم فورا ما سماه
‘جيش فلسطين الإسلامي’ غير الموجود أصلا إلا في خيال من اخترع القصة، ليتبين في ما
بعد أن وزير الداخلية نفسه حبيب العادلي كان وراء العملية.
- السيدة بثينة
شعبان، المتحدثة باسم الحكومة السورية، تصرح في أول مؤتمر صحافي لها حول الحراك
الشعبي في درعا وانتقاله إلى المدن السورية فتقول يوم 26 آذار (مارس) 2011 بالحرف:
‘أتى أشخاص من مخيم الرملة للاجئين الفلسطينيين الى قلب اللاذقية وكسروا المحال
التجارية وبدأوا بمشروع الفتنة، وعندما لم يستخدم الأمن العنف ضدهم خرج من ادعى
أنه من المتظاهرين وقتل رجل أمن واثنين من المتظاهرين’. هكذا إذن بكل بساطة تفسر
الثورة السورية بأنها مؤامرة من الفلسطينيين.
- صباح الثاني من آب
(أغسطس) 1990 يقوم جيش صدام حسين باحتلال الكويت ويلغيها من الخارطة. يدفع
الفلسطينيون الذين يقطنون ذلك البلد ثمن بعض التصريحات لرموز فلسطينية لا دخل لهم
فيها، فيطرد نحو 400000 فلسطيني من الكويت ويشتتون في الصحراء علما بأنهم كانوا
ثاني أكبر المتضررين بعد الكويتيين، فقد فقدوا أعمالهم وأملاكهم ووظائفهم
ومدارسهم. تصالح الكويتيون مع العراقيين وما زال الفلسطينيون ومؤسساتهم إلى غاية
هذه اللحظة يدفعون الثمن.
- جماعة إسلامية
مصرية متطرفة تحاول اقتحام الكلية الفنية العسكرية في القاهرة عام 1974 وتفشل. من
بين المجموعة رجل أردني من أصل فلسطيني يدعى صالح سرية (أعدم عام 1976). قوات
الأمن المصرية تقوم في جنح الظلام بجمع كافة الطلبة الفلسطينيين، وهم في بيجامات
النوم وتطردهم من البلاد، وكأن هناك مؤامرة كبرى اشترك فيها كل الطلاب لقلب نظام
حكم السادات في مصر.
- في جلسة للمجلس
الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1983 دعي مندوب البوليساريو لإلقاء كلمة، بناء
على رغبة الدولة المضيف حيث لا يملك الفلسطينيون حق الرفض أو القبول. فما كان من
المغرب إلا أن أغلق مكتب منظمة التحرير وطرد السفير ومئات الطلاب وبعض المقيمين
هناك لسنوات طويلة.
- في بداية السبعينات
في لبنان بدأت الطوائف المهمشة حسب الدستور اللبناني تدق الأبواب من أجل إعادة
صياغة عقد التوافق الاجتماعي بين الطوائف المختلفة ليكون أكثر انصافا وعدلا. القوى
الانعزالية رأت أن توجه اللوم للوجود الفلسطيني فقامت يوم 13 نيسان (أبريل) 1975 بمذبحة
لركاب حافلة من فلسطينيي مخيم تل الزعترعندما كان يمر في منطقة عين الرمانة قتل
فيها نحو 26 فلسطينيا، ليكون هذا الحادث بداية لحرب أهلية استمرت نحو 16 سنة. بعد
رحيل منظمة التحرير من لبنان في أيلول (سبتمبر) 1982 وحسب المنطق الانعزالي، كان
يجب أن تتوقف الحرب الأهلية التي أشعلها الفلسطينيون، على حد تعبيرهم. فماذا كانت
النتيجة؟ ارتكب الانعزاليون مذبحة صبرا وشاتيلا انتقاما من الفلسطينيين لكن الحرب
الأهلية بين مكونات المجتمع اللبناني لم تتوقف، بل استمرت لثماني سنوات إضافية ولم
يخمد أوارها إلا بعد أن تمت إعادة صياغة العقد الاجتماعي بطريقة أكثر انصافا في
تقاسم السلطة في اتفاقية الطائف عام 1989، التي أدت إلى وقف الحرب الأهلية عام
1990.
-أراد العقيد القذافي
أن يثبت أن اتفاقية أوسلو لا تشكل حلا للقضية الفلسطينية فتفتق خياله المريض وجنون
العظمة لديه بطرد آلاف الفلسطينيين من ليبيا عام 1995 ورميهم في الصحراء على
الحدود بين ليبيا ومصر لمدة تزيد عن السنتين، لا مصر تدخلهم ولا ليبيا تعيدهم،
(تذكرون فيلم الحدود لدريد لحام؟) وقع المئات منهم ضحايا للبرد والمرض وعقارب
الصحراء.
- بعد سقوط نظام صدام
حسين قامت فئات عنصرية وطائفية متطرفة بلوم الفلسطينيين في العراق بدعم النظام
السابق فهدموا بيوتهم وأحرقوا ممتلكاتهم وقتلوا العشرات وشردوا نحو 30000 تكدسوا
على الحدود العراقية الأردنية، والعراقية السورية. وقد أوصدت الحدود أمامهم وبقيت
مجموعة منهم في العراء نحو ثلاث سنوات إلى أن تم توزيعهم في بلدان بعيدة مثل
آيسلندا والبرازيل وتشيلي.
- في أيار/ مايو 2007
تقوم مجموعة صغيرة متطرفة تدعى ‘فتح الإسلام’ باتخاذ مخيم نهر البارد الواقع في
شمال لبنان مقرا لها، فما كان من الجيش اللبناني إلا أن هدم المخيم بالكامل وشرد
سكانه جميعا، البالغ عددهم نحو 28000 وقتل العشرات من الأبرياء الذين لا ذنب لهم
إلا أنهم من سكان المخيم.
هذا غيض من فيض
والقائمة تطول لو تناولت ما جرى للفلسطينيين في كافة الدول العربية. وأود أن أذكر
أن الفلسطينيين ليسوا مسؤولين وحدهم عن مأساتهم فقد ضاع الجزء الأكبر من فلسطين
عام 1948 وجيوش عربية خمسة أخذت على عاتقها تحرير فلسطين، وضاع الجزء الباقي من
فلسطين عام 1967 بسبب حرب عربية لم يكن الفلسطينيون طرفا فيها.
لقد تحول الفلسطينيون
إلى ‘شماعة’ تعلق الأنظمة العربية فشلها عليها بسبب القيادة الفلسطينية الرخوة
المتهالكة، التي استبدلت النضال بالمفاوضات العبثية، والعلاقة الاستراتيجية مع
الشعوب العربية صاحبة المصلحة الحقيقية في التحرير والوحدة والتضامن بالعلاقة مع
الأنظمة الدكتاتوية الفاشية الفاسدة والمرتبطة، وها هو الشعب الفلسطيني يدفع
الثمن.
لقد أظهرت تطورات
الربيع العربي أن الوصول إلى مرحلة الاستقرار محفوف بالمخاطر والمطبات والمفاجآت،
وأن استعجال الأطراف الفلسطينية في إعلان تأييدها لطرف على حساب الآخر قد يؤدي إلى
نتائج وخيمة. القضية الفلسطينية يجب أن تبقى أرفع وأسمى وأجل من زجها في صراعات
داخلية وتجييرها لصالح طرف في صراعه مع الآخر. ليتوقف النظام الرسمي العربي عن
استخدام الفلسطينيين شماعة وكبش فداء كلما واجه أزمة أو فشلا أو مؤامرة أو تقصيرا،
وللتوقف الأطراف الفلسطينية من الانتصار لطرف على حساب الآخر. لتبق القضية
الفلسطينية العادلة بؤرة لقاء لا خلاف وقاسما مشتركا بين جميع الأطياف العربية
توحد الجميع بغض النظر عن اصطفافاتهم الداخلية.
القدس
العربي، لندن، 2/8/2013