من مذكرات أسير مُحرر
بقلم: زهرة وهيب خدرج
يكاد ينتهي العام الثاني الذي يمر عليَّ خلف أبوبٍ محكمة الإغلاق، وأسوار
عالية شائكة تحيط بالمكان إحاطة السوار بالمعصم، داخل زنانة رطبة منتنة، صامتة كصمت
المقابر... فيما يسمونه بالعزل الانفرادي... أصرخ فينحصر صراخي ولا يسمعه إلا أنا...
أشكو... أئن فتردد جدران الزنزانة شكواي وأنيني إلى أن يختفي الصوت... الأيام متشابهة،
والسنة تبدو وكأنها فصل واحد... فلا مطر ولا نسمات صيف ولا ورود ربيعية ولا زيتون خريفي...
فقط رطوبة يرافقها حر شديد أو برودة شديدة وعتمة مقيتة قاتلة، وسجان ينتظر عثرتي بل
يتفنن في صنعها ووضعها أمامي... ليُضعف قوتي ويوهن عزيمتي ويهز نفسي وإيماني...
أُمضي كثير من الوقت أذرع الزنزانة الضيقة جداً ذهاباً وإياباً، أُحدق
في جدرانها العفنة... أُدقق النظر في شقوقها، وكأني بانتظار شيء جديد لم أره من قبل...
وطبعاً فكري دائماً حرٌ طليق... يروح ويجيء دون قيود معدنية تقيد حركته، أو بوابات
حديدية مغلقة أمامه... أضع في كل يوم مئات الخطط والسيناريوهات المختلفة للهروب من
هذا المعتقل... عبر نفق أحفره بأظافري في أرضية الزنزانة، لم أكن أشك في قدرتي على
ذلك... لأن حياة الحرية – في نظري- تستحق أن يكون الموت ثمناً لها في محاولة قد يكتب
لها النجاح في الهروب من هذا السجن المقيت... فأن أموت داخل الزنزانة وحيداً لا يختلف
عن الموت خلال محاولتي الهرب...
دقت الساعة البيولوجية في داخلي معلنة اقتراب وقت النوم... ففي هذه الزنزانة
التي تشبه القبر في افتقادها لأي شيء يجعلها على اتصال مع العالم الخارجي، لا فرق هنا
بين الليل والنهار... فكلامها ظلام دامس... لا يشقه إلا نور المصباح الكهربائي الضعيف
المعلق وسط الممر المحاذي للزنزانة، والذي تتسلل بعضاً من خيوط ضوئه من تحت بوابتها
الحديدة الثقيلة... فالساعة البيولوجية هي الحكم الذي يمتلك كامل الصلاحيات ليقرر متى
يكون وقت النوم ومتى يكون الاستيقاظ.
وللحديث عن النوم ومكانه قصة أخرى... فالفراش قذر منتن الرائحة، الفرشة
في قلة سمكها وشدة صلابتها والفراغات التي تتخلل حشوتها تشبه طريق اسمنتية قديمة صنعت
قبل سنوات طويلة على عجل بأيدٍ غير ماهرة، زادتها سوءاً التأثيرات التي تركها الزمن
فيها...
أنَّي للنوم أن يسبغ عليَّ نعمه وسط لسعات الحشرات التي تلوذ بالزنزانة
طوعاً هرباً من حرارة الجو في الخارج وبحثاً عن مكان رطب... تصب تلك الحشرات جام غضبها
وضيق خلقها عليَّ لتزيد من المعاناة التي تصبغ أيامي بالألم والكآبة... ليست الحشرات
وفراش النوم هي فقط أجزاء المأساة الأكثر تعذيباً وإيلاماً... ولكن يضاف إليها آلام
الرقبة والكتف وأسفل العمود الفقري التي لا تكاد تغادرني أو تسكن لتدعني أهنأ بأن أمضي
أيامي دون آلام، وحموضة المعدة التي تنتفض ثائرة في غضب بمجرد أن أستلقي على الفراش،
فتصعد إلى المريء فتحرقه، وأتذوق مرارتها الشديدة وحموضتها في فمي، كل ذلك يجتمع مع
لؤم السجان وحقده القديم عليَّ، ورغبته المستمرة بتدميري وتحطيم نفسي والتخلص مني ولكن
بشكل بطيء... فهو لا يريد ليَّ الموت السريع وإلا لقتلني في جولة التحقيق الأولى، ولكنه
يريد أن يجعلني أموت في كل يوم عشرات المرات من دون أن أستطيع الظفر بموت يرفعني لمرتبة
الشهداء عند الله ويخلصني في الوقت ذاته من حياة العذاب المتجدد التي أحياها...
ورغم كل ذلك العذاب اليومي أغرق في النوم... فأهجر الزنزانة المقيتة التي
أدفن فيها ساعات وأيام وسنوات عمري... وأعود إلى عالمي الذي أحب... فأرى أمي وأقبل
يديها وآكل من طعامها... أشم رائحة قهوتها اللذيذة التي تعبق في المكان... أجلس في
حديقة البيت وأشم شذي زهور البرتقال... وأتذوق باكورة ثمر العنب والتين، واحتضن أخي
الصغير وابنة أختي التي لم أكحل عيني برؤيتها منذ مولدها، وأقابل الأصدقاء والأحباب...
بل وأتجول في الجبال الخضراء فائقة الجمال... وأتذوق الماء شديد العذوبة من الجدول
الصغير...
لا أدري إن كان لإرادتي علاقة في أحلامي أم أنها النفس تسرح وتعود كما
كانت تقول أمي... فالأحلام الليلية غدت متنفساً لي مما أنا فيه... وأقسم لو أن السجان
علم بالسعادة التي أشعر بها في أحلامي تلك... لسعى إلى حرماني منها... فهو يجند كل
ما يستطيع من ظروف وإمكانيات لقتل صمودي وهزيمتي... ولكن خاب وخسر...
صحيح أن العزل الانفرادي مقيت على النفس... ولكني استطعت تطويعه لأن يصبح
وسيلة تساعدني في زيادة علاقتي مع ربي... فإيماني به قد ازداد كثيراً في العزل الانفرادي...
فعندما أرفع يدي داعياً لله أجده قريباً جداً مني... يسمعني... يثبتني... ويبث القوة
في جسدي ونفسي لاجتياز المواقف الصعبة والتحديات شبه اليومية التي أتعرض لها... لأكون
أنا المنتصر فيها... استطعت بحمد الله حفظ ثلاث عشرة جزءاً من القرآن مع دراسة تفسيرها...
طوال سنوات اعتقالي كنت أتمنى لو أنني أستطيع الهرب خارج أسوار المعتقل...
بأية طريقة كانت... وكنت أتخيل أنني استطعت الهروب فعلاً وأتخيل أيضاً وجه السجان عندما
يبحث عني فلا يجدني في الزنزانة... فيصاب بالهلع والجنون... ولكن؛ بفضل الله وبسواعد
المقاومة استطعت الخروج من الأسر مرفوع الرأس... لم أهرب إنما كانوا هم من فتح لي باب
الزنزانة مكرهين... ونقلوني إلى خارج السجن غصباً عنهم وعن إرادتهم... خرجت من سجني
منتصراً... مكبراً الله... داعياً إياه أن ينصر المقاومة ويسدد رميهم... فهناك كثيرون
أمثالي تضيع أيام عمرهم خلف قضبان الظلم... بانتظار أن تشرق شمس الحرية في حياتهم...
المصدر: فلسطين أون لاين