من هي أم الولد
في القدس؟
بقلم: حسام شاكر
*
يحتشد عشرات الألوف
من الإسرائيليين في أحياء القدس ويواجهون تنكيلاً وحشياً من القوات الفلسطينية بأصابعها
الرشيقة على الزناد. يسقط قتلى وجرحى من الشبان الإسرائيليين العزل وهم يهتفون
"القدس لنا"، وتتواصل انتفاضاتهم سنة بعد سنة بلا هوادة.
أي خيالات خصبة
بوسعها تصوّر شيء من هذا؟ الحقيقة هي أنّ الفلسطينيين وحدهم من يواصلون الملحمة الجماهيرية
منذ عقود مديدة، أما الإسرائيليون فلم يجربوا أدنى صور التضحية لأجل القدس رغم أنّ
قادتهم الانتهازيين يعلنون في كل محفل دولي أنهم قادمون من "العاصمة التاريخية
والأبدية للشعب اليهودي". تلك حقيقة تؤكدها التطورات الهادرة في القدس هذه الأيام،
فهي ترسم مجدداً صورة واقعية للقدس تتمرد على النسج الدعائي المنهجي الذي دأب عليه
نظام الاحتلال.
وحتى عندما تحتشد
جماهير إسرائيلية في القدس فإنّ ما يأتي بها هي برامج الأسرلة والتهويد المدعومة رسمياً
والممولة بسخاء من منظمات متخصصة عبر العالم، ولا تخرج هذه عن أن تكون استعراضاً جماهيرياً
لقوة احتلال وتخرج في النهاية بشعارات أسطورية ساذجة مشحونة بالمؤثرات المصطنعة. ثمة
حشود أخرى ذات طابع مطلبي تحتشد في القدس الغربية، ينظمها اليهود الأرثوذكس كل عدة
سنوات، وهي تلتئم فقط لمناوأة إجراءات ومشروعات قوانين إسرائيلية ذات طابع علماني،
لكن لا مسيرات تضحية لأجل القدس.
علينا أن نفهم
موقف الجمهور الإسرائيلي الذي يدرك في أعماقه أنه لا ينتمي إلى هذا المكان سوى في رواية
دعائية منسوجة بعناية بغرض التضليل.
وحتى عمليات احتلال
"القدس الغربية" سنة 1948 ثم "القدس الشرقية" سنة 1967، فكانت
في الواقع جولة عدوانية سهلة محسومة سلفاً ضمن معادلة عسكرية مضمونة النتائج بفعل اختلال
موازين القوى، رغم الطابع الدرامي الذي تحاول دعاية الاحتلال تسويق تلك النزهات العسكرية
به. ولأنّ هوية القدس تبقى عربية فلسطينية بوضوح لا تخطئه العين؛ فإنّ دعاية الاحتلال
تنهمك في سد هذه الفجوة الجوهرية بأساليبها المتجددة. هي تقوم مثلاً بإطلاق أفلام قصيرة
ومقاطع ذات طابع دعائي مفاده: "كنّا هنا، صرنا هنا".
اكتشفت الجهود
الدعائية مؤخراً حيلة جديدة بإسقاط أضواء زرقاء على أسوار القدس التي بناها العرب والمسلمون
عبر القرون، فالهوية اللونية الإسرائيلية مطلوب منها حجب الطابع العربي الفلسطيني عن
مدينة القدس، وهو طابع حي وظاهر داخل الأسوار وخارجها، متشابك إسلامياً ومسيحياً، ولا
يحتاج إلى تقنيات رفيعة لإبرازه.
تستعمل دعاية الاحتلال
الحيل الإعلامية والفنية والتقنية المتاحة جميعاً لصبغ القدس بهوية إسرائيلية مفتعلة،
فمن فنون الهندسة الضوئية، إلى استعمال الكاميرا الطائرة لتصوير المواقع بطريقة تتيح
إرفاقها بمؤثرات صوتية وتعليقات مفعمة بتزييف هوية المدينة العربية من منظور استعلائي
مفاده: نحن أسياد المكان. كما وباتت الهواية المفضلة منذ سنوات أن يظهر مسؤولون إسرائيليون
كبار في مشاهد وأعمال يقع تصويرها في أنفاق تحت البلدة القديمة، بهدف ترويجها في الشبكات
وعرضها في محافل تأييد نظام الاحتلال حول العالم. وفي هذه الأنفاق عقدت حكومة الاحتلال
اجتماعاً مكشوفاً للإعلام في الذكرى الخمسين لاحتلال القدس. خلف عقلية الحفر في الأعماق
عقدة متأصلة، تواصل الفرار من شعورها بالاغتراب عن السطح عبر إيهام الذات والآخرين
بحكاية "نحن موجودون في أعماقه".
وتنشر وزارة الخارجية
أفلاماً محبوكة على نحو يراهن على تضليل من لا يعرفون الحقيقة. تظهر في أحدها، مثلاً،
أسرة إسرائيلية شابة ودودة بطريقة تحاكي كوميديا هوليوود العائلية، تقطن شقة صغيرة
جديدة تحاكي مفهوم "الدولة الصغيرة التي يستكثرونها علينا". سرعان ما يقرع
الباب أقوام تلو أقوام يزعمون ملكيتهم الشقة، وآخرهم العرب بالطبع، ولا حديث عن الفلسطينيين
مطلقاً. عليك أن تقضي وقتاً ممتعاً مع فنون التضليل هذه، لكن لا تحاول تشغيل عقلك فتسأل
أسئلة عكسية: لماذا لم يصوروا أسرة فلسطينية معمرة في المكان يقرع بابها مستوطنون قادمون
من الولايات المتحدة بعد أن تم حشو رؤوسهم بالأساطير وجيوبهم بأموال سخية؟!
لكنّ القدس هي
من تملك الحقيقة الكاملة، وليس أذكياء الدعاية في نظام الاحتلال. يتبدد هذه الأيام
مفعول الأموال الطائلة التي استثمرتها الحكومة الإسرائيلية في احتفالات الذكرى الخمسين
لما تسميه "توحيد القدس"، التي حلّت قبل أسابيع معدودة. فتأثيرات المشاهد
الاستعراضية والمواد الترويجية والهندسة الضوئية والمعزوفات الصاخبة تبخرت جميعاً في
لحظة الحقيقة. غضبت القدس عليهم وأطلقت صيحتها الفلسطينية من جوف التاريخ، ووقف المقدسيون،
مسلمين ومسيحيين، بعشرات الألوف في الساحات والأزقة، رافضين كل تعبيرات سيادة الاحتلال
على المسجد الأقصى التي تتمثل بالبوابات الإلكترونية على مداخله وإجراءات فتحه وإغلاقه.
مشهد واحد من ميادين
القدس هذه الأيام كفيل بمحو رواية الاحتلال من أذهان تم حشوها بها، فالتضليل لا يربح
في نهاية المطاف. كان يكفي رؤية الأمهات والجدات المقدسيات في مواجهة غطرسة جنود الاحتلال
الغلاظ. ثمة روح تضحية مذهلة لدى المقدسيات والمقدسيين تنطلق من التزام بالمدينة ومقدساتها
ومعالمها وهويتها. ما لا تقوله دعاية الاحتلال للعالم في أفلامها ومقاطعها الترويجية
أنّ أهالي القدس يعيشون تحت وطأة القهر المزمن وتقع غوايتهم لإرغامهم على بيع بيوتهم
المتداعية في البلدة القديمة بمبالغ سخية للغاية، يمنحها أصحاب المليارات الموالون
لنظام الاحتلال في دول غربية ممن لا يرغبون بالعيش في القدس أساساً. لكنّ البلدة القديمة
كما "القدس الشرقية" عموماً بقيت في هويتها وملمحها السكاني عربية فلسطينية
بعد نصف قرن من حمى التهويد المنهجي.
المشاهد التي تحملها
القدس إلى العالم هذه الأيام لا تخطئها العين. هناك جماهير فلسطينية غفيرة عزلاء مكشوفة
لرصاص الاحتلال وغازاته واعتداءاته، تواصل ملحمتها المجيدة لأجل مدينة ليست كغيرها.
يعلن الفلسطينيون والفلسطينيات كل يوم أنّ حياتهم ستكون بلا معنى بدون القدس، بينما
تشكو الأوساط الإسرائيلية المسؤولة من أنّ المدينة ليست جاذبة بما فيه الكفاية للإسرائيليين
الذين يميلون بدلاً منها إلى مواقع أخرى رغم الامتيازات وعوامل الجذب التي كرستها سلطات
الاحتلال لصالحهم في القدس، على حساب أهلها الشرعيين.
لن تكتشف الأجيال
الإسرائيلية الجديدة مبرراً مقنعاً للالتصاق بأحياء البلدة القديمة إلا تحت رعاية رسمية
من نظام احتلال يمنحها الامتيازات الاقتصادية السخية والحماية الشاملة وقطع السلاح
المحمولة ليلاً ونهاراً.
علينا أن نفهم
موقف الجمهور الإسرائيلي الذي يدرك في أعماقه أنه لا ينتمي إلى هذا المكان سوى في رواية
دعائية منسوجة بعناية بغرض التضليل. هذه خبرة وقع تجريبها من قبل مع تجارب الاستيطان
الاستعماري السابقة التي تم حملها إلى بلدان تعود لأمم أخرى، فعاشت وهم السيطرة على
الحاضر والمستقبل متجاهلة هوية المكان وتاريخه، ثم أدركت الحقائق متأخرة. ومشكلة نظام
الاحتلال في فلسطين تحديداً أنه لم ينجح في إبادة أصحاب البلاد، ولن يفلح بالتالي في
إخمادهم إلى الأبد. وإن بدأ مشهد النكبة والاحتلال بجنود يطاردون أطفالاً فقد انتهى
مشهد الانتفاضات المتتالية بأطفال يطاردون جنوداً.
من المثير للفضول
فحص وجوه قوات الاحتلال التي جيء بها إلى القدس لممارسة الغطرسة والتنكيل، فهي لا تقوى
على النظر المباشر في عيون جدّات القدس العربيات بأثوابهن المطرزة وهنّ يعلنّ التحدي
وجهاً لوجه من مسافة صفر، رغم انعدام التكافؤ في ميزان القوى. لا يقين لدى المدججين
بالسلاح عند حواجز الإذلال بعقلانية قرار المجيء بهم إلى هذا المكان الذي لا يفقهون
روحه ولا يعرفون تراثه، ولا يدركون السر الذي يمنح نساء القدس شحنة الإقدام والتضحية
التي قد تكلف إحداهن حياتها عند بوابات المسجد الأقصى.
في نهاية المطاف
لن نجد جدات إسرائيليات يجدن في القدس ما يستحق التضحية بالأرواح عند حاجز عسكري فلسطيني
يمكن تخيّله. ولن نعثر على جدات إسرائيليات بفساتين مطرزة بألوان الأرض الفلسطينية
وحكايات المكان وتاريخه، سوى في دعاية الاحتلال الفجة على طريقة وزيرة الثقافة والرياضة
العنصرية ميري ريغيف، التي حشرت ذاتها بين نجوم الأفلام في مهرجان "كان"
لتظهر بفستان يحمل صورة بلدة القدس القديمة التي تقاسي الاحتلال. ولن تكتشف الأجيال
الإسرائيلية الجديدة مبرراً مقنعاً للالتصاق بأحياء البلدة القديمة إلا تحت رعاية رسمية
من نظام احتلال يمنحها الامتيازات الاقتصادية السخية والحماية الشاملة وقطع السلاح
المحمولة ليلاً ونهاراً؛ على أمل أن تأتي هذه الأجيال وتستقر.
من يسعى لفهم أحجية
القدس عليه العودة إلى حكاية "أم الولد" التي أصبحت مثلاً في فلسطين. تقول
الرواية إنّ القاضي نظر في نزاع بين امرأتين، تزعم كل منهما أنها أم الولد، فأعلن قراره:
سنذبح الصغير ونحل النزاع. صاحت إحداهما: لا يا سيادة القاضي لا تفعل، أعطها إياه!
كانت تلك هي أم الولد التي صرخت خشية عليه في لحظة الحقيقة، فمنحها القاضي ابنها، فالأخرى
لم تفزع من قراره. أعلمتم الآن من هي أم الولد في القدس؟
* باحث ومؤلف واستشاري
إعلامي