نحن في عين العاصفة.. لبنانيّين وفلسطينيّين فهل ندرك خطورة ذلك؟
عندما يتخلى لبنان عن دوره الفاعل في المعادلة العربية والاقليمية، ويختار سياسة النأي بالنفس خروجاً من أي احراج أمني أو سياسي.. فسوف يتحول بالضرورة الى مجرّد حديقة خلفيّة يجري من خلالها ممارسة الضغوط وتسجيل المواقف أو تبريرها. وهذا ما يمكن اعتباره مبرراً للأحداث التي وقعت على الساحة اللبنانية خلال الأسابيع الماضية. وهنا لا يمكن استثناء أي قوة فاعلة في الساحة اللبنانية، بما في ذلك الأجهزة الأمنية والقوى السياسية والمخيمات الفلسطينية.
ولبنان، شاء أم أبى، هو مجرد خاصرة رخوة لسوريا الكبرى. وقد كان مصدراً لمعظم الأحداث والانقلابات التي وقعت في الساحة السورية خلال عقود ما بعد الاستقلال، الى أن تنبّه «النظام» السوري الى هذه المعادلة خلال مراحل ما بعد الوحدة المصرية - السورية، حيث جرى منذ أواسط سبعينات القرن الماضي وضع اليد على هذه الساحة، بفرض الوصاية المباشرة أو غير المباشرة، مما أدى الى استقرار الأوضاع في سوريا طيلة أربعة عقود.. وصولاً إلى خروج القوات السورية من لبنان بعد مسلسل الاغتيالات عام 2005.
واذا كانت الساحة السياسية اللبنانية في حالة استعصاء بعد تلك المرحلة، فإن المخيمات الفلسطينية تحولت الى ساحة اختبار. وبما أن مخيمات الجنوب (عين الحلوة والرشيدية) كانت محكومة بقيادات فلسطينية معلومة الاتجاه، فقد جرى استقدام شاكر العبسي من السجن السوري عبر «الجبهة الشعبية - القيادة العامة» بعد ما أمضى فترة تأهيل في الساحة العراقية لدى منظمات اسلامية متطرفة، فلبث فترة في مخيم شاتيلا قرب بيروت، الى أن جرى نقله الى مخيمات الشمال: البداوي، ثم نهر البارد.. حيث أعلن هناك عن ولادة تنظيم «فتح الإسلام»، في هذا المخيم الذي لم يشهد أي صدامات مسلحة منذ خروج ياسر عرفات الثاني من لبنان عام 1985، ليجري تدمير المخيم بعد معارك طاحنة خاضها الجيش اللبناني أودت بحوالي أربعمائة قتيل، منهم 168 عسكرياً، معظمهم من أبناء محيط المخيم في عكار وقضاء المنية - الضنية.
في منتصف الشهر الماضي استيقظ المواطنون على أحداث غريبة ومتتابعة، فقد جرى اختطاف شاب كان في مكتب وزير بطرابلس للحصول على مساعدة طبيّة، في ساحة تشهد اعتصاماً للإفراج عن الموقوفين الاسلاميين لخمس سنوات دون محاكمة، ومعظمهم على شبهة الانضمام الى تنظيم فتح الاسلام. وفي اليوم التالي تبدأ الصدامات في طرابلس بين منطقتي بعل محسن والتبانة، وبعدها بأيام يجري اطلاق الرصاص من حاجز للجيش اللبناني على عالم دين ورفيقه في سيارة (الشيخ أحمد عبد الواحد ومحمد مرعب)، حيث كانا متجهين لحضور احتفال في قرية مجاورة في عكار، فسقطا شهيدين رغم أنهما لم يطلقا رصاصاً، وكل ما في الأمر أنهما لم يتوقفا على الحاجز وآثرا أن يعودا دون اتمام الطريق. بعدها اضطربت الأوضاع في لبنان الشمالي، وفي عكار تحديداً قريباً من الحدود السورية، حيث جرت عمليات قتل واختطاف، مما أوحى بأن المطلوب هو تأزيم الساحة الشمالية، اسلامية وعكارية وفلسطينية.
بالعودة الى ما وقع في مخيم النهر البارد منذ أيام. فالمعروف أن أوضاع أبناء المخيم مأزومة منذ سنوات، ذلك أن عمليات اعادة اعمار المخيم تجري ببطء شديد، ومعظم أهله ما زالوا مشرّدين لأن هناك ما يزيد على ثلاثين الف نازح ما زال معظمهم خارجه، ومن أصل خمسة آلاف شقة سكنية لم يجر انجاز وتسليم الا حوالى مائتي شقة، مع أن عمليات الاعمار بدأت بعد وقف اطلاق النار وجرف مخلفات الحرب عام 2007، واذا كانت لذلك بعض الأسباب المالية أو الفنية، فإن سوء المعاملة التي يتلقاها سكان المخيم والزائرون له ليست مقبولة من أحد، فالداخل يحتاج الى تصريح ولو كان من سكان المخيم الأصليين، والجيش يسيطر على مداخل المخيم ومخارجه، ودورياته المؤللة تجوب شوارع المخيم ليل نهار، فهو منطقة عسكرية. وقد حدث أن مر شاب على دراجة نارية منذ أيام، ولم يكن يحمل أوراقاً للدراجة، وعندما فرّ باتجاه منزله جرى الاعتداء على والدته، وحين تصدى أقرباؤه وجيرانه للدورية العسكرية ردت بإطلاق الرصاص الحيّ مما أدى الى سقوط قتيل وعدد من الجرحى. فهل تعقب دراجة يستدعي هذه العقوبات.. مثلما كان تعقب الشيخين في عكار يستدعي اطلاق الرصاص على رأسيهما؟! الكل يتبرع الآن بالقول ان هناك طابوراً خامساً دخل على الخط، وان هناك من يسعى لتأزيم العلاقة بين المخيمات الفلسطينية والجيش اللبناني. قد يكون ذلك صحيحاً، لكن ما هو الحل؟! منذ أيام انتقلت الأزمة الى مخيم عين الحلوة، أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان، فخرج اللاجئون الفلسطينيون بمظاهرة احتجاج على ما يصيب اخوانهم في مخيم البارد، فأحرقوا الدواليب وهاجموا حواجز الجيش على مداخل المخيم، مما أدى الى سقوط قتيل وعدد من الجرحى.. لكن من المسؤول، ومن الذي اطلق النار؟ الجيش يقول ان عناصره لم تفعل ذلك، والفلسطينيون يقولون ذلك.. وإن الرصاص قد يكون مصدره من «الطابور الخامس» صاحب المصلحة في تأزيم الأمور وتوتير العلاقة الفلسطينية مع الجيش.. خاصة أن هناك طرفاً ثالثاً قرب المخيم (منطقة التعمير) قد يكون الرصاص صدر منه.
ان على من يعيشون في الساحة اللبنانية أن يدركوا أن المرحلة التي تمر بها المنطقة بالغة الحرج والصعوبة، وهم يدركون أن أياً منهم لا يستطيع الغاء الآخر ولا ايقاع الهزيمة القاتلة به، وأن هناك من يعمل لصالح هذا الفريق اللبناني أو الاقليمي أو ذاك.. وأن الأزمة في سوريا بلغت مراحل حرجة تستدعي تدخلاً اقليمياً أو دولياً، سواء كان ذلك لتحقيق مصالح النظام أو المعارضة، وهذا ما يجعل الساحة اللبنانية معرّضة لموجات وتقلبات، خاصة في المناطق الحدودية الشمالية، فالمواجهة في سوريا باتت عسكرية، وهي تتركز في محافظة حمص وما حولها، لدرجة أن النظام يطالب المواطنين بالجلاء عن قراهم واحيائهم في مناطق باتت محررة، حتى يستطيع قصفها وتدميرها دون وقوع الكثير من الضحايا الذي يثقلون كاهل النظام أمام الرأي العام العالمي. فليدرك ذلك كل أطراف الساحة اللبنانية، وليسألوا الله الفرج. أما حكومتهم، فيبدو واجبها أكبر وحملها أثقل، وهيهات أن تجدي معها سياسة النأي بالنفس أو التهرب من المسؤوليات القومية والانسانية.
المصدر: كلمة الأمان – العدد 1014