"نفسيات"... في مخيم عين الحلوة
بقلم: نصري حجاج
في
بحث قمت به في مخيم عين الحلوة، قبل سنوات، عن الأمراض الأكثر انتشاراً، غير المستعصية
أو الشائعة، بين السكان، تبين أن أمراض المعدة وضيق التنفس والصداع الدائم وآلام الظهر،
وغيرها من الأمراض التي يعتقد الأطباء، عموماً، أن أسبابها نفسية أكثر منها عضوية،
أو جسدية، هي الأكثر شيوعاً.
كان
ذلك في مرحلة شهدت بروز جماعات إسلامية متعددة، وقبل العنف الأصولي الذي تطور إلى الجحيم
الذي نعيشه اليوم. سادت، آنذاك، ثقافة دينية، تتحدث عن عذابات القبر والترهيب من الموت
وهول الحساب والعقاب ببعدها الخرافي. وكانت تلك الثقافة تعكس نفسها على صحة المواطنين،
فتنتج أمراضاً تضاف إلى حالات القهر والاكتئاب الناتجة من الفقر والضياع والعوز الشديد،
والعيش في مخيم ضاق مع الزمن، حتى صار التنفس فيه للأصحاء من سكانه مستعصياً.
تذكرت،
في أثناء بحثي، تجربة الطبيب النفسي الهندي الراحل، جعفر كريم، الذي أسس، في لندن،
مركزاً فريداً للعلاج النفسي عام 1983، تحت اسم "نفسيات"، وتعني باللغة الأردية
النفس. أجريت مقابلة مع الدكتور كريم عام 1985 في مركزه الذي لا يزال قائماً، ذلك أن
تجربته أثارت اهتماماً ملحوظاً في أوساط الطب النفسي والأكاديمي البريطانية، فالذي
يميز "نفسيات" عن غيره من مراكز العلاج النفسي في بريطانيا، والدول الغربية
عموماً، أن تجربة الدكتور كريم، ودراسته الطب النفسي على أيدي تلامذة سيغموند فرويد
في فيينا، جعلته يصل إلى رؤية مختلفة لمنهجية العلاج النفسي السائدة في الغرب، فقد
ذكر لي أن زميلاً أفريقياً له في الجامعة خاض نقاشاً مع أستاذ التحليل النفسي حول عقدة
أوديب التي قدم لها فرويد تحليلاً لا يزال مؤثراً في مناهج البحث والنقد الأدبي والفني.
وكانت وجهة نظر الطالب الأفريقي أن هذه الطريقة في التحليل النفسي خاصة بالغرب وثقافته،
ولا تنطبق على الشعوب في الثقافات الأخرى، فهو، أي الطالب، يتحدر من أصول قبلية أفريقية،
ووالده متزوج من عشرات من نساء القبيلة التي يتزعمها، وكانت تلك الزوجات ينجبن، أحياناً،
في أوقات متقاربة، فتجد عشرات الأطفال في فناء القبيلة، حيث لا يعرف الطفل من هي أمه
الحقيقية، فالطفل يرضع من أي ثدي أمامه على كثرتها، ويرى في أي امرأة أمه، فلا الأطفال
يعرفون أمهاتهم، ولا الأمهات يعرفن أطفالهن الذين أنجبنهن. وقد سأل الطالب أستاذه:
كيف تريدني أن أحمل عقدة أوديب، وأنا لا أعرف من هي أمي التي ولدتني؟
من
هذه الحادثة، وجد جعفر كريم أن يؤسس مركز نفسيات، المختص بعلاج الحالات النفسية المرضية
للمهاجرين الآسيويين والأفارقة والعرب، وغيرهم من الأجانب في بريطانيا، مؤمناً بأن
المعالج النفسي يجب، وبالضرورة، أن ينتمي إلى ثقافة المريض، ولونه ولغته أحياناً، وهو
شكل من أشكال العلاج النفسي الذي يأخذ في الاعتبار كينونة المريض كاملة وشاملة، وليس
فقط العناصر الفردية للحالة، والبنى المرضية التي تقدم للمعالج، بل التجربة الحياتية
التفصيلية للمريض في العالم، وموقعه في هذا العالم، كما يراه هو ماضياً وحاضراً، وهذا
يشمل الثقافة السائدة في مجتمعه، والدين والتركيبة العائلية وقيمها الاجتماعية والفردية.
وحقيقة أن تكون، كما يرى كريم، منتمياً إلى ثقافة مختلفة، يتضمن فرضيات واعية، ولا
واعية، لدى كل من المعالج والمريض في الوقت نفسه.
ومن
الضروري لكي تكون نتيجة العلاج النفسي ناجعة أن يضع المعالجون النفسيون، بدايةً، هذه
الفرضيات الواعية واللاواعية على رأس اهتماماتهم. إن المعرفة الدينامية السيكولوجية
هي التي تساعد المعالجين في امتلاك الرؤية الواضحة، لتسليط الضوء على تلك الفرضيات
في التجربة الداخلية للمريض، وكيف يؤثر المنفى في مجتمع غريب على حياته وصحته النفسية
والجسدية، وأخيراً، كيف يمكن للمعالج أن يقربها لإيجاد الحلول الممكنة، فالمنفى أكثر
التجارب مدعاة للكآبة.
المصدر:
العربي الجديد