نقاش في محاضر الخلاف بين «فتح» و«حماس»
بقلم: ماجد كيالي
لم تضف محاضر الاجتماع بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهو رئيس السلطة والمنظمة
وقائد «فتح»، وخالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لـ «حماس»، شيئاً جديداً لمتابعي الشأن
الفلسطيني، ولا في أي من بنود الخلاف التي تم طرحها.
ولعل ما أثار الانتباه في تلك المحاضر المسرّبة، اكثر من أي شيء آخر، تدنّي
مستوى النقاش، وشخصنته، وتطرّقه إلى مجرد قضايا تتعلق بالمكانة السلطوية للحركتين المهيمنتين
على المجال الفلسطيني العام، لاسيما «فتح» في الضفة، و«حماس» في غزة، بدلاً من تركيز
النقاش على التوصل إلى توافقات، تفرضها السياسات الإسرائيلية، وأحوال الفلسطينيين المتدهورة
في الداخل والخارج، والتحولات في البيئتين الدولية والعربية.
هكذا، لم يحظ المتابع للسياسة الفلسطينية بنقاش سياسي معمق، يليق بقيادات مجرّبة،
تعرضت لاختبارات صعبة، ويفترض انها في مواجهة أسئلة معقدة، إذ بدا كل واحد من الطرفين
مشغولاً بكيل الاتهامات للطرف الأخر، والتشكيك به، وتحميله المسؤولية عن تأخّر عملية
المصالحة، وتلكؤ العالم عن تقديم الدعم السياسي والمادي للفلسطينيين.
أيضاً، ما يؤخذ على الحركتين المعنيتين تعودهما عقد اجتماعاتهما، وفتح النقاش
حول القضايا الخلافية بينهما، في حضرة الملوك والأمراء والرؤساء، وضمنه قاعات دائرة
المخابرات المصرية، ومنابر الجامعة العربية، ووسائل الإعلام، بدلاً من عقدها في رام
الله او نابلس أو غزة، او في أي مكان آخر، وهذا ليس دليل عافية بالنسبة إلى حركة وطنية
بات لها من العمر نصف قرن، مع كل المعاناة والنضالات التي بذلتها، والخبرات التي اكتسبتها.
وعدا عن انتقاص ذلك من استقلالية العمل الفلسطيني، فإن هذا الأمر يثير الشكوك حول سلامة
الإطارات الشرعية الفلسطينية، وأهليتها السياسية والتمثيلية، ناهيك عن أنه يطرح التساؤل
بشأن عدم طرح هذه القضايا امام الفلسطينيين، الذين يدفعون ثمن خيارات الفصائل.
وبصراحة، فقد بدا الطرفان، حتى في حدود النقاش بينهما، غير مقنعين، فلا قصة
«فتح» عن اعتزام حماس تنظيم انقلاب على سلطتها في الضفة بدت صحيحة، ولا قصة دعوة «حماس»
لحكومة «الوفاق» لتسلم السلطة في غزة، وممارسة صلاحياتها، بدت جادة. هذا ينطبق، أيضاً،
على رواية «حماس» بشأن تفسير التضارب في مواقفها حول مسؤوليتها عن عملية قتل المستوطنين
الثلاثة في الضفة، كما رواية «فتح» بشأن استعدادها إشراك «حماس» في تقرير خطواتها السياسية.
في الاجتماع بدا الرئيس الفلسطيني في وضع صعب، بحيث ظهر كمن يشكو من كل ما حوله،
من إسرائيل التي لم تقدم له شيئاً، ومن الإدارة الأميركية التي خذلته، ومن العرب، ومن
حماس، وحتى من حركته ذاتها، وهو وضع يعكس مأزق الخيار التفاوضي، الذي انتهجه، كخيار
وحيد، فضلاً عن انه يعكس مأزق حركة وطنية باتت في نهاية طريقها.
وباختصار، فعدا تركيزه رفض تفرّد «حماس» بقرار الحرب، وعدم تسهيلها قيام حكومة
الوفاق، فإن الرئيس الفلسطيني لم يطرح اي شيء يذكر في الاجتماع سوى طلبه موافقة «حماس»
على خطوة تفاوضية جديدة، تتأسس على الطلب من إسرائيل والولايات المتحدة الاعتراف بحق
الفلسطينيين في إقامة دولة لهم في حدود 1967، على أن تجرى مفاوضات في شأن ترسيم الحدود
خلال 3 اشهر، وأن يتم الانسحاب الإسرائيلي خلال ثلاثة اعوام، وفي حال لم يتم الاستجابة
الى ذلك، يقوم بعرض الأمر على مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار منه بهذا الشأن، على
أن تكون الخطوة التالية، في حال استخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو، وقف التنسيق الأمني
مع اسرائيل، ووقف اي تعاون معها، وحل السلطة الفلسطينية وتحميل اسرائيل مسؤوليتها كدولة
احتلال.
بديهي أن هذا الخيار لا يبدو ناضجاً، ولا ناجعاً، ولا مقنعاً، بقدر ما يبدو
مضيعة للوقت، ومجرد خيار يائس، يأتي كتحصيل حاصل لمسار اختطته القيادة الفلسطينية،
تأسس على الارتهان الكامل للخيار التفاوضي، وعدم التهيؤ لخيارات بديلة، ما أدى إلى
استمراء وضعية السلطة تحت الآحتلال، وتآكل الأهلية النضالية للبنى الوطنية الفلسطينية.
والمعنى أن الرئيس لم يطرح أي شيء جديد في هذا اللقاء سوى طلب فرصة جديدة لخياره
التفاوضي، رغم اعترافاته المتكررة أن هذا الخيار وصل إلى طريق مسدود، بعد 21 عاماً.
أما بالنسبة إلى حركة «حماس» فقد بدت في وضع أفضل، فهي ظهرت أكثر تماسكاً، وأن
ثمة لديها ما تقوله، وما تريده، في اللحظة السياسية الراهنة، وهو ما تبين في جانبين،
أولهما، حرصها الشديد على تطبيع وجودها في النظام السياسي الفلسطيني، على قاعدة الشراكة
مع حركة «فتح»، في المنظمة والسلطة، معاً، ورزمة واحدة، وهو ما كرره قائدها خالد مشعل
مرات عديدة في نص الحوار. وثانيهما، أن «حماس» لم تعد مهتمة للفجوة السياسية بينها
وبين القيادة الفلسطينية، كما في السابق، وأن هذه الفجوة باتت ضيقة جداً. وهذا ما شدّد
عليه خالد مشعل في تأكيده موافقة «حماس» على قيام دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة
(1967)، وعاصمتها القدس، مع عودة اللاجئين، والإفراج عن الأسرى، وانتهاج كل أشكال النضال
وضمنها المقاومة الشعبية (وكل هذه التعبيرات وردت في وثيقة الوفاق الوطني لعام
2006)، ما يفيد بأن «حماس» وصلت إلى حيث انتهت «فتح»، ولو متأخرة. وعليه، ربما ان تصريح
القيادي في حماس، موسى أبو مروزق، عن أن التفاوض «اصبح مطلباً شعبياً، وأنه ينبغي إدراك
أن هذه المسألة ليست محرمة»... يصبّ في هذا الاتجاه، بمعزل عن استخداماته في التنافسات
الفصائلية، او في التكيف مع الوقائع الجديدة.
مع ذلك فإن كل هذه التطورات لا تشي بإمكان تسليم «حماس» سلطتها في غزة، وهذا
هو المعنى الحقيقي لمصطلح «الشراكة»، الذي لا يعني حلها لأجهزتها الأمنية وتشكيلاتها
العسكرية، ولا فكفكة اطارها السلطوي في غزة، وإنما العمل وفق الأمر الواقع، وهذا ما
يفسّر إصرارها على الإبقاء على كادرها الوظيفي، وتحميل عبء رواتبهم (حوالى 40 ألف موظف)
للسلطة.
والحال، فإن هكذا نظرة تثير شبهتين، أولاهما، أن «حماس» مضطرة لخيار كهذا لتلافي
الضائقة التي تمر بها، بعد انهيار حكم «الإخوان» في مصر، ولصد محاولات عزلها وحصارها
سياسياً ومالياً، وضمنه فك الحصار عن القطاع، وتسهيل إدخال مواد البناء، وتحويل الأموال
اللازمة لذلك، وهي أمور لا يمكن أن تتم من دون وجود ما للسلطة. وثانيهما، أنها جادة
في مسعاها، لكن بهدف نسخ تجربة «حزب الله» في لبنان، الذي يملك السلطة من الناحية الفعلية،
مع وجود قوات ومؤسسات وموارد، واحتكاره قرار الحرب والسلم، من دون ان يكون في الواجهة
من الناحية الشكلية، ولعل هذا ما يتحسب منه الرئيس الفلسطيني وحركة «فتح» أكثر من أي
شيء أخر. وبديهي فإن الكلام المرسل هذه الأيام عن نقل تجربة غزة إلى الضفة، وفق تصريحات
بعض قادة «حماس» يعزز من مخاوف السلطة بهذا الشأن، ويحد من حماسها لتفعيل المصالحة.
بالنتيجة فإن النقاش الحاصل لم يفض الى نتيجة، إذ إن كل طرف انطلق من عدم ثقته
بالأخر، ومن مصالحه الخاصة، بمعزل عن المصلحة الوطنية الفلسطينية. بمعنى آخر، فإذا
كان ثمة مشروعية في طلب «حماس» المشاركة في القيادة، والقرار والموارد، بواقع حجمها
ودورها، وبواقع فوزها في الانتخابات التشريعية، فهي معنية بالمقابل بتغليب طابعها كحركة
وطنية على كونها حركة دينية، والتخفّف من أجندتها الإقليمية، وتحجيم الجوانب السلطوية
في علاقتها بالمجتمع. ومن الجهة الأخرى، فإن حركة «فتح» معنية بأن تدرك بأن حديثها
عن انقلاب حماس (2007)، وأخذها الفلسطينيين منفردة إلى خيارات صعبة، يشملها، أيضاً،
فهي ذاتها قامت بأول انقلاب سياسي فلسطيني، بتوقيعها منفردة على اتفاق أوسلو، وبتحولها
من حركة تحرر إلى سلطة، وتهميشها منظمة التحرير.
وبالمحصلة فإن الطرفين معنيان بإدراك مسؤوليتهما عن تدهور أحوال الشعب الفلسطيني،
وحركته الوطنية، وإن اساس التوافق بينهما ليس المشاركة في القرار والموارد والقوة العسكرية
فحسب، وإنما بالتوافق على استراتيجية سياسية، واستراتيجية كفاحية، تأخذ في الاعتبار
امكانيات الشعب، والمعطيات الدولية والعربية، والعمل على قاعدة الشراكة والتكامل، بدلاً
من البقاء في إطار التنابذ والتصارع. هذا أقل شيء يتوقعه الفلسطينيون من هاتين الحركتين،
رغم أن الواقع يبعث على اليأس أكثر.
* كاتب فلسطيني
المصدر: الحياة