القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الخميس 28 تشرين الثاني 2024

نهاية "الفياضية" في فلسطين

نهاية "الفياضية" في فلسطين

بقلم: خالد الجندي

نشر هذا المقال تحت عنوان: The End Of 'Fayyadism' In Palestine

بعد أسبوع من استقالة رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض، كانت واشنطن ما تزال تريد التصالح مع ما حدث، ومع ما قد تعنيه مرحلة ما بعد فياض. وقد وجه رحيل فياض، في نظر الكثيرين، ضربة قوية للمشروع الذي كان يشرف عليه طوال سبع سنوات لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية المستقبلية، وبالتالي لاحتمال تحقيق تسوية سلمية بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ووفقاً لأحد المحللين في واشنطن، فإن رحيل فياض يمثل "هزيمة مبكرة لوزير (الخارجية جون) كيري"، وكذلك لرئيسه. ورأى المحلل أنه "على مدى السنوات الأربع الماضية، اختارت الإدارة العمل مع عباس على حساب فياض". وفي حين يظل هذا الرأي هو الأكثر شيوعاً في دوائر السياسة في واشنطن، فإنه ينبع من فهم أساسي خاطئ لدور فياض، والأسباب الكامنة وراء إنهاء هذا الدور على حد سواء.

ولم تكن نهاية عهد فياض حتمية فحسب، بل كانت منذورة دائماً لإثارة قدر أكبر بكثير من القلق في واشنطن ولندن وبروكسل مما تثيره في رام الله، ونابلس، أو الخليل -ليس لأن الفلسطينيين لا يريدون أو لا يحتاجون إلى المؤسسات، وإنما لأن مشروع فياض لبناء المؤسسات، المعروف تحبباً باسم "الفياضية"، كان قد استنفد مساره، والأهم، أنه لم يكن متماشياً أساساً من الحقائق والسياسة الفلسطينية.

كانت مهمة فياض دائماً مهمة مستحيلة بدون شك. وفي النهاية، كان هو وانتعاشه الاقتصادي وخططه لبناء المؤسسات محكومة جميعاً بقدر النهاية، بفعل عاصفة كاملة من القوى الداخلية والخارجية -قيادة فلسطينية غير كفؤة وفاسدة، واحتلال إسرائيلي قمعي ومُنهك تماماً، و"عملية سلام" غير عاملة ولا فعالة.

وتشكل السلطة الفلسطينية في حد ذاتها "حكومة" لا تشبه أي حكومة أخرى؛ إنها ليس لديها جيش ولا سيادة على أراضيها. وفي الوقت نفسه، تظل مؤسساتها نفسها، المعتمدة بالكامل تقريباً على السخاء الأجنبي، ذات شرعية مشكوك فيها. فقد انتهت مدة صلاحية فترة ولاية الرئيس الفلسطيني محمود عباس من الناحية التقنية، في الوقت الذي لم ينعقد فيه البرلمان الفلسطيني طوال خمس سنوات. كل هذا في سياق التقسيم المنهك بين الضفة الغربية التي تهيمن عليها فتح، وقطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة حماس، الأمر الذي أصبح -بفضل الولايات المتحدة والمعارضة الإسرائيلية للمصالحة الفلسطينية الداخلية- جزءاً لا يتجزأ من "عملية السلام" التي تقودها أميركا.

وفوق ذلك، كانت حكومة فياض مقيدة ومعطلة بأزمة مالية شديدة، نجمت عن تزايد الدَّين المحلي ونضوب أموال المانحين الدوليين. وأخيراً، ولكن ليس آخراً بالتأكيد، هناك القيود التي لا تعد ولا تحصى، والتي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي نفسه، بما في ذلك مئات العوائق التي تحول دون التنقل والوصول، والتي اقتضتها طبيعة مؤسسة الاستيطان الإسرائيلية دائمة التوسع في الضفة الغربية.

وحتى في مواجهة مثل هذه الصعوبات الجمة، أثبتت جهود فياض أنها ناجحة بشكل مذهل. وفي أوائل شهر نيسان (أبريل) 2011، "صادق" البنك الدولي على وضع السلطة الفلسطينية باعتبار أنها "في وضع جيد لإقامة دولة في أي وقت في المستقبل القريب". ومنذ ذلك الحين، واصل البنك الدولي إعادة تأكيد هذا الاستنتاج، في حين حذر من أن "القيود والضوابط الإسرائيلية... تمارس تأثيراً ضاراً، ليس فقط على النمو الاقتصادي، وإنما من حيث تقييد قدرة السلطة الفلسطينية على تطوير مؤسساتها أيضاً، وكذلك الحد من حيز المناورة السياسي المتاح لها لإجراء إصلاحات أكثر صرامة".

لقد فقد الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة الإيمان منذ فترة طويلة في عملية أوسلو التي شكلت "الفياضية" آخر تجلياتها فحسب. وكانت احتجاجات "غلاء المعيشة" التي جرت في أيلول (سبتمبر) الماضي بمثابة إشارة إنذار مبكرة، وخصوصا تلك السهولة التي تحول بها الغضب الشعبي من تدابير تقشف سلام فياض إلى مطالب معممة بإلغاء اتفاقات أوسلو نفسها. وكان من الطبيعي بعد الوصول إلى الحدود القصوى مما يمكن تحقيقه، وفي غياب أي تقدم سياسي حقيقي، أن تنقلب العملية على نفسها.

من بين أمور أخرى، أثارت احتجاجات أيلول (سبتمبر) كثيراً من الأسئلة حول قيمة بناء مؤسسات الحكم في حين يجري تجاوز -إذا لم يكن عملياً، فرض- السياق الأوسع المختل وظيفياً، الذي تعمل فيه هذه المؤسسات. لماذا يجب أن تذهب 36 % من ميزانية السلطة الفلسطينية إلى الأمن في حين يتم إنفاق 2 % فقط على الزراعة؟ وبالمثل، أي قيمة يمكن أن تكون في بناء المؤسسات التي لا يمكن أن تصل إلى 40 % من مواطنيها في غزة؟ أو، المؤسسات التي لم يكن لديها برلمان عامل لما يقرب من ست سنوات؟ إلى أي مدى يمكن أن تذهب خطة الانتعاش الاقتصادي عندما يُحظر على الفلسطينيين الوصول إلى -أو تنمية 60 % من الضفة الغربية في وادي الأردن الغني بالموارد؟ باختصار، أي قيمة كانت هناك في بناء مؤسسات دولة لا تأتي أبداً إلى حيز الوجود؟!

لم يُقصد من "بناء مؤسسات" فياض مُطلقاً أن يكون مشروعاً مستقلاً يمكن أن يقف وحده. وقد فهم رعاته الدوليون؛ بما في ذلك الولايات المتحدة، أن نجاحه سوف يعتمد على التقدم الذي يتم إحرازه في المسارات الدبلوماسية والسياسية الموازية. ومع ذلك، وبوجود كل من عملية مفاوضات ذات مصداقية وتطور السياسة الفلسطينية معاً في حالة من الشلل التي فرضتها "عملية السلام"، أصبحت الفياضية بديلاً عن كل الجهود الدبلوماسية الهادفة إلى إنهاء مأزق الفلسطينيين وتوفير الوسائل السياسية المحلية لتحقيق ذلك.

وهو ما يشير كله إلى تناقض أكثر جوهرية. إن الفضل يعزى لفياض -عن حق- في تحقيق العديد من الإنجازات الكبرى؛ بما في ذلك استعادة القانون والنظام الأساسيين، وتضييق نطاق الفساد، وإعادة تأسيس معيار لثقة الجمهور في المؤسسات الفلسطينية. ومع ذلك، وإذا لم تستطع هذه الإنجازات أن تصمد أمام غياب فياض -حيث يخشى الكثيرون الآن أنها لن تصمد- فإنها لم تكن أبداً مؤسسات من حيث المبدأ. ولا شك أن أي سياسة تكون شديدة الارتباط بكائن بشري واحد مفرد، هي بالتعريف واحدة لا يمكن الدفاع عنها -وهو ما يؤكد عدم وجود بعد نظر استراتيجي في "عملية السلام" التي تقودها الولايات المتحدة، ويعرض افتقاراً مذهلاً لإسناد أي اعتبار للسياسة الفلسطينية الداخلية.

وقد تلخص ازدراء أميركا الاعتيادي للسياسة الفلسطينية الداخلية بإيجاز بليغ على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركة، فيكتوريا نولاند، في شباط (فبراير) 2012. ففي معرض ردها على سؤال حول جهود المصالحة الداخلية، صاغت نولاند الموضوع كما يلي: "إن ما يهم بالنسبة لنا، وما يهم... للعملية، والذي نحاول إبقاءه على المسار هنا هو أن يبقى عباس الرئيس، وأن يظل فياض رئيساً للوزراء". ثمّ عُرض الموقف المختزل نفسه عندما تسرب الحديث أول الأمر عن استقالة فياض المحتملة، حيث أعلن متحدث باسم وزارة الخارجية قبل الأوان (وبشكل غير صحيح): "بقدر ما أعرف، فإنه ما يزال موجوداً". ولا شك في أن التدخل الأميركي في السياسة الداخلية للدول الأخرى هو بالتأكيد أمر لم يُسمع به؛ بما في ذلك في إسرائيل. ولكن، وفي حين تظل مثل هذه التدخلات هي الاستثناء في إسرائيل وفي الأماكن الأخرى، فإنها هي القاعدة في فلسطين.

رغم إنجازاته العديدة، لم يعد فياض قابلاً للاستمرار، ببساطة، من وجهة نظر السياسة الفلسطينية الداخلية. وبينما نادراً ما اتفقت فتح وحماس على أي شيء، فإن الفصيلين المتحاربين كانا متحدين في معارضتهما الشديدة لحكم فياض، كما كان حال شريحة متنامية من السكان الفلسطينيين. ورغم كل شعبيته في الأوساط الدبلوماسية، لم تكن لفياض أي قاعدة دعم محلية مهمة. وقد فاز حزبه "الطريق الثالث" بمقعدين فقط في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ويستمر في تسجيل نسبة في الاستطلاعات تقل عن نقطة مئوية واحدة، في حين تنخفض شعبيته باطراد. ولم تكن الجماهير تحتقر فياض بأيّ معنى من المعاني، لكنه لم يكن يُنظر إليه أيضاً على أنه الشخصية الشبيهة بالمسيح التي يعتقد بها الغرب.

أما إذا ما كانت المعارضة الداخلية لفياض حكيمة أو مبررة في نظر الولايات المتحدة أو الحكومات الغربية الأخرى، فإن ذلك يبتعد كلياً عن النقطة. إن كون الفلسطينيين لا يملكون دولة فقط لا يعني أنهم لا يملكون سياسة، أو أن قادتهم يتمتعون بالحصانة ويكونون في مأمن من الرأي العام والضغوط المحلية الأخرى.

في واقع الأمر، وبالنسبة للكثيرين في الولايات المتحدة وإسرائيل، يُنظر إلى "الفياضية" ليس فقط كتمهيد لإقامة دولة فلسطينية، وإنما كوسيلة لـ"إعادة اختراع" السياسة الفلسطينية على الطريق -وهو ما قد يفسر أيضاً الكثير من القلق المحيط برحيل فياض. فمن دون فياض ومشروع بناء مؤسساته، ستجد الولايات المتحدة وإسرائيل وبقية المجتمع الدولي أنفسها وجهاً لوجه مع جوهر الصراع والأزمة -الاحتلال، المستوطنات، القدس، اللاجئين- في شكل تفعيل عملية دبلوماسية حقيقية تهدف إلى إنهاء الصراع، وستجد نفسها بالتالي وجهاً لوجه مع السياسة الفلسطينية أيضاً.

لا تعود حقيقة عدم امتلاك الفلسطينيين دولة إلى أنه ليس لديهم ما يكفي، أو النوع الصحيح والمناسب من المؤسسات. إن تلك المؤسسات موجودة فعلاً، سواء كان في شكل السلطة الفلسطينية، أو المظلة التي تبدو أكثر تمثيلاً وسلطة -منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن، حتى تعمل هذه المؤسسات بشكل صحيح، فإنها يجب أن تتمتع بالدعم السياسي والشرعية المحلية. ولكي يحدث ذلك، يجب أن ينظر إليها على أنها تعمل مع، وليس ضد تطلعات الفلسطينيين الأساسية -وبالتحديد إنهاء الاحتلال وتحقيق إمكانية تقرير المصير.

باختصار، إنه عدم وجود عملية سلام ذات مصداقية، وكذلك عدم القدرة على التصالح مع السياسة الفلسطينية، هما اللذان أديا إلى تآكل المؤسسات الفلسطينية القائمة، وليس العكس.

(ذا ديلي بيست) 22/4/2013

الغد، عمان، 28/4/2013