نهر البارد أو كيف تصنع «غيتو» وتبيّت لغماً
بقلم: نهلة الشهال
اللبنانيون، المثقلون بقلق ما يجري في سوريا وتأثيراته المتعددة عليهم، والمسحوقون بأزماتهم المعيشية الكبرى، يبدون غير مكترثين لذلك الحادث في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين حيث وقع قتلى وجرحى بسبب إطلاق الجيش اللبناني النار على محتجين فلسطينيين. هذا الفعل يتكرر بصيغ مختلفة وعلى يد فاعلين مختلفين كل يوم في لبنان، فأين الغرابة؟ ثم، من المعروف أن المضطهَد والعاجز يستسيغ وجود من يفوقه ضعفاً لينكِّل به، فيشفي بتلك الطريقة المرَضية والمنحرفة أوجاعه هو نفسه. من لا يعرف قصة الرجل الفقير الذي يعود من العمل المضني (أو من التسكع البائس باعتبار نسب البطالة المرتفعة اليوم!) فيفش خلقه بضرب امرأته التي تضرب الصغار. لا يشعر اللبنانيون اليوم بالتعاطف مع الفلسطينيين في لبنان، وقد يتعاطفون معهم في فلسطين، وقد يتعاطفون مع «القضية». هذه ظاهرة معتادة متكررة في العالم كله، لم يخترعها اللبنانيون، وليسوا فيها مبدعين!
ولكن، ورغم ذلك، فثمة ما يقال ـ ما يجب أن يقال ـ بشأن حادث نهر البارد. بداية في المباشر، وهو الأسهل: لا يُعقل أن يتمرجل الجيش اللبناني على صبيين يقودان دراجة نارية بلا ترخيص داخل أزقة المخيم، فيعتقد أن عليه توقيفهما. ويقال في رواية أولى إن اطلاق النار عليهما تم لعدم امتثالهما لأمر التوقف مما أردى أحدهما قتيلاً، ويقال في رواية إضافية إن جندياً صفع والدة الصبي الآخر حين احتجت على إيقافه...وهذا التصرف الاخير، لو ثبت، فهو عيب بكل المقاييس والاعراف.
تنغل البلد بمئات ألوف الدراجات النارية التي تقتحم الارصفة في المدن الكبرى ومنها العاصمة، وتتلوى بين السيارات حين لا تسير عكس السير، متسببة بعدد هائل من الحوادث، بعضها قاتل لأصحابها أو للمارة. فما الذي جعل أفراد ذلك الحاجز للجيش اللبناني داخل المخيم يتصرفون فجأة كشرطة سويسرية، على فرض حسن النية. وأما افتراض سوئها فمن مهمات التحليل السياسي، لا سيما أن مخططات جرّ هذا الجيش الى نزاعات تؤدي لإضعافه أو لانكشافه أكثر من أن تحصى، بينما هو المؤسسة الوحيدة في البلد التي ما تزال تحافظ على تماسكها. ومعلوم كيف تسعى التشققات الطائفية والمذهبية والجهوية العائدة لبنية المجتمع اللبناني الى التسلل اليه، وقد قدم أحدهم، من الذين يعرِّفون أنفسهم كفاعلين سياسيين، ويحق لهم التصريح على شاشات التلفزة، مقترَحاً أخرق وفاضحاً، مطالباً بانتقاء عناصر ووحدات الجيش وفق هويات مناطق انتشارها. ولا سيما كذلك أن في ملف معركة نهر البارد منذ خمس سنوات بالتمام معطيات عديدة تستدعي السؤال، ووقائع ما زالت مبهمة، حول لماذا وكيف، وحول ظهور شهية فائقة للتدمير، من غير المؤكد أن مواجهة مجموعات فتح الاسلام كانت تتطلبها.
ولا شك أن قيادة الجيش تجري تحقيقاً في الحادث الأخير الذي كانت هي ولبنان بأسره بغنى عنه، حتى لا يضاف ملف آخر ملتهب الى الملفات المفتوحة والتي تدار أصلاً بالاحتياط الدقيق وبالتعوذ من الشيطان.
ثانياً، في ما يتعدى الآني: ما زال مخيم نهر البارد بأغلب مساحته مدمراً. ما زالت لم تُسلم من الوحدات السكنية إلا 200 شقة من أصل 5500! ما زالت أغلبية الـ31 الف نازح منه، تعيش إما خارجه أو في خيم بنيت على عجل. وهكذا، ومحاطاً بالهواجس، راح يسود مطلب «العودة الى المخيم» كيفما اتفق، في تراجع عن شعار «عودة المخيم» نفسه، وهو وحده ما يمكنه جبر ما جرى في العام 2007، إذا تركنا جانبا الشعار/الاطار السياسي الذي تطيح به مثل هذه الأوضاع، أي «حق العودة»...الى فلسطين.
يقر المسؤولون الدوليون عن إعادة إعمار المخيم أن هناك بطئاً شديداً، ويلقون باللائمة على الأزمة الاقتصادية العالمية وأزمة اليورو التي حجبت اجزاء هامة من الهبات والمساعدات الاوروبية بالدرجة الاولى. والازمة ليست مرشحة للانتهاء. وبكل سذاجة، فلمَ لا تتفضل بعض الدول النفطية العربية، التي تبذل الغالي والرخيص في لبنان دعماً للمجموعات التي تقع على هواها، في دعم صندوق إعادة اعمار مخيم نهر البارد، أقله تكفيراً خالصاً لوجه الله عن السيئة آنفة الذكر. ماذا عن إيران أيضاً وفي السياق ذاته؟
ثم، هل يعقل أن يبقى المخيم محاصراً على هذه الصورة، لا يتم الدخول اليه والخروج منه إلا بتصريح عسكري، حتى بالنسبة لسكانه، حتى بالنسبة للصحافيين. هل من ضرورة لأن تنتشر حواجز الجيش اللبناني على مداخله وداخل احيائه، في استثناء عن سائر مخيمات اللجوء الفلسطيني، ما يجعله تحت السيطرة والمسؤولية المباشرتين للسلطات الامنية اللبنانية...كما كانت حال المخيمات قبل 1970. هل من وظيفة لذلك، تمهيدية مثلا لسواها، أو نموذجية، أم هي ممارسة لمنطق «غنيمة الحرب»، حرب العام 2007؟ وكيف يعيش السكان حين تُكبل الحركة منهم وإليهم على هذه الصورة الخانقة، ويقال إن 80 في المئة من شباب المخيم عاطلون عن العمل. يطالب أهالي البارد بفك «عزلة المخيم عن محيطه»، وهو كان قد غدا قبل العام 2007 مركزاً لصناعات خفيفة ومتوسطة، وللمهارات الحرفية، وللتجارة والتسوق، علاوة على خبرة أهله المتقدمة في الزراعة واشتغالهم فيها، وبالأخص في سهل عكار القريب.
تؤدي سياسات العزل والحصار والسيطرة، وانفجار سلوكيات لا يمكن وضعها سوى في خانة التنكيل، الى رعاية البغضاء. وهي متبادلة. وهذا حضن دافئ منبتٌ لسياقات لاحقة قد توفرها تداعيات ظروف المنطقة التي ما زالت في المجهول. ولكنها، أياً كانت، ليست بالتأكيد في مصلحة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ولا في مصلحة اللبنانيين جميعهم، موضوعياً، وبغض النظر عن قناعاتهم. هنا، وبناء على الواقع الجاري وعلى ما يضمره، ثمة ما يستدعي التبصر وإعادة النظر في الخيارات الممارسة والتشدد في المسلكيات. وقد كانت لافتة اللهجة الهادئة والتصالحية التي طغت على خطابي السيدين محمود عباس وإسماعيل هنية الى السلطات اللبنانية بخصوص الحادث الأخير. ولكن الخوف هو من تكرار الحادث كما جرى عند تشييع الضحية الاولى، حيث سقط ضحايا جدد... إلا إذا كانت السلطات اللبنانية تفترض أن السكان الفلسطينيين عبيد، عليهم أن يرتضوا الموت بصمت، وأنها تستبد بأهل البارد نيابة عنهم جميعاً. وهذا منافٍ لكل عرف أخلاقي وحقوقي عالمي.
نقطة أخيرة: بُني بسرعة مدهشة، في بلد تمط فيه كل المشاريع، نصب هائل ومتشاوف، موضوع على مدخل البارد، عند تقاطع الطرق المؤدية اليه وإلى مناطق عكار الجبلية والساحلية على السواء، يذكر أهل المخيم كما أهالي المناطق اللبنانية المحيطة به أن هناك 400 قتيل هم ضحايا 2007، 168 عسكرياً منهم من الجيش اللبناني، أغلبيتهم من ابناء تلك المناطق التي توفر للجيش أصلا نسبة كبيرة من عديده. هل كان التأريخ على تلك الصورة البغيضة لتلك الواقعة المؤلمة ضرورياً حقاً؟
المصدر: السفير