هكذا استحالت المفاتيح الخشبية حديداً يخترق الأبواب الموصدة
الثلاثاء 17 أيار 2011
جعفر العطار - السفير
عينان، ومفتاح
ذات يوم من شهر حزيران في العام 1948، كان فارس شحادة مضطجعاً في منزله الطيني، الواقع في شارع من شوارع قرية «لوبيا» في فلسطين. استيقظ ابن الأربعة عشر ربيعاً على أصوات رشقات نارية، فنهض يبحث عن والده. سأله: «أين بندقيتي؟»، فالتفت الأب الأربعيني إلى أسفل السرير، وأشار لابنه بأن يحمل البندقية على كتفه، ويلتحق به.
التحق الفتى بوالده، بعدما لثم أمه مودّعاً. قال لها: «المفتاح. إن لم نعد، والدي وأنا، لا تنسيه». أطرقت الأم رأسها، وضمّت ابنها إلى حضنها، من دون أن تمعن النظر في وجهه الأسمر البشرة. انهمرت زخّات من الرصاص، فانسحب الابن من حضن أمه، وشرع يركض إلى ساحة المعركة.
أسند إبهام يده اليمنى إلى السبابة، ورفع قبضته من خلف ظهره، وأدارها في الهواء كأنه يغرز المفتاح في رتاج الباب. صاح وهو يهرول: «المفتاح يا أمي. لا تنسيه». كانت القرية قد صمدت حوالى شهر بوجه الغزاة، بعد معركة دامية بين الطرفين، أدت إلى انسحاب العدو، قبل أن يعود معززاً بالأسلحة والعناصر. آنذاك، قاتل فارس إلى جانب والده، ولم يعد إلى المنزل.
حمل الفتى جسده النحيل، ونهض من بين الركام، ملتحقاً بمسيرة. فقد تحوّلت البلدة إلى حُطام، نام كثرٌ في حضنه. ومن ضمنهم، غفت والدة فارس، بعيدة عن زوجها الشهيد، وابنها الذي سيعمل في النجارة لاحقاً، صانعاً مفاتيح خشبية، تشبه المفتاح الذي لم يفارق يدي والدته.
سار الابن في المسيرة، التي انطلقت من فلسطين إلى بنت جبيل اللبنانية، قبل 63 عاماً.
عينان.
الساعة تشير إلى الحادية عشرة وخمس دقائق. بدأت الغيوم بالتفكك والتباعد، تاركةً منفذاً لسطوع شمس أياّر. ترجل المشاركون في «مسيرة العودة»، أول من أمس، من الحافلات في بنت جبيل، حاملين أعلام فلسطين، والابتسامات تعلو وجوههم. حدّقوا كثيراً في التلة الرابضة على رأس بلدة «مارون الراس». تبادلوا الابتسامات والنظرات، ومشوا.
تقافز الأطفال في أثناء سيرهم، مردّدين مقاطع من أغان وطنية، فيما أنصت ذووهم لما يقولونه، مطلقين قهقهات عالية. كم يوماً مرّ على الأطفال وهم سجناء أزقة مخيماتهم؟ كانوا يردّدون الأغاني فرحاً بالحرية، أم ابتهاجاً بالرحلة؟ أي رحلة؟ رؤية فلسطين عن بعد، أم افتراش الحديقة الكبيرة الرابضة على التلة؟ هل كان ذووهم يضحكون عليهم، أم يواسونهم في يوم نكبتهم الثالثة والستين؟
كان الآلاف، من نسوة ورجال وشبان وأطفال، يسيرون في خطّ أفقي منتظم، يتجاذبون أطراف الحديث باللكنة الفلسطينية، ومنهم من كان يمشي صامتاً، بوهن. لم تُسمع أحاديث باللكنة اللبنانية. إلى أين يسير هؤلاء؟ لماذا هم سعداء في يوم نكبتهم؟ هل حوّلت تلك السنون الحزن إلى فرح، أم إنه لا فرق بينهما؟ هل هم عائدون إلى قراهم؟ أين أمتعتهم؟ مفاتيح خشبية فقط؟ ما هي هذه اللوحة التي يتوقون إلى رؤيتها، مجرد رؤيتها؟
لمّا وصلوا إلى رأس التلة، تنفسوا الصعداء. بدا كأنهم ينتظرون عزيزاً لهم، يخرج من أسفل الوادي، ويستل منهم المفاتيح الخشبية، ليحيلها إلى حديد يخترق الأبواب الموصدة. وقفوا كالأشجار، وخلفهم حديقة مقفلة، كأنها تقول لهم: «لستم من مقامنا. ربما لو دخلتموها، لأفسدتم محتوياتها. أبقوا في الخارج، واجلسوا على الكراسي، أو افترشوا الأرض». وقفوا يتأملون اللوحة. لا طعام، ولا شراب.
كانت طيور البجع تحلّق في الفضاء. تميل بأجنحتها يمنة ويسرة، مستفزة مشاعر بعض الشباب المتحمّس لاختراق السياج: بضربة خفيفة، تميل إلى فلسطين، وتعود. عينان: كهول يتوسلون الشبان طالبين منهم عدم الهبوط إلى أسفل الوادي واجتياز الحدود، وآخرون يرون الشبان كأنهم طيور تكسّرت أجنحتها، لا يستطيعون كبح جماح طيرانها. يتذكرون أن أجنحتهم كُسرت ذات يوم عنوةً، فكيف يكسرون أجنحة غيرهم؟
عينان: واحدة اكتفت بريّ ظمأ صاحبها، من خلال نظرة تأمل، تارةً وقوفاً وطوراً جلوساً على العشب الأخضر. وعين ثانية، أبت أن ترنو عن بعد. رفض صاحبها الوقوف مكتوف الأيدي، فهبط الوادي حاملاً بيده علم فلسطين، مسنداً بيده الثانية الإبهام إلى السبابة، كأنه يغرز المفتاح في البـاب، صائحاً بأعلى صوته: «المفتاح».