القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024

هل يملك الفلسطينيون استراتيجية عسكرية؟

هل يملك الفلسطينيون استراتيجية عسكرية؟

بقلم: ماجد كيالي

كأنه لا يكفي الفلسطينيين أن حركتهم الوطنية، المتمثلة بمنظمة التحرير والسلطة والفصائل، تحتكر مجالهم السياسي العام، وتغيّب دورهم في تقرير الخيارات والسياسات، وتقصره على تحمّل المعاناة وبذل التضحيات، إذ فوق ذلك فإن هذه الحركة تنتهج خيارات معينة، من دون دراستها أو مراجعتها، بل إنها تتشبّث بها رغم ثبوت عقمها، ورغم النتائج الكارثية التي أدت إليها، لا سيما بالطريقة التي أديرت بها أحوالهم.

هذا الكلام لا يقتصر على الخيارات التفاوضية أو التسووية، إذ هو يشمل الخيارات المتعلقة بالمقاومة أو بالانتفاضة المسلحة، لأن كل الخيارات تم خوضها بطريقة مزاجية، وتبعاً للعواطف والشعارات. هذا أولاً. ثانياً، لأن هذه الخيارات لم تتأسس على حواضن مجتمعية، ولم تنهض على حوامل سياسية ناضجة، بالنظر إلى ضعف الاهتمام بعمليات البناء الداخلي. وثالثاً، لأن مجمل تلك الخيارات كان يصطدم بالواقعين العربي والدولي، ما يفسر صعوبة استثمار التضحيات والبطولات التي بذلت طوال مسيرة نصف قرن.

بيد أن المشكلة الأكبر للفلسطينيين تتمثل في أن حركتهم الوطنية مصرّة على إبقائهم، على صعيد التفكير السياسي، عند حيّز العواطف والرغبات والشعارات والمزايدات، مع تنكّرها للواقع، وتجاهلها لمسؤوليتها عن تقديم كشف حساب لشعبها، مستفيدة من غياب الشعب، بحكم تجزئته، وخضوعه لأنظمة متعددة، ومن حقيقة أنها لا تعتمد في مواردها عليه، وأنها تستمد جزءاً كبيراً من شرعيتها من الواقع العربي والدولي.

هذا الكلام أكثر ما ينطبق على فكرة الكفاح المسلح، التي رفعت إلى مرتبة القداسة، بحيث بات مجرد التساؤل عن جدواها، أو نقد إدارتها، يستوجب التشكيك والتخوين، حتى من فصائل لم تمارس العمل المسلح منذ عقود! لكن المفارقة الأكبر تتمثل في أن الفلسطينيين، مع كل ضجيجهم عن الكفاح المسلح، لم ينتجوا نظريتهم، أو استراتيجيتهم العسكرية الخاصة، رغم التجارب التي خاضوها، ومع مسيرة عمرها نصف قرن، وهذه نقطة ضعف كبيرة، ودلالة على افتقار حركتهم الوطنية للوعي بما تريده، وللمسؤولية عما تريده، وللتبعات التي تنجم عنه.

هكذا لم نسمع من أي فصيل، لا «فتح» ولا «حماس» ولا الجبهات، عن الطريقة التي سيبني بواسطتها قواته المسلحة، أو التي سيمارس بها كفاحه المسلح، من الخارج أو من الداخل، في ظل أنظمة لا تقبل من مجتمعاتها ولو مجرد تظاهرة مطلبية في مرفق من مرافقها. كما لم يشرح أحد من الفصائل، الطريقة التي سيؤمن بها السلاح، أو الموارد المالية، لتغطية نفقات آلاف المتفرغين. طبعاً يمكن لفصيل ما أن يأتي بسلاح، وموارد مالية، كما بينت التجربة، لكن ذلك ليس مجانياً، إذ يستلزم الخضوع لتوظيفات سياسية، ما يعني تحميل العمل الفلسطيني فوق طاقته، وحرفه عن طريقه، واستنفاد طاقات الفلسطينيين، وهو ما حصل في محطات عديدة. أخيراً، لم يقل أحد كيف سيتفوق على إسرائيل التي تنفق 12 بليون دولار سنوياً على الأمن والتسلح، والتي تستحوذ على أكثر الأسلحة حداثة وفتكاً، مع نظم إدارة ومعلومات تعد من الأكثر تفوقاً في العالم. بعد ذلك، ثمة ثلاث مسائل، يفترض الإجابة عليها: الأولى، هل ستترك إسرائيل الفلسطينيين كي ينشئوا جيشهم أم ستظل تشتغل على ضربهم وتدفيعهم أثماناً باهظة تصل إلى حد شلّ مجتمعهم؟ والثانية، ماذا ستفعل المقاومة المسلحة مع ضمان الدول الغربية، ولاسيما الولايات المتحدة، لأمن إسرائيل واستقرارها؟ والثالثة، ماذا ستفعل هذه المقاومة، وحلفاؤها المفترضون من الدول العربية أو الإقليمية، مع السلاح النووي الإسرائيلي؟

ليس القصد التهويل، أو التسليم لإسرائيل، كما قد يظن البعض، وإنما القصد أن انتهاج خيار ما ليس عملاً مزاجياً، ولا يتأتى من مجرد العواطف أو الرغبات والأمنيات، وإنما يفترض أن يتأتى من حسابات سياسية مدروسة، تجيب على كل التساؤلات، بحيث تتأسس الخيارات على الواقع والإمكانيات، وعلى رؤى سياسية عقلانية تمكنها من التراكم والتثمير مستقبلاً.

يجدر لفت الانتباه هنا إلى أننا نتحدث على هذا النحو بعد مسيرة مكلفة عمرها خمسون عاماً من الكفاح المسلح، في الخارج والداخل، مع انتفاضتين كبيرتين إحداهما مسلحة، وثلاث حروب على غزة وحدها في غضون ستة أعوام (2007 ـ 2014)، نجمت عنها كوارث باهظة، أخذت من أعمار الفلسطينيين وعمرانهم، من دون أن تحرر شبراً، أو تغير من موازين القوى مع إسرائيل، الأمر الذي لا يحجبه الحديث الاستهلاكي والساذج عن الانتصارات.

لنلاحظ انه رغم التضحيات والبطولات التي بذلها الشعب الفلسطيني، وضمنه في لبنان والضفة وغزة، لم تتحقق إنجازات على صعيد الأرض، ولا لجهة إضعاف إسرائيل، من النواحي العسكرية أو الاجتماعية أو الاقتصادية. بالعكس فهي تزداد قوة، على ما تؤكد الإحصائيات المتعلقة بها. لا بل إن المبالغة بمكانة الكفاح المسلح لم تقوّ مجتمعات الفلسطينيين، التي تعرضت لنزيف مستمر إن بسبب توجيه إسرائيل ضربات قاصمة لها في الداخل، بين فترة وأخرى، أو بسبب المشكلات الجمّة مع بعض الأنظمة العربية، حتى أن هذا انعكس سلباً على كياناتهم الوطنية التي غلب عليها الطابع الميليشياوي والسلطوي على حساب طابعها السياسي.

أما بالنسبة إلى الانسحاب الإسرائيلي من غزة، ومن دون التقليل من أهمية النضالات والتضحيات التي بذلت، فهي انبثقت من استراتيجية قوامها تجويف الحركة الوطنية الفلسطينية، وإشغالها بالصراعات على السلطة، وتخفيف احتكاك إسرائيل بالفلسطينيين، وفق مفهوم «الفصل»: «نحن هنا وهم هناك»، لتعزيز طابع إسرائيل كدولة يهودية إلى أقصى حد. ولعل هذا ما نجحت إسرائيل فيه بواقع نشوب الاختلاف والاقتتال والانقسام بين الفلسطينيين بعد انسحابها من غزة، وتحول «حماس» إلى سلطة، كما ينطبق ذلك على حال «حزب الله» في لبنان، بتحوله عن المقاومة منذ العام 2000، وانشغاله في الداخل اللبناني كحزب طائفي ومذهبي، ومن ثم انشغاله في سورية في قتال السوريين دفاعاً عن نظام الأسد، وكذراع إقليمية لإيران.

وللعلم فإن عدد الإسرائيليين الذين قتلوا في الضفة، منذ الاحتلال، أكبر بكثير من عددهم في غزة التي قتل فيها حوالي 230 إسرائيلياً فقط (من 1967 إلى 2005)، 38 قتلوا خلال 20 عاماً من 1967 إلى 1987، و29 في الانتفاضة الأولى (1987 إلى 1993)، و39 حتى انتفاضة عام 2000. وفي سنوات الانتفاضة الخمس قتل 124 (من أصل 1040 إسرائيلياً). («هآرتس» 23/8/2005) والمعنى أن إسرائيل انسحبت ليس فقط بسبب المقاومة، وإنما لأن القطاع لا يشكل سوى 1,3 في المئة من فلسطين، أو 7 في المئة من الأرض المحتلة (1967)، وهو مكتظ بالسكان، ويفتقر للموارد، فإسرائيل ترى أنها تحررت منه وتركته للفلسطينيين ليتدبّروا أمرهم فيه.

وبصراحة، وبعيداً عن العواطف والشعارات الاستهلاكية، فإن ذروة استخدام الفلسطينيين للكفاح المسلح تحققت في الانتفاضة الثانية، ونجم عنها مصرع أكثر من ألف عسكري ومدني إسرائيلي، منهم 452 إسرائيلياً عام 2002 (120 في شهر آذار/ مارس وحده). والنتيجة أن إسرائيل شنت حربين مدمرتين على الفلسطينيين (2002-2003) أدتا إلى استعادتها السيطرة على الضفة، وتقطيع أوصالها بالنقاط الاستيطانية والحواجز، مع تدمير بناها التحتية. بالمقابل لم يستطع الفلسطينيون الاستمرار، فبدءاً من 2003 حصل نضوب في مقاومتهم، فبدلاً من أن يستنزفوا إسرائيل باتت هي تستنزفهم. ففي عام 2003 قتل 208 إسرائيليين، وفي 2004 قتل 117 منهم، أما في 2005 فقتل 56 وفي 2006 قتل 30 وفي 2007 قتل 13، إلى الحد الذي توقفت فيه المقاومة تقريباً في الضفة وفي غزة، وبكل أشكالها الشعبية والمسلحة.

ولنتذكر أن البطولات الفذة لـ «كتائب القسام» ولكل الكتائب الأخرى، والتضحيات الجمة لأهلنا في غزة، في الحرب الثالثة (2014)، لم تستطع فرض الهزيمة على إسرائيل، إذ أن المقاومة لم تستطع فرض شروطها، فليس فقط لم تتم الموافقة على إعادة فتح المطار أو الميناء، وإنما لم يتم رفع الحصار ولا حتى إدخال مواد الإعمار.

إن على الفلسطينيين أن يتجهوا إلى بناء مجتمعهم، وترسيخ كيانهم الوطني ومؤسساتهم الجمعية، لأن هذه العملية لا تقل في أهميتها عن مقاومة إسرائيل، بل إنها أساس لها. وآن لهم أن يبحثوا عن استراتيجية نضالية، تتلاءم مع إمكانياتهم وظروفهم، وتمكنهم من المراكمة والاستثمار السياسي. وآن لبعض القيادات أن تتحدث بتواضع وموضوعية عن أحوال شعبها وواقع حركتها الوطنية، إذ كيف يمكن بناء جيوش أو تحرير فلسطين بالكفاح المسلح في ظل هذا الانهيار أو الخراب في المشرق العربي؟ وكيف يمكن الحديث عن العودة إلى فلسطين بينما مجتمعات اللاجئين تتفكك، وبينما يخوض اللاجئون غمار البحر ذاهبين إلى أوروبا؟ وكيف نتحدث عن انتصارات وإسرائيل تتحكم بحياة الفلسطينيين في الضفة وغزة؟

المصدر: الحياة