وثيقة سفر فلسطيني..!
عبدالله الشويخ
أوصله إلى المطار، وأنا أعرف أنه يحمل جرحاً كبيراً في داخله، لكنه كـبني
قومه يرى أن جروحه كلها صغيرة، إن لم يُجرح كبرياؤه، نظرت إلى عينيه طويلاً، عيناه
تختزلان قصة وطن بأكمله، عيناه قبة الصخرة، عيناه شجرة زيتون عجزت أمامها جرافات
وخيانات، عيناه كوفية على رقبة شهيد، عيناه غد مشرق، بعزّ عزيز أو ذل ذليل، سألته
مرة أخيرة عن قناعته برأيه، وإصراره على الذهاب إلى كندا الباردة البعيدة! سألته
عن مدى إيمانه بأنه سيتخلى عن ثلاثين عاماً من الذكريات معي، من أجل كوخ ثلجي
ومدخنة صدئة بجوار القطب الشمالي، ضحك كثيراً، وضحك الفلسطيني يشبه البكاء، وقال
لي: «أنت تعرف أن الأمر ليس من أجل الثلوج، كما أنني لم أشعر بغربة في دولة
الإمارات، التي أحسنت وفادة عشرات الآلاف منا، ولكنه من أجل الوثيقة، أريد أن أصبح
بشراً، بشراً فقط مثل الآخرين، مللت ما أعانيه من سفارات وشروط وقيود وإجراءات، كل
ذنبي فيها أنني أنا!».
بدأ يسرد لي حكاية عائلة خرجت من فلسطين الداخل إلى غزة، وفقدت نصف أبنائها
في تلك الرحلة، وكان اليهود خلالها يقذفون بجوار النازحين براميل بارود لا لشيء،
فقط لإضافة جوّ من الرعب العام وأصوات الانفجارات على النازحين! اسمعه وأنا أتذكر
عبارة أصبحت مرة، لكثرة تكرارها، ممن يرغبون في ادعاء الرقي من إعلاميينا العرب:
مشكلتنا ليست مع اليهود، مشكلتنا مع دولة إسرائيل فقط، وكأن السيف لا يتكوّن من
مجموعة من ذرات الحديد!
حدثني عن انتقال أسرته إلى تونس، ومن تونس إلى ليبيا، حيث أعادهم شخص مجنون
بالـ«وحدة العربية» إلى تونس، بشاحنات نقل كانت تقف على الحدود وتنزل الشحنة
بطريقة إنزال حمولة من الصخر أو الأتربة، لم أشأ أن أقاطعه لأطلب منه أن يأخذ
الأمر من الزاوية المشرقة، فهم تراب الأرض المقدسة، حيثما نزلوا، وهم حجارة ستعيد
ذاك التراب ذات يوم.
حدثني عما يعانيه في سفارات دول شقيقة وصديقة لتجديد ورقات عدة تثبت أنه
فلسطيني، وقوانين مضحكة، سفارة تمنحك وثيقة تثبت كينونتك، ثم تمنعك من دخول
أراضيها، وسفارة تشترط عليك التعهد بعدم العودة إلى وطنك، كي تنسبك إليه، وسفارة
تطلبك لكي تسلمك إلى سفارة أخرى، كي يضعوا عليك ختم الجودة!
تحدث صاحبي كثيراً، وأنا أعلم أنه لن يرضى بأن يسكن في قلبي وداري وأوراقي
الآيلة إلى الحرق، وسيصرّ على الذهاب إلى أرض الثلوج، غريباً ربما، حزيناً ربما،
لكنه كريم وشامخ، ككل شيء في أرضه، وككل شيء في قومه!
إن أمة تؤذي أبطالها، وتزعج مرقد شهدائها، ولا تبرّ أبناءهم،
ببساطة، تستحق ما يجري لها!