وقف
المفاوضات كالعودة إليها
د. عبد
الستار قاسم
تقول
الأخبار إن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية ستستأنف بعد وقف علني دام حوالي ثلاث
سنوات. هذه مجرد أخبار، ولم نقرا شيئا مكتوبا حتى الآن، ولم نسمع تصريحات واضحة حول
نصوص الاتفاق الذي توصل إليه وزير خارجية أمريكا مع قادة السلطة الفلسطينية. ليس من
الممكن الآن الدخول في تحليل مضمون الاتفاق، وعلينا الانتظار حتى نقرأ، علما أن هناك
احتمالا بعدم صدور أي شيء خطي حول الموضوع. لكن بالإمكان اللمس على التالي:
عدم
توقف المفاوضات
على
الرغم من أن الجانب الفلسطيني أعلن عن وقف المفاوضات حتى تجميد الاستيطان الصهيوني،
إلا أنه لم يوقفها تماما على مدى ثلاث سنوات. حصلت لقاءات تفاوضية بين فلسطينيين وإسرائيليين
في القدس وعمان، وصرح أحد أعمدة منظمة التحرير الفلسطينية أن المفاوضات كانت تجري في
السر. الجانب الفلسطيني لم يكن أمينا أو صادقا مع الشعب الفلسطيني إلى درجة أنه وصف
لقاءات عمان التفاوضية على أنها لقاءات استكشافية.
الأمر
الأهم أن الجانب الفلسطيني أعلن وقف المفاوضات، لكنه استمر في التنسيق الأمني مع إسرائيل.
إسرائيل ليست مهتمة كثيرا بالمفاوضات، لكنها مهتمة بالتنسيق الأمني الذي هو جوهر الاتفاقيات.
إسرائيل استعملت المفاوضات أصلا لتحويل الفلسطينيين إلى وكلاء للاحتلال أمنيا وإداريا،
وهذا ما تم لها عام 1996، ولم تعد قضية المفاوضات بعد ذلك أمرا يثير الاهتمام. التنسيق
الأمني يعني أنه إذا قام فلسطيني بقذف حجر على مستوطن فإن الأجهزة الفلسطينية تقوم
بملاحقته، والتنسيق الإداري يعني أنه إذا ولد طفل فلسطيني الآن تقوم الأجهزة الإدارية
بإرسال المعلومات حول المولود ورقم هويته ومكان ولادته إلى الإسرائيليين.
لو كانت
السلطة الفلسطينية جادة في وضع ضغط على إسرائيل لألغت التنسيق الأمني، وعندها كنا سنجد
رد فعل قاسيا من الإسرائيليين، أما وقف المفاوضات لم يثر حفيظة إسرائيل إلا قليلا للتمويه.
الدليل على هذا هو أن السلطة الفلسطينية أوقفت المفاوضات، واستمرت في التفرج على إسرائيل
تبني وتوسع المستوطنات. لو كانت السلطة فعلا جادة لقامت بعمل شيء ما لوقف الاستيطان،
أو لتخويف المستوطنين، أو لإزعاج إسرائيل، بل على العكس، استمرت السلطة باستنكار وشجب
الاستيطان ما طمأن إسرائيل أن الفلسطينيين لا ينوون التحدي.
لماذا
المفاوضات؟
إسرائيل
وأمريكا تستعملان المفاوضات لاستهلاك الوقت ليس إلا. منذ عام 1991، لم يحصل الفلسطينيون
على أي جزء من حقوقهم الوطنية، وكل ما حصلوا عليه هو بعض المال كأجر على خدماتهم الأمنية
والإدارية لإسرائيل. والهدف واضح وهو كسب الوقت من أجل تحويل الفلسطينيين إلى مجرد
أفراد يبحث كل واحد منهم على مصالحه الخاصة. وهذا ما رأيناه يتزايد منذ قيام السلطة
الفلسطينية. اكتسب الناس ثقافة الاستهلاك، وثقافة المناصب والنصب والاحتيال والرواتب،
وأصبح همّ جزء كبير من الناس البحث عن المصالح الخاصة دون الالتفات إلى المصالح العامة
أو القضايا الوطنية.
المفاوضات
تستعمل كمخدر للفلسطينيين، ولو كانت أمريكا جادة في وقف الاستيطان لاتخذت إجراءات ضد
إسرائيل، لكنها تنتقد إسرائيل في العلن، وتقدم لها كل أشكال الدعم العسكري والأمني
والسياسي والاقتصادي والمالي. ولأننا عجزة، أو متآمرين على شعبنا، نحب أن نصدق كلام
أمريكا وليس أفعالها.
أما
لماذا الضغط الآن من أجل العودة إلى المفاوضات؟ لا أعرف تحديدا، لكن ربما وجدت أمريكا
أن قطاعات من الشباب العربي في عدة بلدان عربية قد أخذوا يتحدثون ضد إسرائيل وضرورة
قطع العلاقات معها، وهذا أمر خطير قد يقضي على كل ما حققته أمريكا من تنازلات عربية.
ولهذا تلجأ أمريكا لاستخدام الفلسطينيين كأداة لإسكات شباب العرب، وذلك بجمع الفلسطينيين
والإسرائيليين على طاولة واحدة، وأحيانا وهم يتصافحون، أو يتبادلون القبل. في هذا رسالة
لكل العرب تقول إنه إذا كان الفلسطينيون أصحاب القضية المباشرين يرشفون العسل من خدود
الصهاينة فلماذا تسعون أيها الشباب العربي إلى حرمان أنفسكم من حرارة القبل، بخاصة
أن المفاوض الآن تسيفي ليفني الحاصلة على إجازة زنا دينية؟ تريد أمريكا أن تخفف من
عداء الشباب العربي لإسرائيل، وتريد التأثير عليهم نفسيا بأن الهزيمة هي عنوان العرب
دائما، والنصر دوما لإسرائيل.
حفظ
ماء الوجه
مع كل
خازوق تدقه أمريكا وإسرائيل في العرب والفلسطينيين، تعملان على تقديم شيء ما تضخمانه
في الإعلام لكي يطغى على المشهد الخازوقي الأساسي. هذا شبيه بأيام اعتراف منظمة التحرير
الفلسطينية بإسرائيل والذي حاولت التغطية عليه بإعلان الدولة. اعترفت بإسرائيل عام
1988، وطلبت من الناس الخروج إلى الشوارع احتفالا بإعلان الدولة، وساهم الإعلام في
تضليل الشعب. خرج الناس يهتفون ويدبكون ويوزعون الحلوى، وصحوا بعد ذلك على لا دولة.
لكي
يتكرر المشهد والذي للأسف يمر على أغلب شعبنا الفلسطيني ويصدقونه، ستقوم أمريكا وإسرائيل
بخطوات مثل:
أ-
تقديم بعض المال للسلطة الفلسطينية لتحسين بعض الأوضاع المالية والاقتصادية بخاصة أن
الشهر رمضان والصدقات قد حل أوانها. هذا سيلهي الناس بالمزيد ويحول أنظارهم من القضية
الوطنية إلى القضية الاستهلاكية. هذا يعبر عن نقطة ضعيفة شنيعة وجدها أهل الغرب والإسرائيليون
فينا وهي أننا، أو جزء غير قليل منا، على استعداد لمقايضة المصلحة الوطنية بالمال،
بل لمقايضة الوطن بالمال.
ب-
تسهيل عمل المزيد من العمال الفلسطينيين في المنشآت الصهيونية، على اعتبار أن هذا أحد
إنجازات السلطة، والذي يؤدي إلى انتعاش الأسواق في مدن الضفة الغربية. وهنا مشكلة شنيعة
أيضا متمثلة في عجز الفلسطينيين عن تطوير مشاريع اقتصادية تستقبل قوى الإنتاج البشرية،
وبدلا من ذلك يتم توظيف قوى الإنتاج الفلسطينية في مصالح إسرائيل.
ت-
الإفراج عن بعض المعتقلين، وخروج الأهالي لاستقبال المحررين. الأصل في هذا أن الأسرى
قد قدموا تضحياتهم من أجل القضايا الوطنية، ولا يجوز أن يخرجوا على حساب هذه القضايا.
الأصل أن تكون هناك استراتيجية فلسطينية لتحرير الأسرى، لا تنازلات من أجل خروجهم.
أمور
كهذه سيتناولها الإعلام بالتفصيل والتكرار حتى يغطي على ما تقدمه السلطة من تنازلات.
نحن
لسنا أصحاب قرار
يخطئ
من يظن أن السلطة الفلسطينية صاحبة قرار أو إرادة حرة تمكنها من اتخاذ قرارات هامة.
تستطيع السلطة أن تتخذ قرارات فرعية هامشية لا تؤثر على مصالح إسرائيل الحيوية، وإذا
اقتربت السلطة من المساس بما تراه إسرائيل مهما لها فإنها تجد غلظة بالتعامل.
الأمر
بسيط، من يأكل من خير غيره عليه أن يطيع ذلك الغير، وأمريكا وإسرائيل رتبتا أوضاعنا
الاقتصادية والمالية بطريقة تجعلنا أدوات مطيعة. فمن ظن أن عندنا رئيس سلطة يستطيع
اتخاذ قرارات كما شاء، أو رئيس حكومة ووزراء يقررون فإن عليه مراجعة ظنونه.
تركتنا
أمريكا بعيدين عن طاولة المفاوضات تحت ظروف معينة، لكنها أمرت بالعودة إلى المفاوضات
عندما تغيرت الأحوال.
اجتماع
ما يسمى بالقيادة في رام الله
شاهدنا
على التلفاز عناصر قيادية تتوافد إلى مقر اجتماع القيادة في رام الله لتدارس أمر استئناف
المفاوضات، وصدر قرار عن المجتمعين أنه لا عودة إلى المفاوضات إلا بتجميد الاستيطان.
وقد ظهر عدد منهم على شاشات التلفاز يزمجر بكلمات كبيرة وكأنه قد كسب معركة السهول
الخضراء.
كان
الأمر مضحكا عندما فوجئ هؤلاء بعد حوالي 24 ساعة من قرارهم التاريخي بإعلان وزير خارجية
أمريكا عن استئناف المفاوضات.
وأنا
أشاهد هؤلاء كانت أمامي حقيقة وهي أن هؤلاء لا يمكن أن يكونوا في هذا النعيم لولا أموال
أمريكا وتلك التي تجمعها إسرائيل وترسلها للسلطة. أمريكا تقدم الأموال ليقولوا نعم،
ومن كان منهم سيصر على قول لا فإن النعيم سينقطع عن أجهزته الجسمانية الاستهلاكية.
بعض
الخجل مطلوب، لكن الأمر في النهاية بيد الشعب، وعلينا نحن شعب فلسطين ألا نبقى خانعين
وكأن الديار ليست ديارنا. الثورة قد حان ميقاتها.