القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الخميس 28 تشرين الثاني 2024

يوميات غزّة وأهلها في «حياة معلّقة»

يوميات غزّة وأهلها في «حياة معلّقة»

بقلم: عاطف أبو سيف

لا يريد سليم، أن يكون مصير والده نعيم، الذي باغتته رصاصة المحتل، صورة مُلصقة على جدار. فكم كان يتألّم والده وهو يقلّب صور الشهداء ويطبعها، لتصبح «بوسترات» يمرّ عنها الناس في الشارع كما يمرون أمام يافطات المحلات والإعلانات. «يعزعليّ أن يتحول أبي إلى مجرد صورة على جدار... لم يكن ذلك إطلاقاً... كان يحزن حين يرى الشباب صوراً على الجدار... أنا أعرف».

المكان في رواية «حياة معلّقة» (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان) هو مخيّم في قطاع غزة. أمّا الزمان فهو آخر ربع قرن، وما تخلّلها من تحولات، بدءاً بالانتفاضة الأولـــى ثم فترة دخول السلطة الى غزة وصــولاً إلى انتخابات عام 2006، وما تلاها من تغيير في السلطة، وما ترتّـــب عليه من تغييرات اجتمـاعيــة واقتصـــادية وسياسيــة. هكذا لم يغفل الروائي الفلسطينـي عاطـــف أبو سيف عن التطرق الى الحياة في غزة بكلّ تحولاتها، وعلى مدار أكثر من عقدين.

يعرج أبو سيف، الذي وصل بروايته إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، (منعته حركة «حماس» من السفر الى المغرب للمشاركة في معرض الكتاب في الدار البيضاء) على مآسي النكبة من دون ندبٍ أو عويل، وبعيداً عن الشعاراتية والخطابية ... في عام 1948 ولد بطل الرواية (نعيم)، وقد أجبرت أسرته، ككثير من الفلسطينيين، على الهجرة خشية القتل على يد العصابات الصهيونية، لتتشتت العائلة بعد ذلك ما بين مخيمات الأردن والضفة ولبنان، فيما يستقّر هو ووالدته في أحد مخيمات غزة.

كبر نعيم وترعرع في المخيم، ومن ثمّ أنجـــب ولديـــن وابنتين قبل أن تتـــوفى زوجته بسنوات قليلة، الا ان العائلة تتفـــرّق أيضاً بسبب ظروف الحياة الصعبة في غزة. فالابن البكر (سالم) سجن في زنازين الاحتلال وهو فــي العشــرين من العمر، والبنت الكبرى (سهى) تــزوجت وسافرت برفقة زوجها الى السعــودية، أما الابن الأصغر (سليم)، والــــذي درس في جامعة «بيرزيت» قرب رام الــله، فقرر اكمــال دراسته في ايطاليا، ليبـــقى الوالد نعيم مع ابنته الصغرى وهو يحلم بـ «لمّة العائلة على طبلية واحدة».

«ها هي خارطة الطريق التي وضعتها آمنة (أم سليم وزوجة نعيم). لم يعد فيها طريق على حاله. ولم يعد من الممكن تعديل مسارات الطرقات». ربما معجزة وحيدة يمكن لها أن «تخربط» كل شيء وتغير العالم حوله، وهي معجزة صعبة التحقيق، وكأن أبو سيف يشبّه عائلة نعيم وأحلام زوجته بحياة هانئة تجمع فيها أولادها من حولها، وتخطط لمستقبلهم، بفلسطين التي عاشت أكثر من خارطة طريق، ولا تزال تحلم بلم شمل المسافر، والأسير، والمغترب، واللاجئ من أبنائها أيضاً.

للبطولة في رواية «أحلام معلقة» معان مختلفة عما يردده الفلسطينيون كشعارات في المسيرات، مختلفاً عن الهتافات الشهيرة «نموت وتحيا فلسطين»، وكأنّ لسان حاله يقول «نعيش وتحيا فلسطين»، أو «يجب أن نعيش لتحيا فلسطين»، وهو ما عبّر عنه الكاتب في الرواية بقوله: «ليست البطولة أن تموت مجاناً، أن تموت بسبب خطأ وسوء تدبير، بل هي أن تعرف ماذا تفعل، وأن تفعله بطريقة سليمة حتى لو كلفك ذلك حياتك، وتحقق غايتك من ورائه. هنا يصبح للحياة قيمة، وتكون التضحية معقولة وضرورية. الناس في غزة ضحايا آلة القتل التي تعمل رصاصها في أجسادهم وتحصدهم بين وقت وآخر مثل سنابل في بيدر قمح تنهال تحت مقص آلة الحصاد. ليس لهم رغبة في رحيلهم المفاجىء أو في اختيار موتهم». وهذا ما انعكس أيضاً في نقاشات جدلية عميقة دارت بين سليم، وهو يرفض طباعة ملصق لوالده الذي اشتهر بطباعة ملصقات الشهداء، وبين ابن خاله نصر الذي يرى ان خاله نعيم كان مقاوماً ومناضلاً يستحق ان يكرّم بـ «بوستر» على أقل تقدير.

تفاصيل غزّية

تمثل شخصية سليم في الرواية شريحة الشباب الفلسطيني عموماً، والغزيّ تحديداً، اللاهث وراء الهجرة، على أمل تحقيق شيء من أحلامه في أوروبا وأميركا.

أما رحلة الخروج من غزة، أو من عنق الزجاجة، فأخذت حيزها الذي تستحق بين قضايا كثيرة تطرق إليها أبو سيف في روايته، محاولاً رصد يوميات الغزيين، فكأنه في ما يزيد عن الأربعمئة صفحة بقليل، لم يترك «شاردة ولا واردة» في هذه اليوميات، إلا وتناولها دون إقحام، وبمزج ذكي ولمّاح مع حكايات تاريخية، من خلال شخصيات الرواية التي كانت تشارك في جنازة نعيم، ومن بينها معاناة معبر رفح، ورحلة العبور ذهاباً وإياباً في الأنفاق، والتي لم تكن عابرة في «حياة معلقة».

تناول أبو سيف أيضاً «تجارة الأنفاق» التي راجت حتى وقت ليس ببعــــيد في غزة، وذلك من خلال شخصية خمـــيس الذي يجازف بعشرة آلاف دولار يســـتلفها من والده، ليحفر نفقاً، ومن ثم يــبدأ في تجارة الأنفاق كهاوٍ ثم محترف، قبل أن يتحول مع الوقت من شخص كــــان بالكاد يجد «اللقمة» إلى مليونير من «أصحاب الأملاك والمحلات التجارية»، بل وأحد أبرز الاقتصاديين في غزة.

بدأت الرواية بجنازة نعيم صاحب المطبعة الوحيدة في المخيم، والذي باغته جنود الاحتلال برصاصة اثناء فتحه لمطبعته في أحد الصباحات. وانتهت بجنازة الشيخ خليل، الذي جاء من مكان مجهول الى المخيم وبنى بيتاً على تلة محاذية له، يتشاءم منها سكان المنطقة، بعدما قصف الاحتلال خيم ساكنيها من اللاجئين خلال حرب عام 1948، إلا أن الشيخ خليل بنى بيتا له عليها، قبل أن يتبعه بعد ذلك بعض سكان المخيم، والذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.

ما بين جنازتين

نعيم الذي ولد في الحرب ومات فـــي الحرب، لم يعش كما ينبغي لإنسان عــــادي أن يعيش، فقد فرقت الحرب بينه وبين إخوته، ثم فرقته الظروف عن أولاده، أما الرواية فرصدت تحولات الحياة في غزة باقتـــدار المتمرس، من دون إغفال مفاصل تاريخية أساسية في حياة الشعب الفلسطيني، من ثورة عام 1936، والنكبة، والحروب المتعددة، ومن بينها حرب حزيران (يونيو) التي انتهت باحتلال ما تبقى من أراضٍ فلسطينية، وبينها قطاع غزة، حتى قيام السلطة الفلسطينية عقب اتفاق أوسلو، وحـــقبة ما بعد الانقسام، بأسلوب سردي شيّق، يكشف للقارئ العربي، بل للكثير من الفلسطينيين، تفاصيل الحياة المـــجهولة في غزة. وقد تطـرّق الكاتب الــــى تاريخ وجغرافيا تسعى إسرائيل إلى محوهما منذ احتلال 1948، مُستخدماً استرجاعات زمنية، ومفارقات ســـردية، وحكايات متداخلة ترسم بصورة مفصلة عالماً مدهشاً تتفاعل شخوصه وتتجادل وتصارع في إعادة تركيب لمفهوم الهوية، والبطولة، والحياة، بين دفتي رواية تبدأ بجنازة وتنتهي بجنازة، على رغم ما بينهما من حيوات غنية.

المصدر: الحياة