القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
السبت 23 تشرين الثاني 2024

يوم الأرض: ذاكرة المستقبل


موسى جرادات

على أبواب الذكرى السابعة والأربعين، ليوم الأرض الفلسطيني، ما زالت فلسطين تعيش لحظة الألم، وما زال أهلها يعانون قسوة المحتل، وما زال الاحتلال يعيش أوهامه، بقدرته على نفي أهل الأرض.

بالأمس البعيد كانت النكبة، التي شردت أهل البلاد، ومن تبقى منهم، تعرضوا لكل أشكال القمع، فالاحتلال الصهيوني هو مدرسة الإرهاب المنظم، الذي لا يحمل في جعبته سوى أدوات الهدم، وقهر الآخر.

ففي منتصف السبعينيات، أرادت حكومة الاحتلال أن تستكمل عملية مصادرة أراضي الفلسطينيين في الجليل، تحت مسمى مشروع «تطوير الجليل»، فيما سمّاه الفلسطينيون مشروع تهويد الجليل، لأنه بكل بساطة هذا المشروع، الذي غلف بحكايات جميلة، يستند في الأصل إلى مصادرة 21 ألف دونم زراعي، تعود ملكيتها للفلسطينيين الذين يسكنون الجليل، لتبدأ أول مواجهة فعلية، بين من تبقى على الأرض الفلسطينية في العام 1948، وبين دولة الاحتلال.

هذه المواجهة التي أسهمت، إلى حد بعيد، في كسر حاجز الخوف، بين السكان الأصليين، والمحتلين الذين لم يكونوا قد جربوا جيداً رد الفعل الفلسطيني، أي رد الشعب المتعرّض للاحتلال.

في يوم الأرض الفلسطيني، الذي يحيا في كل عام، ليس كاستذكار للحظة تاريخية فقط، إنما كلحظة لا تزال قائمة ومتجددة حتى وقتنا هذا، فالاحتلال هو الاحتلال بكل ما يفعل، والفلسطينيون هم الفلسطينيون، لا يمكن لشيء أن ينزعهم من أرضهم. فهذا الشعب يناضل منذ مئة عام تقريباً، فقاوم بريطانيا، ويقاوم اليوم «إسرائيل»، ويستمر بلا هوادة أو توقف، من جيل إلى جيل. فالأجيال المتعاقبة تدخل دورة النضال، عبر مشاركتها في إحياء هذا اليوم، لترث ذاكرة فلسطينية بامتياز، ذاكرة تعرف أصل الحكاية وبدايتها. ففي الواقع الذي يحياه الفلسطيني في المناطق المحتلة عام 1948، والذي يحاول الاحتلال فرض «الأسرلة» عليه، تحضر فلسطين دوماً في ذاكرة الماضي والحاضر، مؤكدة هوية الأرض وأهلها، نافية عن هؤلاء الغرباء ما يدعونه من تاريخ للأرض، وهذا مثلاً ما شهدناه عام 2021، في أثناء معركة «سيف القدس».

هكذا يعيش الوعي الفلسطيني، ولهذا يدرّب الأجيال، على الحفاظ على الذاكرة. ويوم الأرض الخالد الذي سقط فيه الشهداء، قبل 47 عاماً في دير حنا وعرابة البطوف وسخنين، هو أحد أهم الأيام التي تصقل الذاكرة وتحفزها، وتجعلها ممراً للعبور نحو مستقبل خال من الاحتلال.

يوم الأرض، وحّد الأهل في مناطق 48 الشعب الفلسطيني في كل البقاع، في باقي فلسطين المحتلة، وفي الشتات. فهذا اليوم أصبح ملكاً لكل الفلسطينيين، شكّل محطة مفصلية في تاريخ الصراع؛ فمن أراد الاحتلال أن يحولهم إلى عبيد في المصنع الإسرائيلي، قالوا بالفم الملآن إنهم أصحاب الأرض، بعد أن كسروا العصا التي ظن قادة إسرائيل أن غلاظتها ستنفع.

تكرر الأمر مع انتفاضة الأقصى، فالقاتل الدموي أطلق النار على الفلسطينيين في الجليل والمثلث والنقب وفي كل المدن المحتلة عام 1948، بعد أن هب الشعب في «داخل الداخل» فقتل وجرح واعتقل، وأعاد الكرة مرة أخرى في هبة الكرامة قبل عامين. والملاحظ في تلك الأفعال الإسرائيلية بحق شعبنا في الداخل، أن تفعيل قوانين الطوارئ، يتم فقط لمواجهة الفلسطينيين وقمعهم، ومع كل مواجهة تتفاجأ المؤسسة الأمنية الاحتلالية، وكذلك المؤسسات الإعلامية والبحثية، أن القوم ما زالوا على عهدهم الأول، ولم ينسوا من هم، ولم يقبلوا بإسرائيل، ولا بمحاولاتها المخادعة لما تحاول أن تروجه عن «المساواة». والفلسطينيون أنفسهم لا يأبهون بكل تلك المحاولات، فأصل الأمر رفض الاحتلال، ودولته، لذا فهم ينشدون «فدائي»، ويرفعون علم فلسطين، أينما تمكنوا. هذا ما ناضل من أجله من انتفضوا في يوم الأرض ومن استشهد منهم، والذين ساروا على دربهم وهديهم حتى الآن. فالكل يشكلون رواية واحدة لشعب واحد، تم تقسيمه في الجغرافيا قدراً، ووضع في أقفاص مختلفة، لعله ينسى، يتناسى، يتوب، يتراجع قيد أنملة، كل هذا لم يحدث، قرن من الزمان والفلسطيني في مختبر الألم، وفي كل لحظة يثبت أن وعيه وذاكرته مربوطة في الوطن.

والمفارقة الكبرى أتت قبل أيام، عبر تصريحات وزير المالية في حكومة الاحتلال بتسلئيل سموتريش، الذي اعتبر فيها وجود الشعب الفلسطيني كذبة مختلقة قبل مئة عام، وأنه لا أساس لوجود هذا الشعب، والمفارقة الأخرى أن خطابه جاء من عاصمة «الأنوار» باريس من دون أن يرده أحد، بعد أن اعتلى منصة، عليها خريطة فلسطين والأردن وبعض أجزاء من سوريا، على أنها دولة «إسرائيل». وفي المقابل، أرادت الشرطة الألمانية، قبل عام، اعتقال رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، بعد تصريحات شبّه فيها سلوك المحتل بـ«الهولوكوست»، مجرد التشبيه في السلوك أصبح تهمة في الديموقراطيات الغربية الحديثة، لكنها لا تمنع من إنكار شعوب، كالفلسطيني والأردني والسوري.

في يوم الأرض هذا العام، عام التحفز الصهيوني الذي تمثله أعتى حكومات اليمين فاشية، والتي تدعو صراحة إلى مزيد من المصادرة للأراضي، وإقامة المستوطنات، والتي لا تفرق أيضاً بين الجليل والضفة والنقب، فالكل سواء في أجندتها التي لا ترى فيها إلا «شعبها». في المقابل، تعيش فلسطين بداية تجدّداً للمقاومة المسلحة في الضفة الغربية، وما بين التحفز الصهيوني والمقاومة المتجددة، ينفتح فصل جديد من الصراع، الكل الفلسطيني يعيش لحظة الجمع والوعي في مواجهة عدو ألقى عن وجهه كل الأقنعة، ويريد اقتلاع من تبقى من الفلسطينيين من أرضهم.

هذه حقبة جديدة، ترسم فيها معالم ووجهة الحركة الصهيونية، وما أفرزته من مؤسسات طوال العقود الثمانية الماضية، وترسم أيضاً معالم الحركة الوطنية الفلسطينية، التي تجدد نفسها هي الأخرى، بعد أن سقطت أوهام السلام الموعود.

المصدر: جريدة الأخبار