يومٌ ناقصٌ من روزنامة المخيم
بقلم: أحمد حسين *
عامان مثقلان بالأحداث، لم يمحيا من ذاكرة المخيم ذلك
اليوم. اسألْ أياً من أبناء المخيم عن "الأربعاء الدامي"، سيروي لك فصولاً
من وجع محفور في عمق الذاكرة، وسيحدثك عن أتعس يوم طلعت فيه الشمس على المخيم، إنه
الجرح الذي ترك ندبةً دائمة على جدار القلب.
صباح يوم الأربعاء 13/3/2013، كان المخيم على موعدٍ
مع الموت، كانت إشاعات تتناهى إلى المسامع منذ أيامٍ عن نية الثوار اقتحام مقر
"الإسكان العسكري"، آخر معاقل النظام السوريّ داخل المخيّم. ولكن، ربما ظنّ
كثيرون، وأنا منهم، بأنها الحرب النفسيّة، إذ كيف يمكن للخطط العسكريّة أن تتحول إلى
حديث الشارع؟
عند السادسة صباحاً، كانت رشقاتٌ كثيفةٌ من الرصاص
مسموعة، لا جديد، فالاشتباكات من واقع الحال يوميّاً، إلا أنّ المقر العسكري كان يسقط
شيئاً فشيئاً في يد الثوّار. حكاية الخيانة التي جعلت من سور الصين العظيم أضحوكة الغزاة
تتكرر مجدداً، ثكنةٌ منيعةٌ مدججةٌ بالدبابات والآليات سقطت بيد شبابٍ بأسلحةٍ خفيفة،
بعضهم جاء صباحاً على متن درّاجة، وعاد على متن دبّابة أو ناقلة جند.
أخبار السقوط ومرارته دفعت ضابطاً مناوباً في قطعةٍ
عسكريةٍ على رأس تلةٍ تقع إلى الغرب، إلى الانتقام من أبناء المخيّم ومعاقبتهم بجريمةٍ
لم يرتكبوها، فأطلق نيران المدافع والدبابات باتجاه المدنيين طوال يومٍ، بدأ القصف
منذ السادسة والنصف صباحاً، حين سقطت أول قذيفة. وخلال النهار، ظلت الحمم تتساقط على
منازل المخيم. كان القصف بمعدل ثلاث أو أربع قذائف في الدقيقة، وبلا توقف. الاتصالات
شبه مقطوعة، والكهرباء غير متوفرة، والسّير في الشارع انتحارٌ حقيقيٌ، كان يوماً أسود
بكل معنى الكلمة. القصف عشوائيٌ، لم تفلت منه المنازل ولا المدارس ولا حتى المساجد،
الأخبار المؤلمة تتوالى بسقوط الجرحى، والأصوات تثير في النفس مشاعر كثيرة، أصوات الصّراخ
والانفجارات والزجاج المتحطم، إلا أن أسوأها كان صفير القذيفة في السماء. يقال إنّ
المرء يجب ألا يخاف من صفير الرصاصة، لأن سماعه يعني أنها تجاوزته، إلا أنّ الأمر مختلف
مع القذائف، صوت الإطلاق عميقٌ وبعيد، وصوت الانفجار، وبينهما صوت صفيرٍ يجعلك تنتظر
بحيرةٍ، محاولاً تحديد ما إذا كان يتجه نحوك أم لا؟ وعندما تكتشف النتيجة، لن يكون
أمامك وقتٌ، إلا لمواجهة قدرك.
في خضمّ هذه الأحداث، كان غريباً أن يظهر رجلٌ غريبٌ
بسيارةٍ صفراء، يركنها وسط حيٍّ سكنيّ، يترجّل منها ويمضي مبتعداً، عندما حاول بعضهم
التحقق منه، وسؤاله عن وجهته، راوغ قليلاً ثم انبطح، واستخدم زر التفجير في يده. سيارة
مفخخة تنفجر، وسط المنازل التي تتعرض للقصف منذ الصباح. أيُّ همجيّةٍ وإمعانٍ في القتل
لدى هؤلاء؟ شدّة الانفجار حطّمت منازل الحي وجرحت كثيرين، وأجزاءٌ من السيارة تناثرت
على مساحةِ شارعين، أمّا الرجل فركض هارباً بين الأزقّة. لكن، هيهات؟ أقسم العجوز،
قبل الشاب، على الإمساك به، أراد الجميع قطف رأسه، لكنّه كان بقبضة الثوار خلال دقائق،
أمضى الرجل آخر يومٍ في حياته كأسوأ ما يكون، اعترف لمن حقق معه بأنه قبض مبلغاً ليضع
السّيارة في المخيم. اعترافٌ لم يكن لينقذ حياته، أو يعطيه الوقت للتوبة، وربما لم
يطلبها، كانت النفوس تغلي على وقع القصف وأخبار الشهداء، وخلال ساعات، كان مربوطاً
إلى برج للكهرباء ميتاً، يلبس كيساً قماشياً عليه عبارة "هذا جزاء ما قدمت يداك".
في الحيّ الشرقي للمخيم دمارٌ هائلٌ، وأسقف هبطت بأكملها
إلى الأرض، الشوارع سُدّت بالركام، وبات واضحاً أن القصف الذي استمر على الحيّ طوال
ساعات المساء، يهدف إلى تدميره بأكمله، كان بعض الأهالي ما زال يأمل أن يجد الأمان
في منزله، بعيداً عن الجدران الخارجيّة، لكنّ شدّة القصف أجبرت محمد على الخروج تحت
النار نحو الملاجئ، خوفه على ولديه دفعه لركوب المجازفة، كيف لا؟ فياسمين وضياء ليسا
مثل بقيّة الأطفال، هما هبةُ الله لرجلٍ مسنٍ أنفق ماله وشبابه للعلاج من العقم، أمضى
نصف عمره ينتظر حتى فرح بقدومهما معه كلُّ أهل المخيم، كان يودُّ، في ذلك اليوم، لو
يحميهما بدمه وعيونه. ركضت العائلة من زقاقٍ إلى آخر، لتكون على موعدٍ مع الموت بقذيفةٍ
حاقدٍة قطّعت الأطفال وأمّهم إلى أشلاء محترقةٍ، وأبقت على الرجل ليتجرّع حسرتهم بقيّة
عمره.
مشاهدُ كثيرةٌ لا تنسى في ذلك اليوم، كان فريقٌ من
المتطوعين يحملون حقائب الإسعافات الأوليّة على ظهورهم، يركضون من حيّ إلى آخر، بحثاً
عن الجرحى، يطاردون القذائف! يخاطرون بحياتهم ومستقبلهم لإنقاذ الآخرين، مشهدٌ يختصر
معاني الشجاعة والتضحية، غير آبهين بالخطر ينقلون الجرحى إلى الملاجئ، حيث يوجد من
بقي من أطباء المخيّم الذي كان، يومها، مثل خلية نحلٍ كبيرة. خصّص بعضهم سيارته لنقل
الجرحى، وتطوّع آخرون لنقل الفراش والماء للملاجئ، وأفواجٌ من النّاس كانت تجري، من
حيٍّ إلى آخر، للمساعدة في انتشال الجرحى وإخلاء المنازل والاطمئنان على الأقرباء والجيران،
على الرغم من أنّ القصف لم يهدأ لحظةً.
عدت إلى المنزل ليلاً، كان الظّلام يلفُّ كل شيءٍ والأسى
يملأ صدري، فتحت الباب الخارجيّ. لم أشعر بوحشةٍ في بيتي قط كما شعرت في تلك اللحظة،
لم يطل تفكيري، إذ وجدت اللصوص قد اقتحموا المخزن، وسرقوا منه مولّداً كهربائيّاً وعشرات
الليترات من الوقود، سلعةٌ لا يعرف قدرها إلا من جرّب الحصار، زادتني السّرقة قهراً
على قهر، وهمّاً فوق همّ، إلا أن أكثر ما كان يشغل بالي حينها هو الهجرة المتوقعة في
اليوم التالي، كنّا نعتقد أن بقاء الأهالي في المخيّم أفضل ضامنٍ لسلامته، وكنّا نستلهم
العبرة من مخيّم اليرموك الذي خرج معظم الأهالي منه، عقب غارة الطيران الحربي على جامع
عبد القادر الحسيني، حدث ذلك قبل ثلاثة أشهر، كان هذا أكثر ما يرعبني، لم أستطع أن
أتخيّل نفسي نازحاً أتقاسم، أنا وأهلي، صفّاً مدرسيّاً مع عائلتين.
في الأيام التالية، سقط شهداء آخرون، وكان منظر الباصات
وهي تحمل العفش والأطفال أكثر ما يكون بؤساً وإثارةً للقهر، خرج بعض الأهالي عبر الطريق
البديلة للمخيم المحاصر، إلا أنّ إرادة الحياة بداخله كانت أقوى، لم يكن أبناء المخيم
يوماً يداً واحدةً، كما كانوا في ذلك الوقت، عشراتٌ من الشباب تعاهدوا على الحفاظ على
مقومات الحياة في المخيم، وفي مقدمتها صيانة شبكة الكهرباء والماء والهاتف، وكانت في
وضعٍ مزرٍ. انتشر على تلك الأعمدة شبابٌ لا ينتظرون أجراً ولا شكراً. بعد أسبوع، عادت
الشبكة وبدأت الحياة تسري مجدداً في أزقة المخيّم، انتصر المخيم وهُزم ذلك القاتل.
نعم هُزم، حتى أنَّ جندياً لم يعرف الماء سبيلاً لجسمه منذ أشهر، كان يتأمل طابور السيارات
الواقف أمامه على الحاجز، سأل أحدها عن جهة قدومها. قالوا له جئنا من مخيم خان الشيح.
باستغرابٍ ردّ عليهم: "العَمَىْ بقلبكِنْ... تلات آلاف قزيفةِ ضْرَبنا عليكِنْ..
لَكْ لسَّاتكِنْ عايشين؟!".
المصدر: العربي الجديد
أحمد حسين
* كاتب فلسطيني، ولد في سورية عام
1982، عمل ناشطاً في مجال حق العودة، ثم ناشطاً إغاثياً في سورية، ويعمل حالياً في
توثيق الانتهاكات بحق فلسطينيي سورية، مديراً تنفيذياً لمجموعة العمل من أجل فلسطينيي
سورية ــ لندن.