الخميس، 23
تشرين الثاني، 2023
"نزحنا على أساس يومين وسنعود، ومضى على
نزوحنا شهر، يا رب ما يتحول نزوحنا إلى نكبة جديدة"، بحزن كبير يغلب عليه
القهر تحدثت إسعاد عبد الله عن تجربة نزوحها وأسرتها من منزلهم في حي النصر بمدينة
غزة إلى مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة.
لم يكن البعد عن بيتها ليومين كما اعتقدت بحاجة
لحمل أشياء كثيرة بما فيها الملابس الشتوية، وتقول للجزيرة نت "لم يخطر لي أن
نزوحنا سيستمر كل هذه المدة، لقد مضى على خروجنا من منزلنا مجبرين أكثر من
شهر".
بالملابس الخفيفة التي ترتديها إسعاد وزوجها
وأطفالها الأربعة، وحقيبة صغيرة تحتوي على الوثائق المهمة، نزحت هذه الأسرة إلى
مدينة رفح، حيث تقيم في واحدة من المدارس التي حولتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين
الفلسطينيين (أونروا) إلى مراكز إيواء.
نزوح إجباري
وتقدر "الأونروا” أن أكثر من 900 ألف فلسطيني،
جُلّهم من النساء والأطفال وكبار السن، يقيمون في مراكز الإيواء داخل مدارس ومرافق
أخرى تابعة لها في قطاع غزة، غالبيتهم في مدن جنوب القطاع.
ومع اشتداد حدة الغارات الجوية على مدينة غزة
وشمالها، وتنامي التهديدات الإسرائيلية لسكان تلك المناطق، رأت إسعاد أن أمان
أسرتها يستدعي النزوح جنوبا.
غير أن تجربتها وغيرها من النازحين، تثبت أن
"لا مكان آمنا في قطاع غزة"، تقول إسعاد التي فقدت عددا من أقاربها
النازحين من غزة في غارة جوية استهدفت مربعا سكنيا في مخيم البريج للاجئين وسط
القطاع.
ورغم ما تعانيه في مركز الإيواء التابع
لأونروا، فإنها أفضل حالا وحظا من محمد المصري، النازح إلى رفح منذ 5 أيام سيرا
على الأقدام من مركز إيواء تابع للوكالة في حي الزيتون في مدينة غزة.
وكانت الطريق سالكة أمام أسرة إسعاد للنزوح
بسيارتها الخاصة، قبل سيطرة دبابات الاحتلال وآلياته على "مفترق
الشهداء" على شارع صلاح الدين، وإغلاقه شارع الرشيد الساحلي، وهما شارعان
رئيسان يربطان شمال القطاع بجنوبه.
وتضيف إسعاد، "لم تكن الأمور واضحة وأنها
ستؤول إلى ما نعيشه اليوم، وألوم نفسي لعدم تعبئة السيارة بكل مستلزماتنا المهمة
والضرورية، بما فيها ملابسنا الشتوية".
وتتابع "ثم أعود وأقول، إن الأجواء كانت
مشمسة، ولا أحد كان يتوقع أن يطول بنا المقام خارج منازلنا"، وصمتت لوهلة
وجالت ببصرها في أرجاء الغرفة المدرسية، واستدركت بالقول، "الله أعلم إذا
ضايل لنا منزل في غزة".
بين ليلة وضحاها انقلب حال أسرة إسعاد التي
كانت تقيم في منزل مستقل مكون من طابقين، وسط حديقة صغيرة مزروعة ببعض أشجار
الحمضيات وأنواع مختلفة من الزهور، وتتشارك منذ نزوحها الاضطراري مع نحو 30 آخرين
من النساء والأطفال غرفة داخل مدرسة تضم آلاف النازحين.
"شقاء
السنين"
ولا تعلم المتحدثة ذاتها شيئا عن مصير منزلها
الذي لم يمض سوى 3 أعوام على بنائه، وتخشى أن يكون واحدا من بين آلاف المنازل التي
حولتها غارات جوية إسرائيلية إلى ركام، وأصابت أصحابها في مقتل، بالصواريخ أو
بالقهر حزنا على ما وصفته بـ "شقاء السنين".
وبالنسبة لإسعاد التي تنحدر من عائلة لاجئة من
بلدة المسمية في الداخل المحتل، وكثير من النازحين، فقد تكرر استخدامهم كلمة
"نكبة" لوصف ما آلت إليه أحوالهم بسبب النزوح الإجباري، وتقول،
"نعيش فصلا جديدا من فصول النكبة الممتدة منذ 1948″.
وتضطر إسعاد إلى "لف" أصغر أبنائها
أحمد (عامان) ببطانية لتدفئته خلال ساعات الليل شديدة البرودة، حيث تفتقر المدرسة
إلى وسائل التدفئة داخل الغرف، بينما يلجأ الرجال الذين يقضون الليل في خيام
نصبوها في ساحة المدرسة، إلى إشعال النار بما يتوفر من بعض الورق وقطع الخشب
الصغيرة، للتغلب على برودة الطقس.
وعصفت أجواء شتوية قاسية، خلال اليومين
الماضيين، بالنازحين في المدارس، وقد اكتظت الأسواق والمحال التجارية بهم، بحثا عن
ملابس يتغلبون بها على البرد، فاصطدموا إما بنفادها، وإما بغلاء فاحش بالأسعار.
وقالت إسعاد، إنها بعد نهار كامل في السوق، لم
تشتر خلاله سوى قطعتي ملابس لطفلها أحمد الذي يعاني مرضا لا يقوى معه على تحمل
البرد الشديد وظل يرتجف ليلة كاملة، ولم تجد أمامها من حل سوى لفه ببطانيتها
الوحيدة.
وبسبب غلاء الأسعار وعدم توفر ما يناسب
أطفالها، اضطرت إسعاد إلى الشراء -لأول مرة- من الملابس المستعملة، ولم تكن كذلك
أسعارها مناسبة بالنسبة لغالبية النازحين الفارين من الموت بلا أموال أو ممتلكات.
لكنها لم تكن المرة الأولى بالنسبة لمحمد
المصري، الذي بحث عن هذه الملابس المستعملة لكسوة أبنائه الستة، واقتصد في الشراء،
عندما فوجئ بالأسعار. ويقول مستغربا للجزيرة نت، "قطعة ملابس لا يتجاوز سعرها
10 شيكل (دولاران ونصف) قبل الحرب، ارتفع سعرها 3 أضعاف".
وبعد نحو شهر من النزوح في مدرسة تابعة لأونروا
في حي الزيتون، اضطر محمد للنزوح بأسرته إلى مدينة رفح بعد ليلة وصفها بالمرعبة،
تشاركت خلالها الطائرات الحربية مع المدفعية في قصف محيط المدرسة بوابل من
الصواريخ والقذائف.
برد وجوع وعطش
ولا يبعد منزل محمد عن تلك المدرسة سوى بضع
مئات من الأمتار، لكنه لم يتجرأ على العودة إليه لجلب بعض المستلزمات والملابس
الشتوية، لشدة القصف الجوي والمدفعي. ومشى بأسرته برفقة حشود من النازحين، سيرا
على الأقدام، نحو 10 كيلومترات، ويتساءل، "كيف لنا أن نحمل أمتعة لهذه
المسافة الكبيرة؟".
ويضيف "لقد خرجنا ونحن لا نرجو من الله
سوى النجاة بأرواحنا، وأصوات الانفجارات تدوي في كل مكان".
ويتابع "كان الدمار على امتداد البصر طوال
الطريق من حي الزيتون، وهو أحد محاور التوغل البري الإسرائيلي، وحتى ما بعد
"مفترق الشهداء" حيث تتمركز الدبابات والآليات العسكرية الإسرائيلية في
المدخل الجنوبي المؤدي لمدينة غزة".
ويقيم محمد بأسرته مع آلاف الأشخاص جُلّهم من
حي الزيتون وبلدة بيت حانون في شمال القطاع، في مدرسة حكومية، بعدما يئسوا من
العثور على شواغر في مدارس أونروا.
ويقول، "نعيش حياة مأساوية دون أي مقومات،
نعاني من البرد والجوع والعطش، وقضينا أول ليلتين على البلاط، النساء والأطفال
داخل الفصول الدراسية، بينما اكتظت ممرات المدرسة بالرجال، وسط أجواء شتوية شديدة
البرودة".
وحسب بيانات أونروا فإنها وجدت نفسها -بسبب
تداعيات الحرب- مسؤولة عن نحو مليوني فلسطيني في قطاع غزة، بينهم مواطنون أصليون،
إضافة إلى مسؤوليتها التقليدية عن زهاء 70% من سكان القطاع ويقدّر عددهم بنحو 2.2
مليون نسمة.
المصدر : الجزيرة