الباردــ البدّاوي: «اشتباك مع الذات»
الإثنين، 14 أيار، 2012
للانتقال من مخيّم نهر البارد إلى مخيّم البداوي، طعم التخفف من الثقل. مخيّم كبير على تلّة مقارنة بالمسطح الذي بني عليه البارد، تعجّ أزقته بالمشاة والباعة والسيارات والأولاد. هنا نقطة الارتكاز لبقاء البارد، والدعم الأساسي لمهجّريه مذ بدأت الحرب عليه..
بارد-بدّاوي «توأم الروح». هكذا يسمّيهما أحد سكّان البداوي. هما توأم في المشكلة والحل. فقد بدأت مشكلة «فتح الإسلام» في البداوي، حين اكتشف شبان من الفصائل خرقاً في فتح الانتفاضة من قبل إسلاميين متشددين، فاشتبكوا معهم وهرب عناصر «فتح الإسلام» ليلجأوا في مخيم البارد عند «أخوة» لهم. أعلنت «فتح الإسلام» نفسها ومشروعها من نهر البارد، واحتلّت مراكز «فتح الانتفاضة» هناك واستولت على سلاحها.
وبما أن الحرب التي دارت بين «فتح الإسلام» والجيش اللبناني في البارد، شارك فيها جزء كبير من عناصر الجيش ذوي الأصول العكارية، من اللواء الخامس والمجوقل ومغاوير الجيش والفهود، فإن ذلك أدّى إلى عدائية بين الجوار ومهجّري المخيم. فكان من الطبيعي أن يلجأ أكثر من 32000 مهجّرة ومهجّر من البارد إلى البداوي الذي لا يبعد عنه أكثر من 15كيلومتراً. هناك، أصبحوا لاجئات ولاجئين للمرّة الـ... هل من يعدّ؟
كان البداوي المشكلة وكان الحل. كان الملجأ للآلاف ممن هجّروا من بيوتهم ومخيمهم.
يقول مسؤول «الجبهة الديمقراطية في البارد والبداوي» إن إحدى المحاولات لإنهاء حرب البارد كانت في سعي مجموعة من الفصائل الفلسطينية إلى خروج سلمي لتنظيم «فتح الإسلام» خلال الحرب. لكن أسباباً عديدة حالت دون ذلك، أوّلها تعامل «البعض» مع هؤلاء باعتبارهم مسلمين، ولا تجوز «استباحة دمهم» حسب تعبيرهم، والحاجة إلى التعايش معهم على أساس أن المخيم يتّسع للجميع «لكننا كنّا ننظر إلى المستقبل ونرى استحالة تقبّل أفكارهم وحتمية التصادم معهم. فقد كانوا يحاولون أسلمة المجتمع بمعنى التشدد. وعندما قلنا لهم: ما بدنا اياكم في المخيم، أجابوا بأنهم ما بدهم أهل المخيم في المخيم».
بعد خمس سنين ماذا بقي من البارد؟
بينما تبني الأونروا المخيم القديم ببطء شديد، توفر 150 دولاراً اميركياً لكل عائلة لتغطية مصاريف الإيجارات، كما تتوزّع البراكسات، وهي نوع من غرف صغيرة جاهزة من حديد أو باطون، في المخيم مؤمنة «المسكن» للآلاف ممّن عادوا إلى المخيم.
مرشد، رجل سبعيني عاش النكبة، يتكلّم عن اول ايام العودة بعد الحرب: «رجعنا لأيام أول ما لجأنا لما كنا عايشين في الشوادر». واليوم؟ «متل مانك شايفة. أكل، شرب، نوم. كنا نشتغل، نروح عند أصحابنا وقرايبنا، نكزدر بالسيارة. هلّق ما في شي. وما في مصاري».
تتحدث أم خالد عن العيش في البراكسات الحديد، ثم أنتقل لزيارة أم رامي في براكسات الباطون. يبدو وكأن المقارنة بين هذه المساكن هي بين السيئ والأسوأ. فالبراكسات الحديد هي أسوأ ما يمكن العيش فيه، اما البراكسات الباطون فأفضل منها درجة، ثم تأتي البيوت المعاد إعمارها. لكلّ حل مساوئه، إلّا أن براكسات الحديد هي بكل وضوح تهديد لسلامة السكان والعلاقات الاجتماعية والحالة النفسية للمهجرين. تأخذني أم خالد في جولة على عدد من البيوت. اسقف من خشب، تسلّلت إليها المياه والحشرات فاهترأت وأصبحت إذ تمشي في الغرفة تخطو فجأة على خشب ليّن يئن تحت ثقلك. نمشي بينها وتكلّمني أم خالد عن المشاكل مع الجيران.
البراكسات من طابقين، مصطفّة كعربات القطار، يفصل بينها ممر هو في آن: الشرفة والملعب ومنشر الغسيل ومكان مرور الضوء، أو منعه. هذه المساحة التي تفصل بين البيوت، أساس المشاكل بين العائلات وبين الجيران، إذ تختلط فيها النشاطات في مكان ضيّق. يوسّخ الأطفال الغسيل المنشور أو يصرخون في لعبهم، فيقلقون «سكينة» المنازل، أو تعلّق الجارة غسيلها أمام الفتحة التي تسمح للضوء بالمرور من أعلى فتمنع الضوء عن البيوت المجاورة. غالباً ما يتعارك الجيران، او يضربون أطفال غيرهم، ممّا دفع الكثير من الأمهات إلى منع أولادهن من اللعب خارج المنزل - الباراكس - العلبة. كذلك يعاني سكّان هذه البراكسات من الضجة وعوامل الطقس إذ لا تؤمن الجدران الحديدية أية حماية ضد الأصوات القادمة من الخارج أو من البراكس العلوي، كما تكون البراكسات مثلجة في الشتاء وتتحوّل إلى فرن في الصيف.
المشي بين البراكسات كافٍ لنقل عدوى الشعور بالغربة وعدم الراحة. فهي «لا-مكان» كما يسمّيها مارك أوجي. مكان وقتي نعبره بسرعة دون اهتمام أو تعلّق، ولا نبني فيه أي انتماء إذ لا مرتكز لنا فيه بسبب طبيعته المؤقتة. تماما كمحطات الباص أو غرفة الأوتيل السخيفة أو الأوتوستراد. هكذا أصبحت البيوت في المخيم. والمشكلة تتفاقم إذ إن مكانا كهذا، بطبيعته غير مجهّز وغير مبنيّ بهدف تأقلم الناس معه، أصبح في الوقت ذاته مكانا للعيش. كيف يتفاعل الفرد والعائلة والجيران مع قالب وجِد ليكون مؤقتاً ولكن عليهم أن يعتادوه كمسكن؟
تقول أم خالد وزوجها بأنهما وأولادهما فقدوا الإحساس بالخصوصية وبأن العيش في البراكس مرهق. «كلّ شي تغيّر بعد الحرب. ما بقى فيكي تسيطري على شي، لا على بيتك ولا على أولادك. كان في إلك خصوصية، هلّق ما في». وازدادت نسبة مرضى الضغط والأعصاب بحسب مسؤولين من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في مستوصف الشفاء.
تقول لي عتاب التي تعيش في باراكسين من الباطون، إن أولادها الثلاثة، وهم في الخامسة والسابعة والحادية عشرة من العمر، ممنوعون من اللعب خارج «المنزل-الغرفتين». لماذا؟ «في مسبّات وبيضربوهن ومشاكل مع الجيران. بعد ما يخلّصوا درس، الولاد ما فيهن يعملو أشي». وعندما أسألها عن المخيم قبل الحرب، تبتسم وينير وجهها الدافئ الأسمر وتقول «كان غير شي». بالرغم من أنها لبنانية من قرية مجاورة اسمها ببنين، فقد أحبّت المخيم. تحكي كيف كان صعبا عليها في البدء أن تتأقلم: الانتقال من قرية ومساحات شاسعة وحدائق، إلى اكتظاظ المخيم وحواريه وزواريبه المعوجة. لكنّها تعوّدت عليه وأحبّته، وأنشأت لنفسها عائلة فيه، تزور الأقرباء وتطمئن للعب أطفالها في الشارع. ففي حارات المخيم القديم، كانت كل عائلة تحتلّ جزءاً من الحارة، فتجد نفسها بجانب سلفتها وقريبتها وأقرباء زوجها. «كان في أمان» تقول عتاب، «ما في مسافات بعيدة، حتى بالنسبة للانتقال إلى الجهة الأخرى من المخيم، لأن الزواريب كانت أمان». تقطّعت أوصال المخيم اجتماعياً. لم تعد العائلة الواحدة تعيش مع بعضها البعض.
ويذهب أولادها إلى مدرسة غزّة، البعيدة 500 متر عن الباراكس، يمشونها في وحل الشتاء لأن الطريق «ممنوع من التزفيت». «لماذا؟» أسأل. «ما بيزفّتو الطريق لأنها خط سكّة حديد»، هكذا يقول القانون. القانون لا يمشي إلّا على الفقراء والفلسطينيين في لبنان. نخرج من بيت عتاب ونتركها تقشر البطاطا لقليها بعد قليل للأولاد.
من عربة صغيرة تجرّها سيدة ودودة رغم سنيها الستين، ابتاع بعض الفول. كنت قد لمحت السيدة وأنا داخلة إلى المخيم. «أم فادي» هي. مات زوجها وترك لها 6 أطفال تربّيهم وحدها، فراحت تسلق الفول وتبيعه في الصباح ثم بعد الظهر، أمام المدارس. أكثر من عشرين سنة مرّت وأم فادي تطعم المخيم فولا وترمسا وبليلة.
ندور بالسيارة، ثم نقف على البحر أمام أرض بور مقفرة تتمدّد فيها الأعشاب المجنونة فوق انقاض قديمة. «هون بيتي» يقول كمال وهو يمجّ سيكارته. ننظر إلى الفراغ، اللا-بيت. لا نرى ما يراه، هذا أكيد. «بوقف هون كل يوم، بشرب سيكارة، وبتطّلع عليه بس». حين أسأل كيف كان المخيم، تأتيني الأجوبة بغزارة وحماسة من يشتاق إلى بيته ولكنه يعرفه ويعرف مساوئه جيدا. كان المخيم قبل الحرب مكاناً «فوضوياً» على ما يقول أحد سكانه. بأبنية متلاصقة وأزقة ضيقة لدرجة أنه «كان صعب علينا نضهّر الشخص من المخيم عندما يتوفّى». ويعود ذلك، بحسب البعض إلى واقع أن الناس بدأوا يقتنعون في الستينيات بأن العودة أمر مستبعد وصعب، ممّا أطلق حملة بناء كبيرة، في غياب التنظيم. وأدّى ذلك إلى المشاكل الحالية التي يعاني منها المخيم في إعادة الإعمار، بحيث كان المخيم قد تمدّد إلى أراضي المشاع على البحر والنهر، ما اضطر المنظمين الآن إلى قضم تلك الأراضي من المساحة الأساسية من المخيم، متسببين في زيادة اكتظاظ مخيم مكتظ أساساً وممنوع من التمدد.
لكن المخيم كان مزدهراً اقتصادياً. بني الأوتوستراد الشرقي (أوتوستراد عكار) في أوّل التسعينيات، فنقلت البورجوازية التجارية عملها من داخل المخيم إلى الأوتوستراد وهو حدود المخيم مع الخارج، فأصبح هذا الجزء من المخيم سوقا للشمال، وتمكّن من ضخ المال إلى المخيم من خارجه.
بين المخيمين:
ما زال الكثيرون (نحو 2000-3000 عائلة مستأجرة) من مهجّري البارد يعيشون أو يعملون في البداوي. وذلك إمّا لأنهم لم يتسلموا بيوتهم بسبب بطء إعادة الإعمار أو أنهم عادوا إلى بيوتهم وبقيت محالهم هنا، فأصبحوا يعيشون هناك ويعملون هنا.
مسؤول حزب الشعب في الشمال. أبو وسيم يقول «عند بدء الحرب على البارد، كان علينا استقبال الآلاف من النازحين. كانت حالة اشتباك مع الذات». أسأله ماذا يعني بذلك، فيردّ بالقول «كان أشي مش متعوّدين عليه، حالة طوارئ، وكان علينا التعامل معها بسرعة. فبانت المشاكل والعصبيات لدى الاحتكاك بين «اللاجئين» (يقصد نازحي البارد) إلى المخيم وأهله». يتكلّم الكثيرون عن الوضع الاقتصادي للبارد قبل الحرب. «كانت الأكثرية في المخيم من الطبقة البورجوازية، لأن المخيّم كان سوق منطقة عكّار. فتصوّري حالة من كان يملك بيتين أو ثلاثة ومحلّات وكان يعطي مالا للفقراء.. أصبح بين يوم وليلة، يقف في صفّ لتلقّي المساعدة». عند قدوم مهجّري البارد إلى البداوي، يتحدّث الكثيرون عن حصول ما يسمّونه «احتكاكات». يفسّر الأهالي ذلك بشقين: الأوّل هو الصدمة التي مرّ بها أهل البارد وانتقالهم من البحبوحة إلى العوز بين ليلة وضحاها، وكيف بنى ذلك توتّراً وعصبية وحاجة للتأقلم مع الواقع الجديد. من ناحية أخرى، يعتبر أهل البداوي بأن التغيير الأساسي حصل بسبب الحالة الاجتماعية لنهر البارد وتصادمها مع الحالة المختلفة للبداوي. فكونه بعيداً نسبياً عن المدينة (مقارنة مع البداوي الموجود تقريباً داخل طرابلس) وكون محيطه المباشر مناطق قروية، جعل من نهر البارد أقل انفتاحاً: «البارد كان مكبوت» يقول بعض سكان البداوي.
وحين تمشي في البداوي، تستقبلك الأعلام والشعارات على الجدران. هو مخيّم فلسطيني مسيّس بامتياز. هناك مظاهر واضحة للفصائل في الشوارع، إضافة الى عملها الجاد على الأرض. كثير من الحياة والحركة في مخيّم تفرح لزيارته. ومقارنة مع مخيّمات الجنوب المنهكة التي تُقمع في حضن أحزاب لبنانية عملاقة تعتبر مقاومة إسرائيل اسمها الثاني، يبدو البداوي مخيّماً بكل معنى الكلمة، من حيث كونه مكان دعم لمخيم البارد، ومخيّماً ناشطاً اقتصادياً، بالإضافة إلى الوجود الفاعل والواضح للفصائل الفلسطينية. في يومين من التجوال بين البارد والبداوي، أحسست بوضوح ان هناك وحدة حال، وقراءة واضحة للوقائع وللمحاولات الكثيرة لمسح الوجود الفلسطيني وتدمير المخيمات كمكان صمود ومقاومة. «لمّا رجّعوا الناس عالبارد، رجّعوهن عمناطق زيّ الغابة. قصداً، في فترة الشتاء، يعني في أصعب الأحوال، لحتى يقولوا ما بدنا نرجع. وهيدا، على العكس خلّا الناس تتمسّك بالعودة إلى المخيم». ثم أسأل أبو موسى، وهو تاجر موبيليا من البارد ومستأجر حالياً في مخيم البداوي، أسأله عن البارد: هل صحيح انه عندما عدت إلى المخيم احسست كأنه زيّ الغابة؟ وكيف تراه الآن؟. «الآن؟» يسألني كمن يتأكد من السؤال، ثم يصمت برهة ليجيب باختصار: «عتم».
المصدر: جنى نخال - الأخبار