بناء 470 وحدة سكنية من أصل 5623 .. و60% من الأهالي ما زالوا مهجرين
«البارد» بعد خمس سنوات على «نكبته»: مخيم مسلوب الروح
سعدى علوه
ما إن تغوص شمس الشمال في البحر المقابل لمخيم نهر البارد حتى تتغير حياة مي عبد الرحيم، القاطنة في «البراكسات» الإسمنتية في القطاع المسمى «A ٢٣» من المخيم. يتحول ليل السيدة الفلسطينية، إلى مناوبة حراسة سقيمة خشية سقوط جدران غرفتها اليتيمة على أطفالها الأربعة. يبقى سرير رضيعها المركون بالقرب من الجدار المشقق فارغاً. عالج مندوب «الأونروا» الشقوق بلاصق عادي، مخصص للصق الورق، منعاً لانهيار الاسمنت.
الهيكل الإسمنتي الذي تشقق في أكثر من مكان، وسقف «الإترنيت» المتصدع، ليسا مصدري خوفها الوحيدين، فالغرفة نفسها «تزحل»، وإن ببطء. تقول مي أنها تخشى أن تصحو يوماً لتجد أن «منزلها» أضحى على الطريق العام القريب.
كانت نهاية العام 2012، الموعد النهائي المرتقب لاستكمال إعادة إعمار مخيم نهر البارد، بعد خمس من سنوات تدميره. إلا أن ميّ مقتنعة أنها لن تستلم بيتها الجديد قبل العام 2020، وفقاً للوتيرة الحالية.
يقول جار مي إنها «محظوظة»، كون بيته الموعود صُنف في الرزمة الثامنة: «ربما لن أعيش لأسكنه».
في انتظار كل ذلك، ستستمر مي، على امتداد أعوام، في قضاء الليل بعينين مفتوحتين تحرس أطفالها، وتفكر في وسيلة ناجعة لمنع انهيار الركام على أجسادهم الطريّة.
يحبذ مسؤول لجنة المتابعة لإعادة إعمار المخيم مروان عبد العال النظر إلى «الجزء الملآن من الكأس»، معدداً بعض الخطوات الإيجابية التي تحققت، وعلى رأسها إلغاء التصاريح العسكرية، وهي خطوة يشبّهها سكان المخيم بـ«الجائع الذي لم يذق الطعام منذ أيام، وحين تقدّم له كسرة خبز، يجد مذاقها عسلاً، لا يشبع ولا يرد الضيم».
ويؤكّد عبد العال أن المشكلة الأساسية تكمن، كالعادة، في نقص الأموال اللازمة لاستكمال إعادة الإعمار، بما يسمح باستمرار المأساة وتفاقمها طالما أن الدول المانحة، وعلى رأسها تلك «العربية»، تمتنع عن سداد ما تعهدّت به.
استلم بعض سكان المخيم القديم، من الذين صنفوا في الرزمتين الأولى والثانية، وبعض الثالثة، منازلهم، إلا أن نوعيّة المنازل التي سُلّمت لا تبشّر بالخير، فهذا شباك «ألمنيوم» يطير من صفوف إحدى المدارس مع أول ريح هبت على المخيم، وهذه الصبية «ن.و» لم تتمكن من الدخول من باب منزل أهلها لضيق فتحته (80 سنتيمترا)، فاضطرت للسكن لدى أخيها.
وبين المباني الملونة المطلة على البحر، تجد قريباً يحمل معوقاً إلى منزله لأن لا هندسة دامجة مطبقة، وتجد أسرة تدخل «براد» مطبخها عبر النافذة لضيق مدخل البناء ودرجه ومعه باب الشقة. أما المحلات التجارية، فقد بدأت تعتمد بيع الأدوات المنزلية ذات الأحجام الصغيرة التي تتناسب مع مساحات الشقق الجديدة.
بعد خمس سنوات على انتهاء الحرب، ما زال أكثر من ستين في المئة من اهل المخيم مهجرين خارجه..
تعيش نحو سبعمئة عائلة في «البراكسات» وبعضها حديدي والآخر إسمنتي، وهي في الحالتين لا تصلح للاستعمال البشري..
بُنيت 470 وحدة سكنية فقط حتى اليوم، من أصل خمسة آلاف و623 وحدة في المخيم القديم.
وهناك أجزاء كبيرة من المخيم ما زالت ممنوعة على أهله بأعذار مختلفة.
أمّا الأموال المتوفرة لإعادة الإعمار، فلا تغطي سوى اربعين في المئة من الكلفة الإجمالية للرزم الثماني في المخيم القديم. في المقابل، في «المخيم الجديد»- أو «المنطقة المتاخمة»، كما سمتها الدولة اللبنانية، وتعهدت بإعادة إعمارها- ما يزال كل شيء على حاله باستثناء عدد ضئيل من المباني التي اعيد بناؤها لكن بمبادرات فردية.
أمّا حركة المخيّم الاقتصادية، وهو الذي كان يعدّ «عاصمة» المنطقة الاقتصادية، فقد اختفت في الزواريب الضيّقة والنمكوبة، هجرته المؤسسات الكبيرة نتيجة سياسة التصاريح التي كانت متبعة، والدمار الذي التهم كل شيء ومعه القدرة الشرائية للناس، فيما أحجم أهل المحيط عنه للأسباب عينها، وهم الذين كانوا يقصدونه بالآلاف يومياً.
ومع الكثافة السكانية في الغرفة الواحدة، وذيول الحرب التي عاشها أهل «البارد» وعانوا من مرارة تهجيرها، والضيق المعيشي الذي لم يعرفوا حجمه من قبل، تفشت المشاكل الاجتماعية والأمراض النفسية وارتفعت نسب التسرب المدرسي.
أما النجاح في الشهادة الثانوية، فتحوّل مصدر حزن، إذ ماذا بعده؟ ليس هناك من هو قادر على تحمّل كلفة الجامعات، وفق احمد عبدو معياري الملقب بـ«ابو الأمم» ليساريته التي لم تغادره يوماً.
يروي «أبو الأمم» أنه أبلغ بكره، نمر، الذي يعمل في أبو ظبي «اعتبر نفسك مسجوناً لخمس سنوات»، وهي الفترة التي ستؤمن كلفة دراسة شقيقيه لمادة الهندسة.
ومع ذلك، وعندما نجح ولداه التوأمان إبراهيم وسعيد، لم يتمكن «أبو الأمم»، مع نمر، من تحمل أعباء تسجيلهما معاً في الجامعة، خصوصاً أن شقيقتهما كانت في سنة تخرجها.
يومها، كذب سعيد على أبيه وأبلغه انه سقط في امتحان الدخول، وطلب منه تسجيل إبراهيم، مصراً على انتظار العام الدراسي التالي، ثم صار يعمل مياوماً في البناء مساعداً أباه وشقيقه المغترب في تحمّل مصروف العائلة، إلى أن تبرع عمه المسافر بتحمل كلفة تعليمه في العام التالي.
هنا، بين الركام، بترت النفوس، وغاب الفرح عن سماء الأرض المحروقة إلا أن المنكوبين هنا هم من أرض فلسطين، وهؤلاء ليس مثلهم أحد.
يقولون إنهم لم ولن يهزموا وأن كلا منهم سيعيد بناء حياته بطريقة تليق بالمناضلين الساعين إلى استرجاع فلسطين مهما طال الزمن.
ذكريات وافتقاد وبطالة
ينطلق سكان نهر البارد من إلغاء التصاريح العسكرية التي كانت تقيد دخولهم وخروجهم من المخيم، ليشيروا إلى إيجابية الخطوة، ولكنهم يتذمرون من استمرار التفتيش الدقيق عند الحواجز، في كل مرة يعودون فيها إلى منازلهم. يعتبرون أن «النظرة الشمولية للفلسطينيين» ما زالت «اتهامية غير مبنية على الحقوق والواجبات». هم مستعدون لأداء واجباتهم، ولكن من يعطيهم حقوقهم؟ يكفي أنهم يعيشون في منطقة مصنفة بأنها «عسكرية».
يترجم اهالي البارد مصطلح «منطقة عسكرية» وفقاً لتأثيرها على حياتهم وتفاصيلها: القرار الأول والأخير للجيش اللبناني، انعكاس التطبيقات الإجرائية على حياة الناس وحرية حركتهم، اختناق المخيم اقتصادياً، هجرة المؤسسات الاقتصادية الكبيرة إلى خارج المخيم وضياع مئات فرص العمل.
بالإضافة إلى ذلك، تعجز وسائل الإعلام عن زيارتهم وطرح قضاياهم بلا تصاريح مسبقة، وإذا حصلوا عليها، تتم الزيارة بمرافقة عنصر امني، والحال ذاته ينطبق على أي لبناني او أجنبي يقصد المخيم بهدف العمل، وليس الزيارة.
يطالبون باستئناف حياتهم كما كانت، مع علمهم المسبق باستحالة ذلك، فـ«لا المنازل منازل، ولا الأحياء أحياء»، إذ يعتبرون أن ليس من بينهم من لا يحتاج إلى علاج نفسي بعد كل ما خبروه.
ليس تفصيلاً في حياة الفلسطيني أن يكون مالك منزل في حي جنين او القدس، يصبح شاغل وحدة سكنية في «Prime B« ، أو «A»، او ساكنا في الشقة الرقم 13، على سبيل المثال لا الحصر. ليس تفصيلا أن تتحول أسماء قرى المباركة فلسطين إلى مجرد أرقام وحروف.
ليس هامشياً أن تكبر مع صبحية، التي ساهمت مع أمك في تربيتك، ثم تعود من النزوح فلا تجدها، وتجهل المكان الذي عادت إليه، وتمر أشهر من دون ان تراها، وأن تكون مضطراً لبناء علاقات جديدة مع اناس لم ترهم من قبل.
يحدث ذلك لأهالي المخيم، فيما ذاكرة حياتهم وصورهم ومنازلهم وأزقتهم وتفاصيل يومياتهم تضمحلّ تحت الركام.
حتى ثيابهم بقيت حيث تركوها أمانة لدى الجيش اللبناني وهو يحرر مخيمهم من المسلحين الغرباء عنه. ذهب «الغرباء»، وعاد الناس، ولكن الحكم بالخروج عن القانون ما زال ساري المفعول، بطريقة «تضيق عليهم حتى حرياتهم الفردية».
يطالبون بـ«الحرية» التي تلغي المنطقة المغلقة، بالرغم من إلغاء تصاريح الدخول للعاديين من الفلسطينيين واللبنانيين. يريدون استئناف تبادل المنافع والمصالح والزيارات والعلاقات العادية مع المحيط.
منطقة عسكرية وتدهور معيشي دفعا بأصحاب المتاجر والمؤسسات الكبيرة إلى النزوح إلى خارج المخيم، ومنها مؤسسات للأدوات الصحية والكهربائية والمواد الغذائية، وتلك المستعملة في البناء.. ما افقدهم مئات فرص العمل، وأوصل نسبة البطالة إلى نحو ثلاثين في المئة.
«المنطقة المتاخمة»
ولدى الغوص في المعاناة، يتوقف فلسطينيو البارد عند مشكلة نتجت عن القرار السياسي اللبناني في مؤتمر فيينا لإعادة إعمار المخيم. يومها قال رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة ان الدولة اللبنانية مسؤولة عن المخيم الجديد من الألف إلى الياء، بعد تسميته بـ«المنطقة المتاخمة» لمخيم نهر البارد القديم.
يومها أطلق السنيورة شعاره الشهير «النزوح مؤقت والعودة مؤكدة وإعادة الإعمار حتمية».. اليوم يضيف الفلسطينيون للشعار عبارة أخرى: «والخازوق مستمر».
وبناء على قرار متعجّل، حصلت الحكومة، ومن الأموال المخصصة لإعادة إعمار المخيم، على سلفة من الهيئة العليا للإغاثة، بقيمة خمسة مليارات ليرة لبنانية (نحو ثلاثة ملايين وثلاثمئة الف دولار) لدفع تعويضات المتضررين في المنطقة المتاخمة للمخيم، او ما كان يعرف بـ«المخيم الجديد».
دفعت الحكومة اللبنانية يومها تعويضات 329 عائلة لبنانية كانت تسكن في المخيم الجديد من دون ان تنال الف و126 عائلة فلسطينية تعيش في المنطقة نفسها قرشاً واحداً، وهو ما يطلقون عليه «وجهاً من وجوه التمييز العنصري».
وعلى سبيل المثال، ما زال الفلسطينيون يدفعون رسوم الميكانيك عن سياراتهم التي التهمتها نيران القصف وكسرها الدمار، ولم يعوضوا عنها.
التمييز العنصري نفسه موثق كتابة على «الشيكات» التي نالها اللبنانيون: «تعويضات ناجمة عن أضرار إرهابية (مخيمات فلسطينية وجوارها)». يقولون إذا كانت الحرب وقعت في مخيم نهر البارد، وبرغم عدم علاقة فلسطينيه بها، فما هو ذنب المخيمات الفلسطينية الأخرى ليصموها بالإرهاب.
وتفيد أرقام التعويضات التي حصلت عليها بعض المؤسسات اللبنانية والمتاخمة للمخيم بـ«التمييز العنصري» عينه. وعلى سبيل المثال لا الحصر، قبض اصحاب متجر لبناني مبلغ 185 مليون ليرة لبنانية عن كسر زجاج، وتعطل عمله خلال فترة الحرب، فيما نالت إحدى التعاونيات الغذائية مئتي مليون ليرة لبنانية بسبب تلف «ثلاثة كيلوغرامات من الجبنة»، وفق ما يقولون.
في المقابل، لم تحصل مؤسسات فلسطينية دمرت بالكامل وبرأسمال لا يقل عن خمسمئة مليون ليرة لبنانية، على قرش واحد. اقتصر الأمر على مساعدات قدمتها بعض المنظمات الدولية (من 500 دولار الى ستة آلاف دولار)، وفق حجم كل مؤسسة، مع تأكيدهم أن عدد الذين نالوا أكثر من 2500 دولار لا يتعدون أصابع اليدين معاً.
ولكن إعادة الإعمار في المخيم الجديد ليست مربوطة فقط بالتعويضات وغيابها. يشير الفلسطينيون الى أنهم إذا ارادوا إعادة بناء منازلهم بعد حصولهم على مساعدة من قريب مسافر او غيره، فلن يتمكنوا من ذلك إلا عبر «الزواريب والمحسوبيات والرشى».
يعود السبب إلى ان الحكومة اللبنانية، ولدى تعهدها بتولي المنطقة المتاخمة، تعهدت بإنجاز تسوية قانونية لإعادة الإعمار في نهاية العام 2008. تسوية لم تنجز لغاية اليوم، وتركت نحو ستة آلاف أسرة فلسطينية تقطن «الكاراجات»، والبيوت المستأجرة، وفي «البراكسات» ومخيم البداوي، وبظروف غير إنسانية.
يسأل الفلسطينيون ما المطلوب؟ هل تريد الدولة اللبنانية استعداءهم وإدخالهم في التطرف والسلبية؟..لماذا يتم تعطيل إعادة بناء 91 مبنى سكنياً يضم كل منها نحو 12 شقة سكنية، كمعدل وسطي، وهي وحدات سكنية دمرت بالكامل. أثمرت الجهود الفردية عن إعادة بناء نحو عشرين مبنى سكنياً بعد تقديم كل فرد المستندات التي تثبت ملكية الأرض (عبر عقد بيع عند كاتب العدل).
وإذا سمحت المؤسسة العسكرية يمكن للمتقدم بطلب الترخيص المباشرة بإعادة البناء. نحن نتحدث عن عشرين في المئة من المباني المهدمة.
وبالإضافة إلى معوقات التراخيص والتمويل هناك مشكلة «الأماكن المغلقة» الممنوعة على الفلسطينيين. تمتد المناطق المغلقة على مجرى نهر البارد من لحظة دخول النهر المخيم إلى مصبه في البحر، أي بطول لا يقل عن ثلاثمئة متر. وتشمل أيضا العقار 39 الذي يحتوي منازل مدمرة لنحو 75 عائلة فلسطينية، وهو متداخل ما بين المخيمين القديم والجديد.
وتمنع إعادة الإعمار تحت ذرائع مختلفة ابرزها التداخل، واختلاف البنية الجيولوجية للمنطقة (ارتفاع وانخفاض)، وضرورة وجود مخطط توجيهي جديد غير معروف الجهة المسؤولة عنه، كما يمنع مد اي انابيب يزيد قطرها عن ثمانية «إنشات»، بحجة عدم تحويلها إلى انفاق.
وفي خضم ما يسميه الفلسطينيون «المعمعة»، جاءت الهبة الإيطالية بقيمة خمسة ملايين يورو، وخصصت للمنطقة المتاخمة للمخيم القديم. لم توزع الهبة كلها برغم ان اللجنة المشرفة على توزيعها تعهدت صرفها للناس في أشهر قليلة. خصصت المنحة لإعادة الترميم فقط في المنطقة المتاخمة للمخيم القديم، كون إعادة إعمار المهدم تحتاج إلى التسوية القانونية لبنانياً.
اختلفت تعويضات «الطليان»، وتراوحت ما بين 20 دولاراً وعشرين الف دولار.. يقول الفلسطينيون ان المؤسسات الأهلية الإيطالية التي كلفت ترميم المباني المهدمة جزئياً قبضت 30 في المئة من قيمة الهبة على أعمال لم تنجزها. فأين بقية المال؟ يسأل الفلسطينيون، بعدما يؤكدون ان مجموع ما تلقوه من الهبة لا يتجاوز المليون و380 الف دولار.
«ملكية» المخيم القديم...
يشمل المخيم القديم الذي دمر بالكامل خمسة آلاف و623 وحدة سكنية. تم تسليم 470 وحدة سكنية حتى اليوم، وهناك وعود بتسليم نحو 400 وحدة في نيسان المقبل. تكمن مشكلة إعادة الإعمار في عدم توفر اكثر من اربعين في المئة من مجمل الكلفة المطلوبة. يقول الفلسطينيون ان «الأونروا» تؤكّد انها بحاجة إلى مئة و75 مليون دولار لاستكمال إعادة الإعمار برزمه الثماني. انتهى المقاولون من بناء الرزمة الأولى (369 وحدة سكنية، بما فيها الكاراجات والمحلات). ولم ينجز من الرزمة الثانية سوى جزء صغير (نحو 170 شقة). ووفقاً للأرقام، وإذا ما تم تسليم الأربعمئة وحدة سكنية بعد خمسة اشهر، فإنه يتبقى اربعة آلاف و753 وحدة سكنية لم تنجز، وتشكل عديد الرزم الخمس المتبقية.
إلى ذلك، وبموجب مؤتمر فيينا، استملكت الدولة اللبنانية اراضي المخيم القديم بأموال من المانحين بهدف إعادة إعماره وإسكان من كانوا يعيشون فيه. وتم تحديد السكان عبر لجنة مشتركة من «الأونروا» واللجنة الشعبية للمخيم ومنظمات المجتمع المدني الفلسطيني بطريقة شفافة لا شوائب فيها.
ووفقاً للوضع الجديد، لم يعد هناك شيء اسمه ملك للفلسطيني. يملك شاغل كل شقة رقمها ومفتاحها، ويقطنها طالما لديه ذرية من بعده، لا يحق له بيعها او التصرف بها.
ووفقاً للإعمار الجديد، ترك نحو 38 في المئة من المساحة الإجمالية للمخيم للطرقات وللمساحة العامة المشتركة، بعدما كانت الزواريب تحتل نحو 14 في المئة من مساحته. طبعاً اعيد بناء الوحدات السكنية بعد قضم ما لا يقل عن عشرين إلى ثلاثين في المئة من مساحتها السابقة (بيت مئة وعشرة امتار اصبح ستين متراً). لم تراع في إعادة البناء معايير الهندسة الدامجة للمعوقين، ولا الحياة الاجتماعية للسكان. المداخل الأساسية للمباني ضيقة ومثلها مداخل الشقق، وحدّث بلا حرج عن مساحات الغرف التي لا تتجاوز في افضل الحالات الثلاثة امتار بثلاثة امتار، فيما يوجد غرف لا تتعدى الثلاثة امتار بمترين ونصف المتر.
«الأونروا» نفسها اعترفت لهم ان المواصفات الفنية للبناء لم تستكمل خلال التنفيذ، وان لا التزام من قبل المتعهدين بدفاتر الشروط.
دفتر الشروط نفسه، ترك الباب مفتوحاً لـ«الاختلاس والفساد»، وفق ما يقولون. ينص مثلاً على صناعة النوافذ من «المينيوم» اميركي ممتاز، او شبيه له في حال لم يتوفر. هنا يضع المتعهدون أسوأ أنواع الألمنيوم بذريعة عدم توفر النوع المحدد. وبذلك اتاح دفتر الشروط للمتعهد الحصول على سعر عال بحكم النوعية الجيدة المنصوص عليها، وترك له الباب للفساد عبر إمكانية استبدالها. ويسري مثل الألمنيوم على كل شيء.
ويصرف الناس بدل الأثاث على إصلاح الشقق قبل ان يسكنوها. يشير الفلسطينيون إلى محسوبيات سياسية وطائفية حتى في عملية التلزيم وإلى غياب تطبيق البنود الجزائية للتأخر في انجاز الرزم. فمثلاً كانت الغرامة تصل إلى 14 ألف دولار عن كل يوم تأخير في الرزمة الأولى، ومع ذلك تأخرت الأعمال شهوراً ولم يُغرّم احد.
باب إضافي للهدر يتمثل بدفع «الأونروا» مئة و25 الف دولار شهرياً من اجل التأكد من خلو المنطقة من الأثار، وعليه يصل المبلغ السنوي، الذي يدفع من اموال إعادة الإعمار، إلى مليون وخمسمئة الف دولار.
ذيول الحرب ومآسيها
يمكن لنوعية الأنشطة التي تنفذها منظمات المجتمع المدني الفلسطيني داخل مخيم نهر البارد ان تشير إلى بعض المشاكل التي يعاني منها ناسه.
فالهيئة الأهلية لمناصرة المخيم، التي ينضوي تحت إطارها نحو 36 جمعية، أدّت دوراً، قدر المستطاع في تصويب إعادة الإعمار، (منع الدرج اللولبي الذي كان مقررا في مباني رزم المخيم القديم مثلاً) والسهر على وقف الإجحاف المالي والوظيفي بحق العمال، والسعي لإلغاء القاعدة العسكرية في منطقة «صامد» (هناك وعود بردها إلى الفلسطينيين).
ونفذت كل مؤسسة على حدة مشاريع إغاثة، وفق رئيسة جمعية «النجدة الاجتماعية» في مخيم البارد نوال حسن، وعبدالله بركة من «بيت أطفال الصمود»، وزيدان طه من «أجيال». وتنوعت المشاريع ما بين الدعم النفسي حيث لوحظ تغير كبير في سلوكيات أطفال المخيم تترجم من حيث العنف المدرسي والأسري يصل إلى «مئة في المئة».
لم يستعد صغار المخيم، وجزء كبير من ناسه، قدراتهم على التركيز. وصل التسرب المدرسي إلى أعداد لم يبلغها سابقاً. وتسبب ضيق المكان والعجز الاقتصادي وتردي الأحوال المعيشية نتيجة فقدان الموارد وفرص العمل إلى مشاكل في كل بيت تقريباً.
يجهد اختصاصيو المؤسسات في حملات التوعية في المنازل والأحياء لتشجيع الناس على ارتياد عيادات الطب النفسي التي اصبحت موجودة بكثرة في المخيم، ووصلت إلى خمس ما بين برنامج دعم نفسي وعيادة ثابتة. ففي عيادة سميت للأمراض العصبية في مركز «الأونروا»، وصل عدد الحالات المسجلة إلى نحو 450 حالة خلال أشهر قليلة.
يقول ممثلو المنظمات المدنية إنهم تعالجوا «نفسياً» لكي يباشروا مهامهم في مساعدة الآخرين، ليؤكدوا ان سكان المخيم كلهم بحاجة إلى عناية نفسية.
المصدر: السفير