القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الخميس 28 تشرين الثاني 2024

تقارير إخبارية

الصهيونية من الفكرة إلى الحركة إلى الدولة

الصهيونية من الفكرة إلى الحركة إلى الدولة

/cms/assets/Gallery/1084/p-30.jpg

إعداد / أحمد السعيد

ستة وأربعون عاماًمضت على ذكرى أليمة ( ذكرىالنكسة ) تخضّبها الدماء وتشيعها صرخات الثكالى وصيحات المعذبين.ستةوأربعون عاماً مضت على نجاح حركة إرهابية عنصرية واحتلالها أراضي عربية في الجولان وسيناء وغزة والقدس. إنها الحركة الصهيونية، تلك الحركة العنصرية التي نمت وترعرعت في حضن الإمبريالية الغربية، لتأتي في سياق الهيمنة الغربية على الشرق الأدنى ومقدراته، ولتكون عصاً غليظة يحمي بها الغرب مصالحه في المنطقة العربية. فهلمّ بنا نتتبع جذور تلك الحركة منذ أن كانت فكرة إلى أن صارت حركة سياسية، وإلى أن أصبحت دولة.

السبي البابلي بداية الفكرة:

فى عام خمسمئة وستة وثمانين قبل الميلاد،هجم الملك البابلي نبوخذ نصرعلى مملكة يهوذا اليهودية، وعاصمتها أورشليم، في جنوب فلسطين، ودمرها وقتل عدداً كبيراً من أهلها، وشرد عدداً آخر، ونفى عدداً كبيراً من سكانها إلى مملكة بابل. ومن هنا نشأت فكرة استيطان أورشليم الأرض المقدسة، علماً بأنّ الكنعانيين هم السكان الأصليون لفلسطين، وقد حرص حاخامات اليهود على تعزيز فكرة استيطان فلسطين والشوق إليها في الوجدان الشعبي اليهودي، فركزوا على تلك الفكرة في التراث الديني اليهوديالذي يتمثل في التوراة والتلمود (كتابي اليهود المقدسين)، ونشأت قصص وحكايات كثيرة تذكرأنّ من يقيم خارج فلسطين من اليهود يُعَدّ كافراً، وأنّ من يموت خارج فلسطين ويدفن خارجها أيضاً يموت كافراً.من هنا كان حرص كل يهودي يموت خارج فلسطين على أن يضع كيساً من تراب أرض فلسطين تحت رأسه حتى يعدّ كأنه دفن فيها.

المُسَحاء الدجّالون...تجسيد الشوق الصهيوني إلى فلسطين:

وفي العصر الروماني تفرق اليهود في فلسطين إلى أحزاب وشيع متفرقة، وبدأت كل فرقة تبحث عن طريق للخلاص، وتوَصّل اليهود بتأثير أفكار بابلية قديمة - ظهرت جذورها الأولى في بعض كتابات التلمود – إلى فكرة ظهور مسيح مخلّص يتحقق الخلاص على يديه ويعود على يديه ملك داوود وسليمان، وسرعان ما ظهر المسيح ابن مريم. لكن الفرقتين الرئيسيتين اليهوديتين (الفريسيين والصدوقيين) رفضتا الاعتراف به، ذلك لأنه جاء باحثاً عن ملكوت السماء، رافعاً شعار (أحبوا أعداءكم)، وكان الفكر اليهودي في ذلك الوقت ينتظر مسيحاً من نوع آخر؛ فقد كانوا ينتظرون مسيحاً يُعيد أمجاد داوود وسليمان، مسيحاً يشهر سيفه في وجه أعداء اليهود لتخليص أورشليم وإعادتها إلى شعب الله المختار مرة أخرى.

ومن هنا ظهر ما يسمّى المُسَحاء الكاذبين (مشيحي هشيقر)؛ فقد ظهرت شخصيات يهودية يدعي كل منها أنه هو المسيح المخلّص، وكان أول مسيح كاذب يظهر هو توديش، وقد ظهر يدعو إلى تخليص اليهود من عبودية روما في أعقاب تدمير الإمبراطور الروماني تيتوس الهيكل اليهودي عام سبعينللميلاد، وقد جذب الجماهير خلفه إلى نهر الأردن، ووعدهم بشقّ المياه مثلما حدث مع النبي موسى عليه السلام، وأن يغرق فيه الرومان كما أغرق موسى الفراعنة، ولكنه لم يفلح في شقّ مياه النهر، وقبض عليه الرومان وحكموا عليه وعلى أتباعه بالموت. وبعد نحو ثلاثمئة عام تقريباً، وعلى خطى توديش، ظهر مسيح آخر في جزيرة كريت اسمه موسى وأخذ أتباعَه في عيد الفصح ووعدهم بشقّ مياه البحر المتوسط وبنقلهم إلى فلسطين، فصدقه أتباعه وقفزوا معه بنيّة سليمة إلى أعماق البحر، فغرق معظمهم. أما موسى نفسه، فقد اختفى بعد هذا الحادث.

وفي العصور الوسطى استمرّ ظهور المسحاء الكاذبين، فظهر من المسحاء في سوريا مسيح يدعى شيرين،وظهر مسحاء في فارس مثل أبي عيسى الأصفهاني وديفيد الروي الكردستاني.

كذلك قام العديد من حركات المسحاء الدجالين في بلاد اليمن، وقد أثارت هذه الظاهرة الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون،فألف كتاباً خاصاً بعنوان إجبريت تيمان (رسالة اليمن)، وأرسله إلى يهود اليمن وحذّرهم فيه من السير وراء كل مخادع ومدعٍأنه المسيح.

واستمرت تلك الظاهرة في العصر الحديث، فظهر في إيطاليا عام ألف وخمسمئة وأربعة وعشرينللميلاد شخص يُدعى ديفيد هرأوفينى، إلا أن محاولته باءت بالفشل. وفي الفترة نفسها، ظهر مسيح آخر كان مساعداً لهرأوفينى اسمه ديجو بيرس، وكان من كبار الموظفين في حكومة البرتغال، وبالرغم من أنه اشتهر في بلدان كثيرة وآمن به الكثيرون من اليهود والمسيحيين، وكان صديقاً للبابا، إلا أنه لم يقدَّر له النجاح؛إذ قبضت عليه سلطات محاكم التفتيش وحكمت عليه بالحرق بالنار، بعد أن رفض اعتناق المسيحية عام ألف وخمسمئة وثلاثينللميلاد، وبعدها بعامين مات هرأوفينى في السجن.

شبتاي زئيفيآخر المسحاء الدجالين:

ظهر شبتاي زئيفي في مدينة إزمير في تركيا في التاسع من آب، وهو اليوم الموعود لظهور المسيح وفقاً للأسطورة اليهودية؛ فقد ذهب شبتاي إلى المعبد في أحد الأيام واعتلى المنصة، ونطق باسم الرب بحروفه الصحيحة (يهوه)، وهو الأمر الذي لا يسمح به في الديانة اليهودية إلا للكاهن الأعظم في عيد الغفران وللمسيح في آخرة الأيام. وعلى الفور صدقته الجماهير اليهودية وانجرفت وراءه أملاً في الخلاص، وأخذ شبتاي يجول في بلاد الشرق لعدة سنوات، حقق من خلالها المزيد من المؤيدين، وعندما ذهب شبتاي إلى القاهرة انضم إليه وزير المال المصري في ذلك الوقت ووضع أملاكه تحت تصرفه.

وفي تلك الأثناء اقتربت سنة الخلاص، وقرر شبتاي أن يقوم برحلة الخلاص، فخرج من القاهرة مصحوباً بحاشية من الدعاة، إلى أن وصل إلى موطنه إزمير، وقضى هنالك الأشهر الأخيرة من عام ألف وستمئة وخمسة وستينللميلاد. وفي الثلاثين من كانون الأول/ديسمبر عام ألف وستمئة وخمسة وستينللميلاد استقل شبتاي باخرة وأبحر إلى القسطنطينية من أجل إسقاط السلطان العثماني عن عرشه، ولكنه ما إن نزل على الشاطئ حتى كان الجنود الأتراك في انتظاره، فقبضوا عليه وسجنوه، ومن السجن نقلوه إلى قلعة جامي هولي التي تقع على الشاطئ. وانتشر الخبر في أرجاء العالم، فتدفقت الجماهير إلى جامي هولي لتقف إلى جانب المسيح، فكانت السفن تصل كل يوم محملة بالناس والذهب والفضة والهدايا، وتحولت القلعة إلى ما يشبه القصر الملكي.

فى تلك الفترة قرر السلطان العثماني أن يقضي على حركة شبتاي،فقام بطلبه، فخشي شبتاي على حياته، ولذلك فما إن مرّ على القصر،ومرّ على عتبة القاعة، حتى خلع قبعته اليهودية وارتدى بدلاً منها طربوشاً وأشهر إسلامه وأشهرت زوجته سارة إسلامها أيضاً ولحق به سائر الأتباع، إلا أنه اكتُشف فيما بعد أن شبتاي كان يظهر الإسلام وظل يبطن اليهودية، وحينما مات كان قد طلب في وصيته ألا يدفن في مقبرة إسلامية، بل في قبر منعزل على شاطئ البحر، وقد استجيب لطلبه. وبعد موته استمرت طائفته التي لا تزال موجودة في تركيا حتى اليوم، ولها عقائد خاصة هي مزيج بين اليهودية والإسلام، وتسمى هذه الطائفة طائفة(يهود الدونمة)، ويقال إن مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية كان من أبناء هذه الطائفة.

ورغم أنّ الصهيونية الدينية قامت على معارضة فكرة (المسيح المنتظر)؛ إذ أدى ذلك الاعتقاد إلى عدم اتخاذ اليهودأيَّ إجراء عملي تجاه احتلال فلسطين، إلا أن فكرة المسيح المنتظر التي استمرت لستين جيلاً كان لها دور واضح في نشوءالفكرة الصهيونية؛ فلولاها لما قامت الفكرة الصهيونية.

الفترة ما بين شبتاي زئيفي وظهور الصهيونية السياسية:

بعد خفوت حركة شبتاي زئيفي ظهرت عدة محاولات لتوطين اليهود في فلسطين، ومنها اقتراح يهود النمسا على القيصر جوزيف الثاني الذي كان في حالة حرب مع تركيا، أن يحولوا للنمسا جيشاً مكوناً من أربع كتائب يهودية، بشرط أن يسلمهم فلسطين في حالة الانتصار على تركيا، إلا أن هذا الاقتراح أخفق.

وكانت أهم حلقات نموّ الفكرة الصهيونية هي دعوة نابليون بونابرت اليهود في كل أنحاء العالم إلى الاستيلاء على فلسطين؛إذأصدر نابليون بونابرت منشوراً لكل اليهود في أثناء حصار جيوشه لحصن عكا في نيسان/أبريل من عام ألف وسبعمئة وتسعة وتسعين للميلاد، يدعوهم فيه إلى الانضواء تحت لوائه، لكن بعد شهر من هذا المنشور عاد نابليون إلى فرنسا دون أن يدخل القدس ودون حتى أن ينجح في اقتحام حصن عكا. وقد عاد وفكر في إقامة دولة يهودية في فلسطين مرة أخرى عام ألف وثمانمئة واثني عشرللميلاد، لكنه تخلى عن هذا المشروع بعد أن حذره الكاردينال يوسف بيش من أنه وفقاً للكتابات المقدسة المسيحية إن الاعتراف باليهود سيؤدي إلى التعجيل بنهاية العالم.

ظهور الصهيونية السياسية:

بدأت الفكرة الصهيونية تتطور وتتجلى في إطار حركي؛ فقدنشأت في عام ألف وثمانمئة واثنين وثمانينللميلاد أول جمعية صهيونية تُدعى (عشاق صهيون)، وطرحت هذه الجمعية مسألة الهجرة إلى فلسطين ومسألة إحياء اللغة العبرية لتكون عوضاً من اللغة اليديشية لغة يهود أوروبا الوسطى. وبدأت جمعية عشاق صهيون بمحاولة شراء الأراضي الفلسطينية من الدولة العثمانية دون جدوى، رغم توسط شخصيات سياسية إنجليزية.غير أن الجمعية توصلت إلى تشكيل طليعة الهجرة الصهيونية الأولى إلى فلسطين، لكنّ الحركة الصهيونية ظلت تفتقر إلى التنظيم الشامل والخطة الفاعلة حتى قيام مؤتمر بازل في سويسرا عام ألف وثمانمئة وسبعة وتسعينللميلادبرئاسة تيودور هيرتزل، الذي أدىإلى تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية.

أماعن مؤسس الصهيونية السياسية، تيودور هيرتزل، وأفكاره التي جسدها في كتابه (الدولة اليهودية)الذي صدرعام ألف وثمانمئة وستة وتسعينللميلاد، فإنه يرى أن المسألة اليهودية ليست مسألة اجتماعية أو دينية، بل مسألة قومية لا يمكن حلها إلا من طريق تحويلها إلى قضية سياسية عالمية تكون تسويتها عبر الدول الكبرى مجتمعة، وذلك يتأتى بمنح اليهود رقعةً من الأرض يقيمون عليها دولة قومية. ولتحقيق ذلك الهدف، يقترح هيرتزل تأسيس جمعية يهودية تعمل على تنظيم اليهود وتعبئتهم، وشركة يهودية على غرار الشركات الاستعمارية الكبرى في المستعمرات الأوروبيةفي آسيا وأفريقيا تقوم بتوطين المستعمرين اليهود واستغلال موارد البلاد والسيطرة عليها.

واستطاع هيرتزل تجسيد أفكاره في مؤتمر بازل عام ألف وثمانمئة وسبعة وتسعينللميلاد، الذي حضره مئتان وأربعة مندوبين يمثلون جمعيات صهيونية من بلدان مختلفة، وقد وضع هذا المؤتمر برنامجاً شاملاً حدد فيه أهداف الحركة الصهيونية،وذكر هدف الحركة الصهيونية في مقررات مؤتمر بازل بأن غاية الصهيونية هي خلق وطن للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون العام. أما عن كيفية تحقيق ذلك الهدف، فقد حددها مؤتمر بازل على النحو الآتي:

- العمل على استعمار فلسطين بوساطة الزراعيين والحرفيين والعمال.

- تنظيم الجاليات اليهودية عبر جمعيات صهيونية محلية تابعة للمنظمة الصهيونية العالمية.

- تغذية الوعي القومي لدىاليهود لتيسير هجرتهم إلى فلسطين.

- كسب ثقة الدول الكبرى حتى توافق على تنفيذ هدف الصهيونية.

وهكذا نجح هيرتزل في تجسيد أفكاره وجعلها واقعاً عملياً ملموساً، حين فكر فيما لم يفكر فيه الصهاينة القدامى، أي استجلاب دعم القوى العظمى للحركة الصهيونية واستجلاب تأييدها لاستغلال مقدرات تلك القوى وتوظيفها في سبيل تحقيق الوطن القومي المنشود، وهو ما سينجح فيه هرتزل فيما بعد، وسينتج منه إنشاء الدولة الصهيونية وقيامها، وهو الأمر الذي أكده هيرتزل في مذكراته عقب مؤتمر بازل؛ إذ قال:"لو أردت أن أختصر مؤتمر بازل في كلمة واحدة - وهذا ما لن أفعله صراحةً - لقلت في بازل أسست الدولة الصهيونية، ولو أعلنت ذلك اليوم لقابلنى العالم بالسخرية والتهكم،لكن بعد خمس سنوات على وجه الاحتمال، وبعد خمسين سنة على وجه التأكيد، سيرى هذه الدولة جميع الناس"، وقد كان بالفعل أن قامت الدولة الصهيونية بعد واحد وخمسين عاماً من مؤتمر بازل.

بداية الاستعمار الصهيوني لفلسطين:

وبعد مؤتمر بازل بعام واحد، أي عام ألف وثمانمئة وثمانية وتسعينللميلاد، قام المؤتمر الصهيوني الثاني الذي أقر تشكيل لجنة الاستعمار وإنشاء المصرف الاستعماري اليهودي ليكون الأداة المالية للمنظمة الصهيونية، وأنشأ المؤتمر الصهيوني الخامس عام ألف وتسعمئة وواحد ميلاديالصندوق القومى اليهودي لشراء الأراضي في فلسطين ولتدعيم الاستعمار الصهيوني هناك، وفتحت المنظمة الصهيونية فروعاً للشركة الإنجليزية الفلسطينية، التي أصبحت فيما بعد البنك الأنجلوفلسطيني، في العديد من المدن الفلسطينية، وأنشأت المنظمة مؤسسات تعليمية تعتمد العبرية لغةً حيةً أساسيةً.

أما استعمار الأراضي وتوطين الصهاينة في فلسطين، فقد كان من اختصاصات مكتب فلسطين الذي أسسته المنظمة الصهيونية عام ألف وتسعمئة وثمانية للميلاد، وبنى هذا المكتب إثر تأسيسه بمساعدة الصندوق القومي اليهودي ضاحية صهيونية لمدينة يافا العربية، سُميت تل أبيب،وأنشأ المكتب شركة تطوير أراضي فلسطين لاقتناء الأراضي الفلسطينية وإنشاء مراكز لتدريب المهاجرين الصهاينة على الأعمال الزراعية والصناعية.

كل هذه المؤسسات تهدف إلى تجذير الوجود الصهيوني في فلسطين، إلا أن هيرتزل كانت له وجهة أخرى؛إذ كان يرى أنّ من الأولى أن يحصل الصهاينة على وعد من القوى العظمى، مقابل حماية مصالحها في الشرق، وحاول هيرتزل أيضاً الحصول من السلطان العثماني على اعتراف واضح بحق اليهود في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين يتمتع بالحكم الذاتي، مقابل حل الأزمة المالية التي ألمّت آنذاك بالدولة العثمانية من خلال قروض صهيونية،إلا أن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني رفض بتاتاً، وأعلن أن أرض فلسطين ليست ملكه،بل ملك شعبه.

وهكذا أخفق هيرتزل في الحصول على تعهد من الدول العظمى بمنح فلسطين للصهاينة. وإثر وفاة هيرتزل عام ألف وتسعمئة وأربعة للميلاد، تخلّى المؤتمر الصهيوني السابع عام ألف وتسعمئة وخمسة للميلاد عن وجهة نظر هيرتزل القائلة بالحصول على تعهد من القوى العظمى لمنح فلسطين للصهاينة، وتبنى وجهة نظر الصهيونيين العمليين القائلة باستقدام المهاجرين الصهاينة إلى فلسطين وإنشاء المدارس والمصانع، وذلك بشكل تدريجي منظم دون انتظار الحصول على ميثاق دولي. وبذلك وقع تنظيم الهجرة الثانية بين ألف وتسعمئة وخمسةوألف وتسعمئة وأربعة عشر، وكان من أبرز قادتها ديفيد بن غوريون، وقد أدت هذه الهجرة إلى ارتفاع عدد الصهاينة في فلسطين من خمسين ألف نسمة في عام ألف وثمانمئة وسبعة وتسعين إلى خمسة وثمانين ألفاً في عام ألف وتسعمئة وأربعة عشرللميلاد، من بينهم اثنا عشر ألف مهاجر يقطنون في المستعمرات الزراعية.

وعد بلفور...بريطانيا تغدر بالعرب:

لقد حارب العرب الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى بقيادة أمير مكة الشريف حسين لضمان استقلال الولايات العربية بعد الحرب عن الدولة العثمانية وضمان وحدة الولايات العربية، إلا أن البريطانيين كان لهم قرار آخر؛إذ قرروا تقسيم الولايات العربية بينهم وبين فرنسا وروسيا القيصرية في اتفاقية سايكس بيكو عام ألف وتسعمئة وستة عشر للميلاد. وفي إطارالغدر بالعرب يأتي وعد بلفور الذي ينص على تأسيس وطن قومى للشعب اليهودي في فلسطين عام ألف وتسعمئة وسبعة عشر. هذه الظروف الدولية التي ألمّت بالعالم العربي عامة، وبفلسطين خاصةً، هي التي أشعلت فتيل المقاومة الفلسطينية للوجود الصهيوني والبريطاني، فقامت جمعيات إسلامية ومسيحية في فلسطين، هدفها توعية الشعب الفلسطيني على المؤامرة الصهيونية البريطانية على فلسطين، وقد تبنت فيبرامجها مقاومة الاستيطان الصهيوني والحؤول دون شراء الصهاينة للأراضي، وانفجر غضب الجماهير الفلسطينية في الرابع من نيسان/أبريل عام ألف وتسعمئة وعشرين للميلاد، وقامت تظاهرات في القدس أدّت إلى وقوع عدد من القتلى والجرحى في صفوف الفلسطينيين بسبب اعتداء الشرطة البريطانية والمستوطنين الصهاينة على جموع الفلسطينيين.

الثورة الفلسطينية الكبرى عام ألف وتسعمئة وستة وثلاثين:

بلغ الغضب الشعبي أوجه في الثلاثينيات، فقامت الثورة الفلسطينية الكبرى في منتصف نيسان/أبريل عام ألف وتسعمئة وستة وثلاثين في مدينة نابلس، فقامت الإضرابات العامة والتظاهرات، وأخذت الاصطدامات معالشرطة البريطانيةومع الصهاينة تشتد شيئاً فشيئاً إلى أن صارت عنيفة ومسلحة. ومن ضمن أسباب الثورة، الاستفزازات الصهيونية التي تمثلت بتهريب الأسلحة لفائدة الصهاينة والتدريب العسكري السافر للصهاينة واعتداءات جماعة جابوتنسكي المتطرفة على بعض القرى العربية.وقد دامت هذة الثورة قرابة سنتين،شارك فيها بالإضافة إلى الفلسطينيين عدد من المتطوعين من البلدان العربية المختلفة، ولقي كثير منهم حتفهم في فلسطين.

تغيّر التحالفات وبداية التحالف الأمريكي الصهيوني:

كانت المنظمة الصهيونية منذ وعد بلفور وحتى الحرب العالمية الثانية - باستثناء جماعة جابوتنسكي المتطرفة - تتستر على هدفها الحقيقى في إقامة دولة صهيونية، فكانت تدّعي أن الوطن القوميفي فلسطين لا يعني تأسيس دولة يهودية في فلسطين على حساب شعبها، وهذا التكتيك هو من تخطيط السياسة البريطانية التي تعمل على تهدئة خواطر العرب للحفاظ على مصالحها في المنطقة العربية، ولكن حدث أن تناقضت المصالح البريطانية مع المصالح الصهيونية، فحدثت القطيعة بينهما، وظهر الوجه الحقيقي للصهيونية الذي يتمثل باحتلال فلسطين، وظهر هذا واضحاً في مؤتمر بلتمور عام ألف وتسعمئة واثنين وأربعين في نيويورك، وقد أعلن هذا المؤتمر التزامه قرارات مؤتمر بازل، وطالب المؤتمر بغنائم الحرب العالمية الثانية، وهي جعل فلسطين دولة يهودية في بناء العالم الديموقراطي الحديث. وكان لابد لتحقيق هذه المطالب من الضغط على بريطانيا العظمى حتى تتخلى عن الكتاب الأبيض الثالث الذي أعلنت فيه بريطانيا رغبتها في إنشاء دولة فلسطينية يتقاسم فيها كلمن العرب واليهود السلطة بكل الوسائل، بما فيها العنف واستخدام السلاح ضد بريطانيا.

وهنا ظهر الوجه الحقيقي للصهيونية، فبدأت باستخدام العنف المسلح ضد الوجود البريطاني في فلسطين، فنسفوا دوائر الهجرة وهاجموا دوائر الشرطة، واغتالوا بعض الضباط والجنود البريطانيين. وفي ألف وتسعمئة وأربعة وأربعين حاولوا اغتيال المندوب السامي البريطاني، وفي السادس من تشرين الثاني/نوفمبر من السنة نفسها، نجحوا في اغتيال وزير الدولة البريطاني في القاهرة، لتظهر بعد ذلك حقيقة الحركة الصهيونية الإرهابية التي تنكرت للدولة التي دعمتها ومهدت لها سبل الاستيطان في فلسطين.

وإثر فساد العلاقات الصهيونية البريطانية، قررت الحركة الصهيونية أن تمدّ جسور التواصل بينها وبين قوة غربية جديدة، فكثفت نشاطها في الولايات المتحدة الأمريكية لتكون داعماً جديداً لمشاريعها وخططها الرامية إلى إنشاء دولة صهيونية في فلسطين، وذلك ما تجلى في مؤتمر بلتيمور في نيويورك عام ألف وتسعمئة واثنين وأربعينللميلاد، الذي أصبح قاعدة انطلاق للحركة الصهيونية في أمريكا.

قيام الدولة الصهيونية:

وقد أدى هذا الدعم الأمريكى في النهاية إلى تخلي بريطانيا عن الكتاب الأبيض الثالث عام ألف وتسعمئة وستة وأربعين،ولا سيماأن الحرب العالمية الثانية قد انتهت لمصلحة الحلفاء، وقد زال شبح النازية الذي كانت تخشى تغلغله في المنطقة العربية من خلال تحالفات مع العرب، فلم يعد هناك مبرر لتمسك بريطانيا بهذا الكتاب،فتخلت عنه لتغدر بالعرب مرةًثانية وتتركهم فريسة لمخططات الصهيونية. ورغم ذلك، استمرتالحركة الصهيونيةبأعمال العنف ضد جهاز الانتداب البريطاني، وذلك حتى تغادر بريطانيا فلسطين نهائياً ويخلو الجو للحركة الصهيونية. وفي ظل هذه الأجواء، قررت بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين عام ألف وتسعمئة وسبعة وأربعين، وترك الأمر لجمعية الأمم المتحدة التي عينت لجنة قررت تقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما للعرب والأخرى للصهاينة، مع بقاء القدس منطقة دولية، وقد قبل الصهاينة بقرار التقسيم فيما رفضه العرب. وفيالرابع عشر من أيار/مايو عام ألف وتسعمئة وثمانية وأربعين، قررت بريطانيا - أمام تعكر الجو - سحب قواتها من فلسطين، فانتهز ديفيد بن غوريون (زعيم الحركة الصهيونية آنذاك)الفرصة ليعلن في اليوم نفسه قيام دولة إسرائيل، وكان ذلك إيذاناً بنشوب الحرب بين العرب والصهاينة.

الحرب العربية الصهيونية الأولى عام ألف وتسعمئة وثمانية وأربعين:

في اليوم الذي وقع فيه إعلان قرار التقسيم، وجهت اللجنة العربية العليا المنبثقة من الأحزاب الوطنية الفلسطينية نداءً إلى الشعب الفلسطيني تدعوه فيه إلى مقاومة هذا القرار بالسلاح، واجتمعت القمة العربية في القاهرة من التاسع إلى السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر عام ألف وتسعمئة وسبعة وأربعين، ورفضت القمة قرار التقسيم، وقررت مدّ الفلسطينيين بالمساعدات المادية والعسكرية،وإثر إعلان قيام الدولة الصهيونية في أيار/مايو عام ألف وتسعمئة وثمانية وأربعين، تدخلت جيوش البلدان العربية المجاورة (مصر،سوريا،لبنان،الأردن والعراق) بالإضافة إلى جيش الإنقاذ الذي كان يتألف من متطوعين قدموا من مختلف البلاد العربية، وكان على رأسهم الضابط السوريفوزي القاوقجي الذي اشترك قبل ذلك في ثورة عام ألف وتسعمئة وستة وثلاثين، واشتعل فتيل الحرب، وتمكنت الجيوش العربية من إحراز تقدم في البداية، إلا أن الصهاينة استعطفوا الرأي العام الأوروبي وكأنهم على وشك الهلاك إثر مذابح شبيهة بالمذابح النازية، فقررت الدول العظمى في إطار مجلس الأمن وقف القتال لمدة أربعة أسابيع، ووقع الضغط على الدول العربية بأن تقبل بهذه الهدنة من القوى العظمى، واستمرت تلك الضغوط إلى أن انصاعت الدول العربية للهدنة التي استغلها الصهاينة، فأخذوا يستجلبون مقادير هائلة من الأسلحة العصرية والمتطورة وأعداداً ضخمة من المتطوعين ومن الخبراء العسكريين بواسطة ميناء تل أبيب ومطارها.

وعندما استؤنفت الحرب،اختلّت كفة الميزان، وكان النصر حليفاً للصهاينة هذه المرة، فانتصرت القوات الصهيونية على الجيش الأردني، وكذلك الجيش اللبناني، فيما صمد الجيشان السوري والمصري. وبعد تحقيق ذلك الانتصار الصهيوني على الجيوش العربية، اجتمع مجلس الأمن وطلب وقف القتال، غير أن الجامعة العربية وضعت ثلاثة شروط لوقف القتال،هي: عودة اللاجئين،وقف الهجرة الصهيونية، وتحديد فترة الهدنة. إلا أن ضغط الدول العظمى على الدول العربية كان كبيراً؛ إذ قطعت بريطانيا مساعدتهاعن الجيش الأردني، رغم وجود ضابط بريطاني على رأسه (غلوب باشا)، فاستجابت الدول العربية لوقف القتال، إلا أن الصهاينة خرقوا قرار وقف القتال بالقيام بأعمال إرهابية، مثل اغتيال الوسيط الدولي الكونت برنادوت، وهاجموا القوات المصرية واحتلوا النقب وأجبروا جيش الإنقاذ على الانسحاب نحو الحدود اللبنانية.

وعندما استتب الأمر للصهاينة، تمكن الوسيط الدولي رالف بانش في عامألف وتسعمئة وتسعة وأربعين من استنباط خطة مفاوضات غير مباشرة دارت في جزيرة رودس باليونان حول توقيع هدنة بين إسرائيل والدول العربية، ووُقِّعت الهدنة مع كل الدول العربية التي شاركت في الحرب إلا العراق،ولما انسحبت الجيوش العربية حلت النكبة بالشعب الفلسطيني؛إذ فقد أرضه وشرّد إلى البلدان العربية المجاورة (لبنان وسوريا). أما على الجانب الصهيوني، فقد كان الأمر مختلفاً؛فالصهاينة نجحوا في تأسيس دولتهم في صيغة جمهورية ووضعوا على رأسها أحد كبار زعمائهم، وهو حاييم وايزمان، بينما أسندوا رئاسة الوزراء إلى ديفيد بن غوريون، وكانت الولايات المتحدة أول دولة تعترف بإسرائيل وتلاها الاتحاد السوفياتي. وبعد سنة من قيام دولة إسرائيل، أصبحت بتزكية من الاتحاد السوفياتي عضواً في الأمم المتحدة، واعترفت بها خمس وعشرون دولة.

هذا هو تاريخ الحركة الصهيونية منذ أن كانت فكرة وحتى أصبحت حركة إلى أن صار لها دولة.

المراجع :

- جذور الاستعمار الصهيوني بفلسطين/ علي المحجوبي.

- الصهيونية من الفكرة إلى الحركة في العصر الحديث/ د.رشاد عبد الله الشامي.

- القوى الدينية في إسرائيل/ د.رشادعبدالله الشامي.

المصدر: مجلة العودة، العدد الـ71