الصور تحكي قصصاً عن الماضي البعيد.. «هوية» تستعيد الماضي بين ذاكرة الموجودين وصور من رحلوا
الثلاثاء، 10 نيسان، 2012
قد لا يتبادر إلى أذهان الناس عند التقاطهم الصور أنها تجسد لحظات مارة لا تعود أبداً وإن عاد أصحابها. إلا أن الصورة الثابتة تبقى تختزن في طياتها ذكريات ومشاعر وأطياف أصحابها وتحملها على مرّ الزمن، لتخبر كل من رآها عن ذلك الزمان من دون أن تنطق.
في مؤسسة "هوية” اجتهد العاملون فيها على جمع ما أمكن من صور عن العائلات الفلسطينية، وخصوصاً الصور القديمة لتبقى محفوظة ليس عند من يملكها فقط وإنما لدى المؤسسة وفي متناول الأجيال. ومن خلال الصور استطاعت المؤسسة التشبيك بين أصحاب بعض الصور وذويهم ويبن أصدقاء لهم، كانوا يرسلونها لبعضهم البعض للذكرى ويكتبون عليها كلمات الود والمحبة. واليوم استطاعنا ايصالهم ببعض بعد عشرات السنين من الفراق:
ذكرتني بصديقي وبالقرية
«الصورة لأخي وقد سرّ بهذه الصورة التي ذكرته بصديقه العزيز وبأيام القرية الحلوة، وكذلك سرّ بها أبناؤه وأحفاده واخوته الذين لم ينسوا يوماً قريتهم وأهلها الطيبين”. هذه العبارة مقتطف من رسالة بعث بها علي قاسم (اسم مستعار) عندما أرسلنا له صورة لنسأله عما إذا كان يعرف صاحبها.
في إطار عملنا على التوثيق لإحدى العائلات الفلسطينية في لبنان، قامت "هوية” بزيارة أحد الأشخاص وهو يعيش في قرية جنوب لبنان، بعيدة عن التجمعات الفلسطينية.. ورغم أنه ليس كبيراً في السن - أي لم يتجاوز الخمسين من العمر – لكننا كمؤسسة زرناه لأن أبناء هذه العائلة الكبار والمولودين في فلسطين معظمهم قد توفوا.. استقبلنا الرجل بالترحاب وأطلع مندوبي المؤسسة على ألبومات صور والده التي لا يزال يحتفظ بها..
وبالفعل كانت ألبومات ثرية بالصورة النادرة والقديمة، وكثير منها بالأبيض والأسود وبعضها يحمل توقيعات أصحابها، لأن الصور كانت ترسل كهدايا من الأقارب والأصدقاء الذين بقوا في فلسطين ولم يغادروا في نكبة 1948..
يقول مندوب المؤسسة "من بين الصور التي وجدناها، صور قديمة لأحد الشباب، ويبدو أنها صديق والده المرحوم، وقد كتب عليها اسمه (سامي قاسم) وأنه يرسلها لصديقه الموجود في لبنان. فأخذنا نسخة عن الصورة، وقمنا بمراسلة أحد أفراد عائلة قاسم الموجودين في فلسطين لنستوضح عن صحة الاسم وإذا كان يعرف صاحب الصورة.. وإذا بالرجل يرد علينا بعد بضعة أيام ويخبرنا أن الصورة لأخيه وهو اليوم في الخامسة والثمانين من العمر.. وقد فرح كثيراً عندما رأى نسخة عن صورته كان أرسلها قبل 60 عاماً إلى صديقه في لبنان. وقام علي بإرسال الشكر والتحية والتأييد لفكرة المشروع الذي نعمل عليه».
وختم بالقول "كلنا أمل ان نعود إلى قريتنا الحبيبة ويعود كل لاجئ فلسطيني ومُهجّر إلى موطنه ودياره”.
بعد 65 عاماً: لقاء الذاكرة
|
|
صحبتهما بدأت في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، استمرت سنوات متنقلة من منطقة إلى أخرى في فلسطين بين عكا، البصة، سحماتا والناقورة. بدأت كزمالة عمل في البوليس الإضافي واستمرت كأخوة بين شخصين متحابين، إلا أن لحظة الفراق فرضت نفسها عليهما قبل أكثر من 65 عاماً، فأخرج محمد صورة شمسية له وهو باللباس الرسمي وأهداها لصديقه محمود، وكتب على ظهرها:
هدية من صديق لصديق، أهدي هذه الصورة للأخ محمود أيوب تذكار لأجل المودة الخالصة - محمد جندل، البصة 3/4/1947.
عندما قامت "هوية” بزيارة حسن محمود أيوب (أبو محمود) في منزله الكائن في مدينة صيدا/ لبنان بتاريخ 29/10/2011، لم يبخل علينا بأي معلومة يعرفها عن عائلة أيوب – سحماتا وذلك لحماسته للفكرة التي قام عليها مشروع (هوية)، وفتح لنا أرشيفه الذي يجمع فيه صوراً ووثائق قديمة لعائلته ولوالده محمود الذي وافته المنية قبل سنوات.
كان أبو محمود لا يزال يحتفظ بصورةٍ لوالده محمود وهو بلباس البوليس الإضافي ومعها بطاقته العسكرية وكذلك شهادة نهاية خدمته من البوليس، ويحافظ أبو محمود على هذه الوثائق كمن يحافظ على ثروة لإدراكه قيمة التاريخ الذي تحمله. |
وأثناء حديثه أخرج لنا أبو محمود صورة أخرى لصديق والده، محمد جندل، وقد كتب عليها العبارة التي أشرنا إليها في البداية.
روى لنا أبو محمود حكاية الصورة وكيف حصل عليها والده من صديقه محمد جندل في قرية البصة، وذلك في العام 1947، وأنه لم يسمع شيئاً عن محمد جندل منذ ذلك الوقت. وقد توفي والده واحتفظوا بالصورة لأنها ذكرى منه، وتمنى أبو محمود لو يرى هذا الشخص ليعطيه الصورة ويذكّره بالأيام الماضية، فهو متأكد أن أولاده سيفرحون كثيراً بهذه الصورة حين يرونها. وتمنى لو كان هذا الإنسان لا يزال على قيد الحياه، فالالتقاء به سيكون وفاءً وبراً بوالده. لم نفوّت الفرصة فسجلنا هذه الكلمات لأبو محمود، وأخذنا نسخة عن صورة الصديقين: محمد جندل من البصّة ومحمود أيوب من سحماتا.
البحث عن الصديق
سافر أبو محمود أيوب مغادراً لبنان والتزمنا نحن مهمة البحث عن الصديق محمد جندل إن كان على قيد الحياة، أو أحد من ذريته كي نوصل لهم الأمانة. لم يكن اكتشاف أن عائلة جندل في البصة هي نفسها عائلة بريش أمراً صعباً، بل عرفنا هذه المعلومة سريعاً وعن طريق الصدفة. وبعد بحث وسؤال متواصل، عرفنا بوجود شخص يحمل اسم « محمد جندل» ويعيش في منطقة وادي الزينة / لبنان فتوجهنا إليه يوم الجمعة بتاريخ 6/1/2012 لنتأكد إن كان هو الشخص المقصود.
دخلنا عليه وقد أتعبه المرض وتجاوز الـ 85 من العمر ومع ذلك فقد رحب بنا وسقانا من قهوته قبل أن يعرف مرادنا. عرّفناه بمؤسستنا وبمشروع «هوية» بشكل مختصر، وعندما عرف أنني من قرية سحماتا بادرني بالقول: «كان لي صديق من سحماتا اسمه محمود أيوب وكان بمثابة الأخ».
انتابنا فوراً شعور بالفرح والإنجاز عندما سمعنا هذه الكلمات وتأكدنا أننا وصلنا إلى الرجل المطلوب، فطلبا منه أن أعود لزيارته في اليوم التالي لإجراء مقابلة معه عن بلدة البصة وعائلة جندل/ بريش فلم يمانع وقال: "البيت بيتكم».
في اليوم التالي على الموعد حضرنا، ودخلنا عليه وكان التعب بادياً على وجهه وجسده إذ كان وجعه قد اشتد عليه أكثر من اليوم السابق. وعندما سألته إذا كان بالإمكان أن أجري معه المقابلة ليروي شيئاً عن تاريخ القرية والعائلة. لم يمانع أن يجيب على أسئلتنا ولكنه أبدى تحفظه على مسألة التصوير.. ربما لم يكن مرتاحاً ومطمئناً للسرعة التي جرى فيها ترتيب اللقاء، فقررت أن أدخل بالموضوع مباشرة.
أخرجت له صورة محمود أيوب مرتدياً ثياب البوليس ومعتمراً «الكلبك» أو القبعة العسكرية، وسألته: هل تعرف صاحب الصورة؟ أجاب بسرعة: هذا صديقي محمود أيوب، مستغرباً وجود الصورة معي.. ثم أخرجت الصورة الثانية وسألته: هل تعرف صاحب الصورة؟ تأملها قليلاً، ثم أبدى حيرة وقال لا أعرف.. ربما لم يصدق أنها صورته، فطلبت منه أن ينظر إلى الصفحة الخلفية ويقرأ ما كتب عليها:
(هدية من صديق لصديق، أهدي هذه الصورة للأخ محمود أيوب تذكار لأجل المودة الخالصة/ محمد جندل 3/4/1947 – البصة)
راح ينظر إلى الصورة تارة وإليّ تارة أخرى ويقول هذا أنا.. هذا أنا.. وكان صعباً علينا حينها أن نميز ما إذا كانت تلك النظرات نظرات حزن أو فرح، ولكن الدمعات كانت كفيلة لتقول أن محمد جندل (أو أبو نزيه اليوم) يحن إلى صديقه محمود أيوب وإلى تلك الأيام التي مضى عليها قرابة الـ 65 عاماً.
أعاد الحديث عن محمود أيوب والصداقة بينهما مراراً، وكيف أنهما خدما في البوليس في عكا فترة من الزمن ولكنها كانت خدمة شاقة حتى وجداً طريقة للانتقال إلى البصة وأداء الخدمة فيها.. |
|
|
باختصار، محمود أيوب كان أخاً لمحمد جندل (بريش) وليس مجرد صديق، هذه هي الرسالة التي حمّلنا إياها إلى الابن حسن محمود أيوب.. «قولوا له هذا بيت عمه»، بهذا الإيجاز وهذا الوضوح عبر محمد جندل عن مشاعره تجاه الصديق المرحوم، وأظهر شوقه للقاء أبنائه متى حضروا إلى لبنان.. وطلب نسخة عن الصور فتركناها عنده لأننا حضرنا أصلاً لهذه الغاية، ولكي نوصل رسالة مفادها أن صداقة صادقة كهذه التي يتحدث عنها أبو نزيه لا تطويها السنون وإن طالت، ولا يفرقها الاحتلال ولو تجبّر.
المصدر: مجلة العودة العدد الـ55