العائدون يخترقون «النكبة» ويُطلّون على فلسطين
مارون الراس: ممر التهجير ... معبر للعودة
الإثنين، 16 أيار، 2011
المصدر: السفير
أكثر من خمسة عشر شهيدا وخمسمئة جريح أعادوا بدمائهم فلسطين إلى الميدان العربي. من مارون الراس اللبنانية التي أذلت الجيش الذي لا يقهر، إلى الجولان الأبي، ومعابر الموت والاحتلال التي شطرت فلسطين، وكادت تحولها إلى ما يشبه القضية العقارية، الى الأردن الذي أريد له أن يكمل واسطة عقد الخيانة، الى القاهرة الجميلة.. إلى أنقرة واسطنبول.. عادت فلسطين لتفرض نفسها العنوان والعلم والقضية.
لم يعد الخامس عشر من أيار، يوما للخجل والذل والتباهي بالنكبة والبكاء على أطلال القضية. صار الخامس عشر من أيار 2011، يوما مفصليا في التاريخ العربي. يوم حفر وسيحفر جيدا في الوجدان
العربي والإسلامي والعالمي. يوم بدا فيه الفلسطيني أكثر من أي يوم مضى ومعه بعض أهله من العرب والمسلمين، أكثر إصرارا على اعادة تصويب البوصلة.
نعم الى فلسطين در.. وفلسطين هي كل الجهات وكل القلوب وكل العيون وأي حدود تفصل بيننا وبينها هي عبارة عن حدود وأسلاك وهمية، وعلى إسرائيل أن تدرك أن الشعوب العربية، اذا تسنى لها أن تكون حرة، لن تكون إلا فلسطينية وعربية، وعندها على إسرائيل أن تعيد النظر في كل حساباتها.. وأن تشعر فعلا بخطر وجودي، لا يمكن أن يقيها منه لا قبة فولاذية ولا جدار فصل ولا معاهدات ذل ولا ترســانة الأسلحة والأساطيل الأميركية.
ربما شعرت إسرائيل بقلق إزاء المشهد العربي المتحرك، خاصة بعد ثورة مصر، لكنها اكتفت بالوقوف موقف المتفرج ازاء ما يجري في العالم العربي. هذا هو الواقع قبل الخامس عشر من أيار، أما بعده، فإن إسرائيل لم تعد مرتاحة ومعها الولايات المتحدة وكل الغرب. صار عليهم جميعا أن يقرأوا الرسالة الواضحة المضمون بالصوت والصورة والدم والعلم والساحات.
لم يكن العالم مهتما بأمر لبنان ولا باللاجئين الفلسطينيين على أرضه طيلة 63 عاما من اللجوء والحروب والمجازر. بالأمس، كان مهتما أكثر من أي وقت مضى، إنما من زاوية أمن إسرائيل التي لن يكون بمقدورها أن تصدق أن هذا المشهد قابل للتكرار وربما يكون مليونيا وعلى طول الحدود من رفح إلى الناقورة مرورا بنهر الأردن ومجدل شمس... وفي قلب فلسطين.
هي السيدة الثمانينية التي قررت أن تتقرب من أرض فلسطين... ووجدت نفسها تسلك الدروب سيرا على الأقدام من مفترق مارون الراس ـ بنت جبيل، الى ساحة مهرجان العودة. هي الدرب نفسها التي سلكتها ابنة السبعة عشر ربيعا من الجليل إلى مارون، وعلى رأسها صرة وبيدها تجر شقيقها الأصغر. كان الأمس بالنسبة إليها يوم عودة. من حولها أحفاد راحوا يسألون كيف سار أهلهم، قبل أكثر من ستة عقود. كيف سلكوا تلك الهضاب والتلال من الجليل الأعلى الى مارون وبقية أخواتها.
وقائع مواجهة مارون
بالأمس، اكتمل مجد مارون الراس، حيث امتزج الدم الفلسطيني الذي سال بغزارة على تخوم الارض المحتلة، بدم الجنوبيين الذين سقطوا في مواجهة عدوان تموز 2006 .
ولئن كانت «مسيرة العودة» التي نظمت في الذكرى الـ63 للنكبة، قد دفعت ثمنا غاليا في مارون الراس، إلا انها كانت التضحية الصحيحة وفي المكان الصح وتحت العنوان الأصح.
في العام 1948، كانت مارون الراس ممرا للتهجير، ويومها تسلق اللاجئون الآتون من ناحية بلدة صلحا (مستوطنة «أفيفيم» حاليا)، بصعوبة تلال البلدة، هربا من إجرام العصابات الصهيونية، أما في العام 2011 فقد انقلب المشهد وتبدلت وجهة السير، فاستدار الجيل الجديد من اللاجئين نزولا في اتجاه فلسطين.
ويمكن القول ان ما جرى أمس أعاد تصويب البوصلة محليا فخرج اللبنانيون لبعض الوقت من عنق زجاجة الحكومة المتعثرة الى رحاب الهواء النظيف. كما خرجت الشعوب العربية، من الساحات الداخلية الى الحدود مع القضية الاصلية، فلسطين، وانتفت الفواصل المذهبية التي ظللت المشهدين اللبناني والعربي فإذا بنا أمام جمهور فلسطيني يهتف بحياة المقاومة وسيدها (راجع ص 4 و5 ).
ربما، للمرة الاولى، بدت فلسطين البارحة قريبة الى هذا الحد في عيون ابنائها الذين لجأوا الى لبنان، في أعقاب ما كان يُعرف بـ«النكبة»، قبل ان يتغير مفهوم المناسبة في 15 أيار 2011، لتتحول ذكرى النكبة الى «يوم مجيد».
وربما، للمرة الاولى، بدت العودة الى فلسطين ممكنة، أكثر من أي وقت مضى، بالنسبة الى أبناء مخيمات لبنان، الذين أطلوا على ارضهم وتاريخهم من بين الاسلاك الشائكة التي تفصل مارون الراس عن الجليل المحتل، وهي أسلاك ظهرت أمس هشة وهزيلة أمام تصميم اللاجئين على المضي في مسيرة العودة.. حتى الشهادة، بعدما قرروا ان يستعيدوا المبادرة وان يشقوا بسواعدهم ودمائهم الطريق الى انتزاع الحقوق المسلوبة.
وبينما تولى الفلسطينيون كل مجريات البرنامج والتنظيم، اكتفى «حزب الله» بتأمين الامور اللوجستية، فيما تولى الجيش اللبناني الأمن وغابت «اليونيفيل» نهائيا عن المشهد. وقد أحصى الجيش دخول أكثر من ألف حافلة الى مارون الراس، وبالتالي قُدر الحشد بأكثر من ثلاثين ألفا، حتى أمكن القول ان المخيمات زحفت عن بكرة أبيها، علما بأن الكثيرين تعذر عليهم الانتقال بسبب عدم توافر وسيلة الانتقال وخصوصا من مخيمات الشمال.
كانت فلسطين على مرمى حجر. لم يحتمل بعضهم البقاء في المرتفعات، حيث تقرر إحياء فعاليات مسيرة العودة، وصمموا على إيصال الرسالة بـ«اليد» الى الارض المحتلة، فتدفق المئات منهم نزولا مخترقين صفوف الجيش اللبناني، ومتجاهلين التحذيرات من إمكان وجود الغام وقنابل عنقودية، الى ان أصبحوا قريبين جدا من الاسلاك الشائكة. وهناك، راحوا يرشقون دوريات الاحتلال بالحجارة ويلوحون بالاعلام الفلسطينية، فيما كان الجنود الاسرائيليون المدججون بالسلاح مربكين ومتوترين، قبل ان يباشروا في إطلاق رصاص القنص على المحتشدين العزل، من خلف الدشم الاسمنتية المسلحة، ما أدى الى سقوط 10 شهداء و112 جريحا، في جريمة موصوفة، لكن، كلما سقط شهيد او جريح، كانت الحماسة تزداد، والاصرار يشتد.
وقد اضطر المنظمون إلى اختصار برنامج الاحتفال، على وقع استمرار إطلاق النار من الجانب الإسرائيلي، فيما أطلق الجيش اللبناني النار في الهواء من أجل تأمين الغطاء لسحب المصابين، ولاحقا لدفع المحتشدين الى المغادرة، بغية الحد من وقوع الاصابات في صفوفهم، بعدما أخفق مشايخ فلسطينيون ولبنانيون نزلوا الى أماكن التجمعات في إقناع الشبان بالتراجع.
رواية الجيش
وجاء في بيان صادر عن الجيش اللبناني أن «قوى الجيش وضعت في حالة استنفار قصوى، كما قامت بالتنسيق اللازم مع القوات الدولية لمنع تمادي العدو باستهداف الجموع وانتهاكه السيادة اللبنانية».
وقال مصدر عسكري لـ«السفير» ان الجيش ابلغ قائد القوات الدولية عند بدء الاعتداء الاسرائيلي بانه يتولى معالجة المسألة ميدانيا، وبالتالي لا يجوز إطلاق النار على مدنيين عزل، لكن قوات الاحتلال استمرت في ارتكاب المجزرة، علما بأن ايا من المتظاهرين لم يتجاوز الخط التقني (وليس فقط الخط الأزرق) الفاصل بين لبنان وفلسطين المحتلة، والمعروف بالشريط الشائك.
ولفت المصدر الانتباه الى ان ما فعلته إسرائيل لا يمكن ان يحصل في أي مكان في العالم، مشيرا الى انه حتى لو حصلت حالات تجاوز للخط الازرق، فان مواجهتها لا تكون بإطلاق النار على اشخاص عزل، غير مسلحين وليسوا متسللين، واصفا ما جرى بـ«الجريمة الموصوفة» الناتجة عن استخدام مفرط للقوة.
من ناحيته، قال متحدث باسم جيش العدو إن جنوده أطلقوا النار على مشاركين في مسيرة العودة اقتربوا من السياج الحدودي وبدأوا يحاولون نزعه وإنه «واع لسقوط ضحايا»، مشيراً إلى أنه لا يعرف عددهم. واعتبر ما حدث على الحدود اللبنانية والسورية «استفزازا من إيران».
مواقف منددة
سياسيا، تقدم لبنان، عبر بعثته لدى الأمم المتحدة في نيويورك، بشكوى لدى مجلس الأمن الدولي ضد إسرائيل، معتبرا أن الاعتداء الذي نفذته اسرائيل يشكل عملا عدوانيا وانتهاكا للسيادة اللبنانية واستهتارا بقرارات الأمم المتحدة.
وأكد منسق الامم المتحدة الخاص في لبنان مايكل وليامز، ان الاحداث في جنوب لبنان تعتبر من اخطر الحوادث على الخط الازرق منذ العام 2006، وحض «جميع الاطراف على ممارسة اقصى درجات ضبط النفس والاحترام الكامل لقرار الامم المتحدة الصادر عن مجلس الامن رقم 1701»، كما دعا قائد «اليونيفيل» الجنرال ألبرتو اسارتا كل الأطراف إلى أقصى حدود ضبط النفس لتجنب وقوع مزيد من الضحايا.
وأدان رئيس الجمهورية ميشال سليمان الممارسات الاسرائيلية الاجرامية ضد المدنيين المسالمين في جنوب لبنان والجولان وفلسطين، واضعاً هذا التصرف برسم المجتمع الدولي.
وأشار رئيس حكومة تصريف الاعمال سعد الحريري الى إن لبنان الذي يبقى ملتزما بالقرارات الدولية، وخصوصا القرار 1701، يعتبر قيام إسرائيل بإطلاق النار على المتظاهرين السلميين على حدودنا الجنوبية عدوانا سافرا وغير مقبول، محملا المجتمع الدولي وقوات الأمم المتحدة المنتشرة في الجنوب مسؤولية محاسبة إسرائيل على هذه الجريمة.
واعتبر الرئيس المكلف نجيب ميقاتي ان العدوان الاسرائيلي المتمادي على لبنان يؤكد مرة جديدة، بما لا يقبل الشك، أن وهم الاطمئنان اليه ليس سوى سرابا يغلف غدره. ورأى إن جرائم إسرائيل يجب أن تحفز اللبنانيين على التنبه الى الخطر الاسرائيلي المستمر على لبنان وتدفعهم الى تقديم الوحدة الوطنية على ما عداها من قضايا، أيا تكن درجة أهميتها.
ورأى «حزب الله» ان الجرائم الدموية الفظيعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، وطالب المؤسسات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان بموقف واضح حيال منظومة الإرهاب الصهيونية في استهدافها الإجرامي للشعب الفلسطيني الأعزل الذي يطالب بحقوقه المشروعة كي لا تكون شريكة للعدو أو متواطئة معه في هذه الجرائم المنكرة.
وأصدرت اللجنة التحضيرية لحملة «حق العودة» بياناً، حملت فيه «العدو الصهيوني المسؤولية الكاملة عن الجريمة، مؤكدة أن التحرك سيبقى مستمرا حتى العودة إلى أرضنا كلها».
وأعلنت اللجنة وفصائل المقاومة الفلسطينية الحداد العام في كافة أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، وتعليق الدراسة اليوم، فيما استقبل عدد من المخيمات في بيروت والمناطق، اعتبارا من ليل أمس جثامين عدد من الشهداء، تمهيدا لتشييعها اليوم.