المربّع التربوي غير آمن
الثلاثاء، 20 كانون الأول، 2011
كما في مخيم عين الحلوة، كذلك على حدوده. الحذر سيّد الموقف، والمدارس المحيطة بالمخيم عاشت أمس ارتباكاً ملحوظاً، وخصوصاً أن عدداً من الأهالي اتخذ قرار التبكير بعطلة عيدي الميلاد ورأس السنة تحسّباً لأي تدهور في الوضع الأمني. النيران الصديقة لها سوابق، وهي لا توفر أحداً. الوضع في المخيم ليس أفضل، وأهله عطّلوا بدورهم للبقاء قرب الأولاد..
لعلع الرصاص مجدداً داخل عين الحلوة، واستأنف المتحاربون على السلطة جولات اشتباكات تكاد فصولها لا تنتهي. هكذا يعيش أبناء عاصمة اللجوء الفلسطيني تحت رحمة سلاح عابث ومخلّ بالأمن، نيرانه متى انطلقت لا تتوقف عند حدود المخيم، بل تطاول شظاياها أحياءً صيداوية. أقرب هذه النقاط اللبنانية إلى مرمى النيران الفلسطينية، ما يعرف في صيدا بـ«المربع التربوي»، لانتشار مدارس لبنانية رسمية وخاصة وكليات جامعية فيه. قربه من المخيم جعل آلاف التلامذة يعيشون «تحت مبضع المتقاتلين الفلسطينيين ورصاصهم» يقول الأهالي. فاللبنانيون بدورهم، خافوا على أنفسهم من الاشتباكات داخل المخيم، إذ ما المانع أن يصيب رصاص طائش تلامذة مدارس وحتى مدنيين لبنانيين؟ وكم من رصاص طائش نال من لبنانيين في أماكن بعيدة عن «أرض المعركة».
يتذكر صيداويون: «ألم تقتل فتاة لبنانية قبل سنوات، عندما كانت تعود جدتها في أحد مستشفيات المدينة فأصابتها طلقة قاتلة برأسها مصدرها اشتباك فلسطيني». محمود فضل لم يصب بالرصاص، بل دهسته سيارة «كانوا مشتبكين بالمخيم وكنت راكض متل المجنون تجيب بنتي من مدرستها».
تقول معلمة في مدرسة «عائشة أم المؤمنين»، التابعة لجمعية المقاصد الخيرية إنه «مش كل مرة بتسلم الجرة». مدرستها تضم مئات التلامذة الابتدائيين. وفي اشتباك سابق أنزلوا إلى طبقة تحت الأرض تحاشياً لرصاص كثيف مصدره حي السكة داخل المخيم. وقبل ذلك، نال رصاص عابر من مهنية صيدا. الرصاصة لا عيون لها، ولا تميّز بين مقاتل ومدني، وتتخطى حدودها. واقع تهكم عليه تلميذ فرع الكهرباء محمود سعد، قائلاً: «اطلب العلم ولو على إيقاع أزيز الرصاص»، وخصوصاً أن التلامذة يلاحظون الارتباك الذي تعيشه إدارات مدارسهم متى كان الجو ملبداً داخل عين الحلوة، فـ«المسؤولية كبيرة، وفي أرواح ناس» تقول مديرة مدرسة، استفساراتها دائمة: «كيف الوضع؟ بتكبر؟ بتهدا؟ أو بيشتبكوا؟».
يسأل تلميذ في ثانوية صيدا الرسمية للصبيان، القريبة جداً من المخيم، بينما كان الرصاص ينهمر في تشييع قتيل فلسطيني: «أستاذ، كيف بدنا نتعلم والرصاص شغّال بالمخيم؟». أطفال روضة الشهيد معروف سعد كانوا على موعد مع احتفال ميلادي ينظمه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ـــــ UNDP، ألغاه التوتر داخل المخيم، فلم يوزع بابا نويل هداياه على أطفال الروضة «أصلاً أهلهم لم يغامروا في إرسالهم إلى الروضة لقربها من المخيم، كتدبير احترازي خشية تفجّر الوضع»، تقول مديرة الروضة مريم الديراني، مضيفة: «المتقاتلون في المخيم وزعوا هداياهم على الأطفال رعباً وترويعاً». أما مدرسة عين الحلوة الرسمية الابتدائية، فلها قصة أخرى. المدرسة تقع في آخر تعمير عين الحلوة، حدودها تلامس مخيم الطوارئ المعروف بأنه عاصمة الأصوليين الذين عادة ما يكونون الطرف الآخر في اشتباكات المخيم. وقد تموضعت فيها وحدة من الجيش اللبناني لحماية التلامذة ولحراسة أحياء التعمير. لنتخيّل أيّ وضع يكون عليه التلامذة والمعلمين في لحظة «الاشتباك»، ومدرستهم عرضة لنيران متبادل ومن اتجاهات مختلفة؟
مؤسسات تربوية قررت عدم الاستمرار بالصمود وتعريض تلامذتها لخطر حقيقي داهم، فنزحت من المنطقة باتجاه أماكن «آمنة» لا يصلها رصاص «الأعدقاء» كما هي حال مكتبة أطفال صيدا التابعة لمؤسسة الحريري التي انتقلت سابقاً إلى مكان خارج التعمير.
هذا خارج المخيم، أما داخله فقد لملم سكانه أمس جراح جولة عنف جديدة اجتاحته، بانتظار جولة جديدة كما يعتقدون. سوق الخضر بدا أمس على غير عادته. الحركة خجولة، ومتسوّقوه كانوا قلة. بدورهم، لازم العاملون في ورش بناء بصيدا منازلهم، وضحى العامل محمود عميرات بعشرين ألف ليرة هي يومية عمله ناطوراً في صيدا، مؤثراً البقاء إلى جانب أطفاله تحسباً. مدارس الأونروا أقفلت أبوابها، كما عدد من المحال الواقعة على خطوط تماس مفترضة بين مقاتلي فتح والعناصر الأصولية، على عكس محل تسلية لعب داخله أطفال المخيم لعبة البلياردو وسدّدوا كراتها. لعبة شبّه صاحب المحل واقع المخيم بها قائلاً: «دول وأجهزة عم تشتغل فينا». مسلحون انكفأوا داخل مراكزهم، لكن عيونهم بقيت «مفتحة منيح» كما قالوا. هدوء نسبي داخل المخيم عكره رصاص كثيف أطلق إثر شائعات عن وفاة أحد جرحى فتح، استراحة المحاربين أتاحت لمقاتل فتحاوي ريّ نبتة مزروعة أمام مركزه بالماء، قائلاً: «جنود الفتح سقوا تراب المخيم بدمهم»، سألناه عن دماء سالت على أسفلت المخيم في مكان خاطئ، فأجاب: «المعركة واحدة لا تتجزأ ضد إسرائيل والعابثين بأمن المخيم من عملائها».
محاسن عبد الرحمن أبدت قلقها على مصير عين الحلوة وعدم أهلية قيادات فلسطينية لقيادة مرحلة معقدة «الله بلانا بقيادات طائشة تفضل مصلحتها الخاصة على مصلحة المخيم وسكانها». الطفل محمد الدنان استغل الهدوء، فـ«كزدر» على دراجته، متمنياً أن يستمر الهدوء، «بدنا نعيش بسلام وأمان من دون طخطخة». أما الحاج محمود ميعاري فقد تهكم على شعارات مرفوعة داخل المخيم تحدثت عن أمنه واستقراره، بالقول: «إنهم منافقون، لا يريدون استقرار عين الحلوة»، وتدمع عيناه حين يتنبه إلى تزامن الأمر مع إتمام المرحلة الثانية من تبادل الأسرى، فيقول: «المعارك الجانبية ألهتنا عن موقع الحدث والنضال الحقيقي». ومقابل فرح أبداه لحرية الأسرى، عبّر عن حزنه لتحويل المخيم إلى ما سماه «معتقلاً كبيراً»، قائلاً: «هموم اجتماعية وقهر وظلم، وفلتان وتقاتل، أليست هذه مأساة كبرى، وبعدين يا جماعة؟».
المصدر: خالد الغربي - الأخبار