القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

تقارير إخبارية

شهود وناجون يروون عن مجزرة تل الزعتر المنسية .. التوثيق والتحليل والتأريخ


الأربعاء، 07 حزيران، 2023

يجمع محمد داود العلي في كتابه، "مخيم تل الزعتر .. وقائع المجزرة المنسية" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022)، ما بين التوثيق والتحليل والتأريخ، كي يقدّم تفسيراً للأحداث التي أفضت إلى مجزرة تل الزعتر في 12 أغسطس/ آب 1976، إبان فترة الحرب الأهلية اللبنانية، عبر تتبّع مسار تطوّر الحركة الوطنية الفلسطينية وتجربتها في لبنان، وتسليط الضوء على أزمة الدولة اللبنانية، وعلى حراك اليسار اللبناني في ذلك الوقت بزعامة كمال جنبلاط، وبما يمكّنه من تسجيل وقائع المجزرة بأبعادها السياسية والعسكرية والإنسانية، مع عرض مختلف الأطر القانونية والاجتماعية والاقتصادية لوضع اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات اللجوء في لبنان، من دون أن ينسى دور النظام الأسدي، إبّان حكم حافظ الأسد، في المجزرة البشعة وفي الحرب اللبنانية.

يكتسي الكتاب أهمية من جهة تعريف أجيال من الفلسطينيين، وسواهم من الذين لا يعرفون حقيقة ما جرى لسكان المخيم في الفترة التي عرفت بـ "حرب السنتين" من الحرب الأهلية اللبنانية، التي اعتبرت من أشدّ مراحل الحرب الأهلية اللبنانية قساوة، وامتدت من إبريل/ نيسان 1975 إلى نهاية سبتمبر/ أيلول 1976، وشهدت انهيار مؤسّسات الدولة اللبنانية، وانقسام الجيش، وفرار رئيس الجمهورية، وسوى ذلك.

يستند المؤلف إلى منهج استقصائي في ما يخصّ روايات عسكريين وحزبيين وشهادات ناجين من المذبحة، وتصنيفها حسب عاملي المكان والزمان بالنسبة إلى تاريخ المجزرة، الأمر الذي مكّنه من تقديم إحاطة واسعة لأحداثها ووقائعها، والإسهام في إغناء الذاكرة التاريخية الفلسطينية، التي تحفظ محطّات عديدة من درب الآلام الفلسطيني الطويل، خصوصاً أن المجزرة مرّت من دون أن يُحاسب أيٌّ من المجرمين على جريمتهم، وأحيطت بتعتيم شديد، أفضى إلى غياب مجرّد الحديث عنها عقوداً عديدة، لأن جهات عربية ودولية، بما فيها رسمية فلسطينية، أرادت أن تكون طيّ النسيان، فسكتت عن الجرائم التي ارتُكبت خلال حصار المخيم وبعد إسقاطه، مع أن الجُناة معروفون تماماً، لكنهم لم ينالوا أي عقاب، بل لم يتعرّضوا للمساءلة كذلك، إضافة إلى أن ما كُتب عن المجزرة لا يرتقي إلى حجمها وهولها، حيث لا يتعدّى تسجيل بعض شهادات الناجين منها، وتوثيق بعض وقائعها، إلى جانب أعمال فنية وأدبية وموسيقية وأفلام وثائقية، فيما صدرت رواياتٌ مضادّة كتبها أكاديميون وقادة من المليشيات اليمينية، وخصوصاً من حزب الكتائب اللبنانية وغيره.

إذاً، الكتاب مبنيٌّ في أساسه على ذاكرة شهود على قيد الحياة، وخصوصاً ذاكرة ناجين من المجزرة، حيث يحضُر الشاهد ليروي وقائع عاشها، ولكي يؤكّد أبرز مميزات تاريخ الزمن الراهن، باعتباره تاريخاً تحت المراقبة، يتميّز بوجود فاعليه وشهوده، ويمكنه التشكيك أو الطعن في ما يذهب إليه مؤرّخون منحازون إلى جانب القتلة، والاعتراض على تأويلاتهم وتأويلات سواهم، بالنظر إلى حضوره الفعلي زمن وقوع المجزرة في خضم أحداث الحرب الأهلية اللبنانية، خصوصاً بعد تحوّل الذاكرة والشهادة إلى مسألة سياسية، كرهان حاسم بالنسبة إلى قراءة الماضي، وإلى تأويله عند السياسيين المؤدلجين والعسكريين، حيث أصبح الشاهد يمارس ضغوطاً على المؤرّخ لمقاربة المرحلة التي يتناولها، وفق مقاربةٍ تسير وفق تمثُّلاته، ولا تحيد عن الإطار الذي حدّده، إلى درجة يمكن الحديث عن طغيان الذاكرة وسطوتها، واتجاهها نحو الهيمنة على تمثّل الماضي. لذلك، على الباحث والمؤرّخ مهمة معالجة إنتاج الذاكرة على نحو دقيق، وألّا يثق برواية الشهود، إلا بعد تمريرها على مشرحة النقد، والمقارنة بين مختلف الشهادات، لاستخلاص التقاطعات، ذلك أن الشاهد يروي ما رسخ في ذاكرته من أحداث، ولا يمكن لذاكرته استيعاب واحتضان كل ما عاشه وشهده، فضلاً عن أنها معرّضة للنسيان، الذي لن يكون تل الزعتر، كما قال شاعرنا محمود درويش.

تتبادر إلى الذهن عند قراءة الكتاب أسئلة بشأن توقيت إصدار الكتاب ودوافعه، التي يختلط فيها الشخصي مع البحثي، مع أن من يعرف ظروف النشر يدرك أن نشر أي كتاب قد يستغرق عاماً أو عامين، كذلك قد يستغرق الجهد البحثي والتوثيقي أعواماً عديدة، خصوصاً أن المؤلف اعتمد على مصادر مكتوبة أيضاً، تناولت الحرب الأهلية اللبنانية وما جرى لمخيم تل الزعتر خلالها، إلى جانب مقابلاتٍ أجراها أو اطّلع عليها، مع شخصيات فلسطينية ولبنانية واكبت المعركة سياسياً وميدانياً، فضلاً عن مقابلات بحثٍ ميداني أجراها مع ناجين من سكّان المخيم.

يحدّد المؤلف هدفه في تقديم رواية متكاملة وموضوعية عن أحداث مخيم تل الزعتر، والتعريف بمجزرةٍ مسكوت عنها، قبل أن يُغيّب الموت شهودها الباقين على الحياة، وفي إحياء ملف مفقوديه الذين لم يظهر لهم أثر منذ 12 أغسطس/ آب عام 1976، وذلك من خلال عرض ملابسات اقتلاع مخيم تل الزعتر، بوصفها معركةً عسكريةً وسياسيةً مركّبة وقعت خلال حرب السنتين، وتجسّدت في مواجهةٍ خاضتها المليشيات المسيحية اللبنانية وحلفاؤها، بدعم من قوات نظام الأسد الأب، ضد الفصائل الفلسطينية وحلفائها في قوى اليسار اللبناني، وضد المدنيين في المخيم.

وعلى المستوى السياسي، مثّل تل الزعتر، ومعه الوجود الفلسطيني بشقّيه المدني والعسكري في لبنان، في سياسات زعماء المارونية السياسية، خطراً وجودياً يجب اجتثاثه، حيث اتّحد زعماء الأحزاب المارونية مع الرئيس سليمان فرنجية والبطاركة، وأقاموا حلفاً، خلال أحداث الحرب الأهلية اللبنانية، مع نظام حافظ الأسد، ومع إسرائيل، من أجل تحقيق ذلك. لكن المؤلف يعتبر أن إسقاط تل الزعتر كان أحد عناوين صراع الإرادات بين حافظ الأسد من جهة، والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وحليفه كمال جنبلاط.

يقدّم المؤلف خلفية تاريخية لمعركة تل الزعتر ومجزرة الدكوانة، تبدأ من التسوية التي أتاحت قيام الكيان اللبناني عام 1943، والهزّات التي شهدها لاحقاً، ثم التعريف بمخيم تل الزعتر وظروف نشأته عام 1949، وتمدّده العمراني، وتحوّله إلى قاعدة لتنظيم حركة فتح. ويتناول ظروف سكّان المخيم، وملابسات الحرب الأهلية اللبنانية وحيثياتها، وطريقة تعامل القوى السياسية المسيحية مع تل الزعتر بوصفه معسكراً، لا مخيماً للاجئين، إلى جانب ملابسات تدخّل نظام الأسد العسكري في لبنان ودوره في الحرب اللبنانية، وتفاصيل الهجوم على المخيم، الذي اتخذ قراره وزير الداخلية اللبناني في ذلك الوقت، كميل شمعون، بناءً على خطّة أعدّها المقدّم حينها، ميشال عون، ونفذتها مليشيات اليمين المسيحي، ووحدات الجيش اللبناني الموالية لها، وأفضت إلى انسحاب المدافعين عن المخيم، وانتهت بسقوطه، وارتكاب المليشيات المجزرة التي وقعت لسكانه المدنيين في منطقتي الدكوانة وجسر الباشا. ويتناول المؤلف أيضاً الوقائع السياسية والميدانية لتفاصيل معركة تل الزعتر، بالاستناد إلى شهادات ومقابلات، مع عرض للوضع الإنساني داخل المخيم، وتسجيل وقائع مجزرة الدكوانة وجسر الباشا التي عُرفت باسم المجزرة الكبرى، مع إضاءة على قضية المفقودين، وكذلك ملابسات إسكان أهالي تل الزعتر في بلدة الدامور المهجّرة، وقضايا إنسانية أخرى.

تدخُل مجزرة تل الزعتر ضمن مشروع إبادة فاشيّ، نفّذته قوى اليمين المسيحي اللبناني، بالتواطؤ من نظام حافظ الأسد وإسرائيل، ومساندتهما، إذ عملت وحدات الجيش السوري، التي أدخلها حافظ الأسد إلى لبنان، على شلّ حركة المقاتلين الفلسطينيين، وتحول دون فكّهم الحصار العسكري والتمويني المطبق، الذي فرض على المخيم سبعة أشهر، وتلاه هجوم عسكري مُحكَم من الجهات الأربع، ثم اضطّر المقاتلون إلى الانسحاب منه وإخلاء المخيم، لترتكب المليشيات تلك المجزرة في حق المدنيين والفرق الطبية في 12 أغسطس/ آب 1976.

يقرّ المؤلف بوجود دور عسكري مباشر لنظام الأسد في الأحداث بعد دخول القوات السورية إلى لبنان، وكذلك بانحيازه ووقوفه في صف المليشيات اليمينية، لكنه يعتبر أن فرضية مشاركة الوحدات السورية في الأعمال العسكرية المباشرة ضد المخيّم غير قابلة للتصديق، على الرغم من تأكيده أن قوات الأسد قصفت بالصواريخ والمدفعية مخيم شاتيلا ومحيط صبرا غرب بيروت، في 14 يونيو/ حزيران 1976، وقصفت كذلك مخيمي عين الحلوة والمية مية شرق صيدا في 29 من الشهر ذاته.

تدخّل نظام الأسد في الحرب اللبنانية منذ بدايتها، حيث زجّ جيشه داخل الأراضي اللبنانية، كي يحتل لبنان تحت ذريعة الوساطة، ثم انخرط في الحرب اللبنانية بكل قوة، كي يسيطر على الجميع، وذلك بعكس ما ذهب إليه باتريك سيل، الذي حاول تسويق ذرائع نظام الأسد في السيطرة على لبنان، بالقول إن حرب لبنان مشكلة أمنية لسورية، وأمن البلدين كلٌّ لا يتجزأ ولا ينقسم، قياساً على مقولة "شعب واحد في بلدين" الخادعة، التي روّجها نظام الأسد بهدف إلغاء وجود الدولة اللبنانية. وكان الأجدى بالمؤلف عدم الاستناد إلى ما يقوله بهذا الشأن، لأنه كاتب سيرة آل الأسد ونظامه وفق ما أرادها حافظ الأسد نفسه، وعُرف بأنه صديقٌ حميم له، وسخّر قلمه للدفاع عن سياساته، الأمر الذي يفترض بأي مؤرّخ أو باحث أن يأخذ ما كتبه سيل بتحفّظ وتشكيك، وخصوصاً تبريراته، وأن يضعها المؤلف على مشرحة النقد والتفكيك، لأن سيل أراد تبرير تدخل الأسد "الإنساني" ردّاً على "التهديد المميت" لسورية! ويكفي أن أُذكّر بصفات المدح والتهليل الكثيرة، التي أطلقها على حافظ الأسد في كتابه "الصراع على الشرق الأوسط"، فهو الوطني، والوحدوي، والقومي، والاشتراكي، والديمقراطي! والمقاتل! واستراتيجي من الطراز الأوّل، ومحبّ لبلاده وشعبه! وحريص على الفلسطينيين واللبنانيين! وأنه كان "يوقّع على الرسائل بخطّه، وغالباً ما كان يكتب ملاحظاتٍ وتعليقاتٍ ذكيّة على الهامش تدلّ على حضور بديهته"، ذلك كله يجعلنا نشكّك في مصداقية ما كتبه.

يضاف إلى ذلك أن رواية المسؤول العسكري السابق لتنظيم الصاعقة في تل الزعتر، بلال حسن، ومعه آخرون، تتسم بهشاشتها وضعفها، وميلها إلى التلاعب والاستغلال، أي إنها تعدّ من إساءات استعمال الذاكرة المقصودة، عبر اللجوء إلى التحريف والتشويه المقصودَين، حيث أراد حسن استغلال الذاكرة لاكتساب مشروعية معيّنة، والدفاع عن دوره المريب، وتبرئة نفسه. وهذا يقودنا إلى ضرورة مساءلة المؤرّخ عن الشهادات، وتوضيبها واستجلاء مواطن قوتها وضعفها، بالاستناد إلى جملة ضوابط منهجية تؤطّر التعامل معها، ذلك أن انخراطه في عملية التأريخ يتجلى في قدرته على توسيع الذاكرة وتصحيحها ونقدها، من خلال تنقيحها، ومعرفة مواطن ضعفها. إضافة إلى أن التعامل مع الشهادات والتاريخ الشفوي لا يزال يشوبه ارتياب، الأمر الذي يتطلّب التركيز على كيفية بناء الذاكرة وتغيرها مع مرور الزمن.

المصدر: العربي الجديد