عين الحلوة... والعين الأخرى
الخميس، 22 كانون الأول، 2011
تشكو الخريطة الأمنيّة من التباس، لم تتطابق معالمها بعد وفق الجغرافيا السياسيّة اللبنانيّة، لكن المؤشّرات واعدة، في الأمس القريب كنّا نتجاوز تداعيات خطاب ديني كاد أن يزجّ صيدا، ومعها لبنان بفتنة مذهبيّة، ثم حلّت ظاهرة الصواريخ المجهولة المصدر التي طاولت بلدة حولا، وأوقعت خرابا وجرحى، بعدها كان الاعتداء على الدوريّة الفرنسيّة في منطقة صور، وبقي الفاعل مجهولا، وأخيرا وليس آخراً انفجار الوضع الأمني في مخيّم عين الحلوة، والسؤال يستولد أسئلة حول التوقيت والأبعاد والخلفيّات.
لا تبدو إسرائيل قلقة، وكأنّ ما يجري لا يعنيها البتّة، وهذا ما يؤكّد أنّ المبتدأ في الجنوب أمّا الخبر في مكان آخر، والدليل أنّ في المخيّم من يحمل السلاح، ويطلق النار، ويتسبّب بفلتان أمني، ومعه فلتان فئوي، واصطفاف حتميّ وراء هذا الطرف أو ذاك، وتوغّل مباشر في الخصوصيّة اللبنانيّة المعبّأة نفسيّا وسياسيّا وطائفيّا ومذهبيّا، وإذا كان حديث الأمس عن اغتيال واشتباك داخل المخيّم، فإنّ الحديث اليوم عن حصر التداعيات كي لا تتمدّد إلى صيدا، وربّما أبعد من صيدا غدا أو بعده، لأنّ من يحمل السلاح في الداخل له مرجعيّة في الخارج، وهو مجنّد للدفاع عن مشروعها، وتسويقه وتعميمه على الآخرين، وإذا ما اشتعل عود الثقاب، فإنّ النار ستأتي على كامل الهشيم الممتدّ على مساحة الوطن.
وفي الحيثيّات المتداولة، أنّ ما يجري داخل المخيّم إنّما هو عمليّة فرز لمواقع القوى، والخشية أن تمتدّ العدوى الى المخيّمات الأخرى، بفعل تأثير ما يجري في سوريا، وفي فلسطين المحتلة، وما بين السلطة الفلسطينيّة و"حماس"، و"حماس" وإسرائيل، والربيع العربي الذي أنتجت ديموقراطيته ــ حيث جرت الانتخابات ــ كفّة سلفيّة راجحة على الكفّة الأخرى التي تحوي البقيّة الباقية من الشرائح والتيّارات السياسيّة.
وقوبل المشهد المتفجّر في عين الحلوة بحركة اتّصالات من غالبية الفاعليّات الصيداويّة لتدارك الوضع، وهذا أقلّ الواجب لحقن الدماء، ووأد الفتنة قبل أن تتوسّع، إلّا أنّ طبيعة الاتّصالات التي جرت كشفت مجموعة من الحقائق، أوّلها أنّ الفرز داخل المخيّم يقابله فرز داخل المدينة. وثانيها أنّ الفرز لا يقتصر على الاصطفاف السياسي بل المذهبي أيضا. وثالثها أنّ السلاح له اكثر من هويّة ومن غرض، وإنْ كان فلسطينيّا في المخيّم، فهو موظّف ايضا في خدمة الاصطفاف السياسيّ والمذهبي والطائفي، والدليل أنّ لَهجة الشارع الصيداويّ وغيره قد تحرّرت من التردّد، وعقدة الخوف، لتُفصح وبالفم الملآن: "إنّ السلاح لم يعد حِكرا على أشرف الرجال، لأنّه وجد أساسا لأفضل الرجال" ، وإنّ "سلاح الحزب سيقابل بسلاح مجموع التنظيمات والقوى الحزبيّة الأخرى... وما يعرف بسلاح مذهبي، سيقابل بسلاح مذهبيّ آخر، وعلى قاعدة العين بالعين، والسنّ بالسّن".
ويأتي الحديث عن اجتماعات تعقد لجعل بيروت مدينة منزوعة السلاح في توقيت حرج، ومناخ منفعل مشحون بالغضب، فالعنوان ليس بجديد، وعمره من عمر اتّفاق الدوحة، وأصله من أصل اتّفاق الدوحة، لا بل من أبرز البنود التّي تمّ التوافق عليها، لكنّ اتّفاق الدوحة قد أصبح في خبر كان منذ أن نجح الانقلاب السياسي على حكومة الرئيس سعد الحريري، ومنذ أن استقال الوزراء العشرة، ومعهم الوزير الوديعة، وكانت الاستقالة يومها بمثابة طعنة نجلاء للدوحة واتّفاقها.
ويعود البحث حول "بيروت منزوعة من السلاح" في ظرف مأزوم، فلا الدوحة ممكنة لإبرام اتّفاق جديد، ولا الاتّفاق ممكن طالما إنّ الدوحة أصبحت طرفاً في الصراع داخل سوريا، وما يجري في "الحديقة الأقرب"، لبنان ليس بعيدا عمّا يجري في الداخل السوري واصطفافاته العربيّة والإقليميّة والدوليّة، وإذا كان ما يجري في الجنوب من خلل أمنيّ هو جزء من خريطة لم تتّضح حدودها الجغرافيّة بعد، فهذا يعني أنّ المشكلة لا تقتصر على صواريخ عشوائيّة تطلق، ولا على اعتداء جديد على دوريّة فرنسيّة، بل تشمل سلاح عين الحلوة وهويته السياسيّة، والأغراض المتوخّاة منه، وانعكاسه على سائر المخيّمات الأخرى في لبنان.
إنّ المعادلة باتت مختصرة جدّا: إذا كان سلاح المخيّم يؤثّر في الوضع "المنفوخ" في صيدا، فإنّ سلاح المخيّمات يؤثّر بدوره في الأوضاع "المنفوخة" في كلّ لبنان، وفي هذه الحال لم يعد السلاح زينة الرجال، ولم يعد المطلب "بيروت منزوعة السلاح" بل "لبنان أيضا"، لأنّ الخريطة التي ترتّب الآن، سيكون حدّها الأدنى الاقتتال المذهبيّ في سوريا، وحدّها الأقصى ما ينتجه الربيع العربي من ديموقراطيّات سلفيّة.
المصدر: جورج علم – الجمهورية