قاسم س. قاسم
(رويترز)
تخيّل أنك وصلت الى حدود وطنك المحتل. وقفت على هضبة مشرفة عليه، شاهدت الأرض التي طرد أهلك منها. نظرت الى السماء التي تمر فوق رأسك فوجدتها هي نفسها التي تمر فوق رأس عدوّك.
تخيل أنه لا يفصل بينك وبين «سيدة الأرض» كما سمّاها محمود درويش، إلا شريط شائك. تخيّل أن طائراً يمر فوق رأسك، يستفزّك بعبوره المنطلق الحر من لبنان الى الأرض الممنوعة عليك.
تخيّل أنه بعد رؤيتك كل هذا من خلال دموعك، يأتي أحدهم ليقول لك: انتهى برنامج زيارتنا والآن يجب أن نعود الى المخيم، الى منزل الزينكو الذي لا يحق لك أن تملكه أو تورّثه،
الى زواريب المخيم الراسخ في المؤقت وجدرانه التي تحاصرك. وأنت هناك، أمام أرضك، لا يمنعك شيء من الاقتراب منها إلا الخوف من الرصاصة. تخيّل أنك، ومن أجل رؤية فلسطين لمرة أولى، سرت في «الوعر» من عيترون الى مارون الراس. لم تكترث لوجود قنابل عنقودية، كانت صرخات الأهالي وبضع لافتات تحذرك منها.
تسير باتجاه التلة الشاهقة، تنظر خلفك فتشاهد المئات لا بل الآلاف يسلكون الطريق نفسها. المسنّون أكثر حماسة منك، يسخرون من لهاثك ببهجة الذاهب للقاء سعيد «ولو؟ لسّاتك شب. إحنا ختايرة وسابقينك !». تبتسم لهم. تقول بينك وبين نفسك إذا كانت مجرد رؤية فلسطين، مجرد السماح بمشاهدتها من هذا البعد، دفعت بكل هؤلاء الى هنا، فكيف سيكون الأمر يوم تحرير فلسطين؟ تصل الى مارون الراس، فجأة، ينكشف المشهد تحت قدميك. تجد فلسطين أمامك، تلقائياً تدمع عيناك. تجد الآلاف يتجهون لـ«تحت»، أي الى الحدود، إذ لم يكن هناك أي عائق أمامهم، أو من يمنعهم من ذلك. تتجه نزولاً أكثر، القلب يشدّك للاتجاه جنوباً أكثر. تجد فلسطين تقترب منك أكثر وأكثر. يقفون، فتقف وكأنهم وصلوا فجأة الى الشريط الشائك. كأنهم لم يروه قبل أن يصلوا إليه.
وقفوا فجأة. بكوا، وبعيون تكاد لا ترى من الدموع، وبصمت ودون اتفاق بينهم، اقتربوا من الشريط أكثر، أرادوا أن يروا المزيد، أن يلمسوا الهواء في المكان المقابل، تسلقوه وسط صيحات محذّرة: سيطلقون عليكم النار. ولم يتأخر أزيز الرصاص الإسرائيلي. سقط الشهيد الأول، الثاني، الثالث، الرابع. تراجعوا استعملوا الحجر، سلاحهم الطبيعي، ضدّ عدوهم الطبيعي. «تحت» بالمناسبة كان مزروعاً بالألغام، بعض الشبان انتبهوا لذلك فوقفوا بشكل دائري حول الألغام ليمنعوا ازدياد عدد الشهداء بألغام كامنة لهم تحت الأرض. أزيز الرصاص يزيد عدد الراكضين باتجاه الحدود، لا بعيدا عنهاً. لمَ كل ذلك؟ ربما لأنه «على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة» والموت لأجله.