قطاع غزة من وطأة القصف إلى
معاناة تعطل الإعمار
العرب أيمن عبدالمجيد
غزة- حالة الدمار التي لحقت قطاع غزة
عقب العدوان الإسرائيلي الأخير خلفت في نفوس الكثير من الغزاويين مرارة فقد
عائلاتهم ومنازلهم وموارد رزقهم على حد سواء، مما جعل معاناتهم تتواصل رغم توقف
القصف نتيجة تعطل عملية إعادة الإعمار.
أطنان من الركام، تشبعت بالدماء،
واحتضنت أشلاء الشهداء، منازل وعمارات، باتت أثراً بعد عين، خلفها العدوان
الإسرائيلي الأخير على غزة. كلما نظرت حولك فثمة حطام منازل، ووجوه من بقي على قيد
الحياة من ساكنيها، تتحدى المحتل، رغم البؤس والمعاناة والغضب المكتوم.
دمار شامل
هذه أسرة دمرت صواريخ الاحتلال
منزلها، فلم يصادف الحظ غير طفل وحيد تمكن من النجاة، وتلك عائلة نجا منها شاب
واستشهد باقي أفرادها التسعة، وثالثة فرت قبل القصف، فنجت بحياتها، غير أنها تعيش
بلا مأوى. في كل متر مربع قصة تستحق أن تروى، غير أن المشترك بين المدمرة بيوتهم،
وفاقدي أسرهم، لافتة على حطام كل بيت، كتب عليها كلُّ فرد اسم عائلته، ووضع
بجوارها علم فلسطين، وكأنه يقول تحت هذا الدمار أرض فلسطينية.
الشجاعية، ذلك الحي الغزاوي المكلوم،
وعلى بعد 2 كيلومتر من الأرض المحتلة ومعبر نحال عوز، أو "المنطاد” الذي شهد نجاح
المقاومة في قتل 13 من جنود الاحتلال وأسر آخر، إذا قدر للمرء مشاهدة حجم الدمار،
ستقفز على الفور إلى ذاكرته صور قد تكون موجودة في بعض كتب التاريخ، عن القنبلة
النووية التي ضربت هيروشيما ونكازاكي في اليابان، أو تلك الأفلام الوثائقية التي
تعرض أثار أشد الزلازل تدميراً.
في غزة عموما، وفي الشجاعية خصوصا،
يرى المرء بأم عينيه حجم الدمار، ويشم رائحة البارود المتصاعد من بقايا القذائف،
ودخانا ما زال يتصاعد من بين الركام، رغم مرور أسابيع على توقف القصف، جريمة حرب
بلا أدنى شك ارتكبها الاحتلال بحق المدنيين.
91 عائلة فلسطينية في غزة أبيدت عن
بكرة أبيها، حذفت من السجلات المدنية، بإجمالي 532 شهيدا من أفرادها، وألفين و149
شهيدا في كامل القطاع. 18 ألف منزل تم هدمها كلياً، و41 ألفا هدمت جزئيا، لم تسلم
المساجد من المجزرة فهناك 71 مسجدا دمر بصواريخ الاحتلال بشكل كلي و109 بشكل جزئي،
16 سيارة إسعاف اُستهدفت ودمرت، ومدارس تابعة للوكالة الدولية لإغاثة اللاجئين
قصفت، فاستشهد فيها 40 فلسطينياً.
الأطفال الأكثر تضررا
في ذات السياق، وفي ختام زيارته
للمنطقة أعرب مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأرض
الفلسطينية المحتلة مكارم ويبيسونو، مؤخرا، عن انزعاجه العميق إزاء الخسائر
الفادحة التي تكبدها المدنيون الفلسطينيون وخاصة الأطفال نتيجة العملية العسكرية
الإسرائيلية على مدى خمسين يوما.
وقال المقرر الخاص، في بيان صحفي،
إنه لا يمكن تبرير هذه المجازر بادعاء إسرائيل الدفاع عن نفسها ضد سكان يعيشون تحت
احتلال وحصار غير قانونيين بموجب القانون الدولي.
وأشار إلى عدم وجود طفل واحد في غزة
لم يتضرر من النزاع، حيث يعاني الأطفال من التبول اللاإرادي وصعوبة النوم
والكوابيس وفقدان الشهية، فيما تشهد المدارس مزيدا من السلوك العدواني لدى
التلاميذ.
من جهة أخرى، قال ويبيسونو: "على
إسرائيل رفع الحصار البري والبحري والجوي المفروض على غزة منذ سبع سنوات، والسماح
بدخول المواد اللازمة لإعادة الإعمار والانتعاش”.
وأبدى المقرر الخاص مخاوف جدية بشأن
الوضع المتدهور لحقوق الإنسان بالضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، يتعلق
بالاستخدام المفرط للقوة من قبل قوات الأمن الإسرائيلية أثناء المظاهرات
والاشتباكات الأخيرة.
وحثّ إسرائيل على الامتثال للمبادئ
الأساسية بشأن استخدام القوة والأسلحة النارية، وقال إنه لا شيء يمكن أن يبرّر
استعمال الرصاص الحي ضد الفلسطينيين.
الغضب طال حركة "حماس"
جريمة الاحتلال ليست في حاجة إلى
دليل، لكن عددا من الغاضين لم يتمالكوا أعصابهم، فانفجر غضبهم صوب حركة "حماس”،
مطالبين أبومازن بأن يتحمل مسؤوليته كرئيس لإنقاذهم من التشرد، وانتشالهم من هذا
الوضع السيّئ، متسائلين عن جدوى ثلاث حروب متتابعة، أعوام 2008 و2012 و2014.
رياض عمر العجلة، أحد الذين دمرت
بيوتهم في الشجاعية، قال لـ "العرب”: إحنا اللي احتضنا المقاومة، واليوم بيقولوا
انتصرنا، طيب وايش صار بينا، دمرت بيوتنا ولا حدا سائل فينا، بدناش كوبونات من
حكومة حماس بعشرين شيكل، بدنا أبومازن يشوف لينا حل يبني بيوتنا، بدنا نعيش
وولادنا تروح المدارس، أنا مش شحات يوزعوا علي كوبونات فول وفلافل، بيتي ثمنه نصف
مليون دولار دمّر، وعربياتي تبع النقل دمرت، بدنا ينتهي الصراع ويعمر لنا أبومازن
بيوتنا ويشوف لنا حل”.
رياض الذي تمكن من البوح بما في
صدره، كثيرون غيره يهمسون لزائريهم، ولا يستطيعون الجهر بمعاناتهم، في معظم
الأحيان، هناك من يرفض المتاجرة السياسية، بالإعمار، مؤكدا أن جريمة تعطيله لا تقل
فداحة عن جرائم الاحتلال ذاته، والكثيرون يعلنون غضبهم من "حماس” رغم الخوف من
اتهامهم بالتخلي عن المقاومة، فيؤكدون أنهم مع المقاومة، لكن ” بدنا نعرف إيش حققت
من الحروب الثلاثة الأخيرة، غير دمار وصراع على الإعمار”.
وفي ذات الإطار، كشف استطلاع للرأي
نشر، الاثنين، عن تراجع نسبة الرضا بين الفلسطينيين عن إنجازات الحرب الأخيرة
وتراجع نسبة الاعتقاد بأن حماس قد انتصرت.
وأوضح الاستطلاع الذي أجراه "المركز
الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية” والذي شمل 1200 فلسطيني من الضفة الغربية
وقطاع غزة في الفترة الممتدة بين 25 و27 سبتمبر، أنّ نسبة الاعتقاد بأن حماس قد
انتصرت في الحرب على قطاع غزه تراجعت من 79 ٪ قبل شهر إلى 69 ٪ في هذا الاستطلاع.
كما تراجعت نسبة الرضا عن الإنجازات
التي حققتها الحرب مقارنة بالخسائر البشرية والمادية التي دفعها قطاع غزة وسكانه
من 59 ٪ قبل شهر إلى 49 ٪ في هذا الاستطلاع.
تواصل المعاناة بسبب تعطل الإعمار
في سياق آخر، سبق لرئيس السلطة
الفلسطينية، محمود عباس (أبومازن) أن قال، في القاهرة: "إنّ الدول التي من المقرر
حضورها في المؤتمر الدولي لإعادة إعمار غزة، الذي سيعقد في 12 أكتوبر الجاري
بالقاهرة، تشترط أن تشرف السلطة الفلسطينية على العملية، ولن تقدم فلسا واحدا في
غياب ضمانات لذلك، الأمر الذي تحفظت عليه حماس، في محاولة منها للاستفادة السياسية
لإعادة ترميم شعبيتها التي أصابتها تصدعات في القطـاع”.
معاناة المواطن الفلسطيني في القطاع
بعد الحرب، لا تقل عن تلك التي كان يعيشها وهو تحت قصف الاحتلال، مع فارق وقف نزيف
الدماء، فتدمير الاحتلال لمحطة الكهرباء الرئيسية، أدى إلى انخفاض طاقة تشغيلها
إلى 5 ٪ فقط، ما انعكس على الحياة العامة، بواقع انقطاع لمدة 12 ساعة يوميا
للكهرباء، حيث تحصل غزة على مصادرها من الطاقة من مصر، وإسرائيل.
كما يعاني القطاع أيضا من نسبة عجز
تصل إلى 40 ٪، وقد ارتفعت إلى 65 ٪، الأمر الذي عطل تشغيل محطات معالجة الصرف
الصحي، فأصبح موجها إلى شاطئ غزة، المتنفس الوحيد للباحثين عن قليل من الترفيه أو
للصيادين الذين يقتاتون من خيراته، بما زاد من انبعاث الروائح الكريهة وأضحى يهدد
بأزمة بيئية وتلوث بالغ الأثر في المستقبل.
خسائر القطاع الزراعي بلغت نحو 55
مليون دولار، خاصة مع نفوق حوالي 25 ألف رأس بين مواش وطيور مع استهداف القصف
للمزارع، ما زاد من سعر الدجاج إلى 18 شيكل للكيلو الواحد، في ظل ارتفاع مستويات
الفقر والبطالة إلى نسب تصل إلى 50 ٪، هذا بالإضافة إلى تدمير المصانع، وتعطل حركة
الإعمار، فضلا عن عطالة عمال الأنفاق بعد أن هدمتها مصر، للحفاظ على أمنها القومي.
كل ذلك ساهم في زيادة الركود الاقتصادي وتفاقم البطالة، وتعطل الإنتاج، وهو ما دفع
القائمين على حكم غزة، حسب مصادر فلسطينية، نحو الاستيراد من دولة الاحتلال الإسرائيلي،
التي دمرت القطاع، حيث تستورد غزة الآن من إسرائيل الطماطم بعد تدمير مصانع
"الصلصة”، والعدد الأكبر من المزارع، التي جفّ بعضها بسبب عدم قدرة أصحابها على
الذهاب لريّها خلال فترة الحرب.
"غزة ليست حماس"
صحفي فلسطيني يقيم في غزة، أكد لـ
"العرب” أن القطاع يشهد الآن تفاقما لأزمة خطيرة، تتمثل في تزايد الإقبال على
الهجرة غير الشرعية عبر البحر، وبعض هؤلاء المغامرين اليائسين يغرق وبعضهم الآخر
يقع في قبضة قوات الأمن الإسرائيلية أو التابعة لدول أخرى، والقليل منهم فقط
يحالفهم الحظ في الفرار، مؤكدا أن تلك الأزمة نشأت نتيجة لانغلاق الأفق السياسي،
وتزايد نسب البطالة، والبحث عن مستقبل أفضل.
من جهة أخرى، أكّد عدد من المحلّلين
الفلسطينيّين، أنّ خيار الإعمار هو الوحيد القادر على إحداث انفراجة، غير أنّ
الخلاف القائم حول من سيتولى الإشراف على هذه العملية، قد يدفع الجهات المانحة
وإسرائيل إلى تعطيله، حيث تتحدث إسرائيل عن "ضمانات عدم الاستخدام المزدوج” لمواد
الإعمار، خشية استغلالها من قبل حماس في إعادة بناء الأنفاق.
في غزة، لا يكاد يوجد مواطن، من غير
التابعين لحماس، إلاّ ويحرص على تحميل رسالة، مفادها "أنّ غزة ليست حماس”، وأنّ
الذين ينخرطون في صفوفها هم أقلية، وأنّ فلسطين المقاومة في الضفة والقطاع، تتحدى
رغم المعاناة، ولسان حال هؤلاء، يصرخ ” اشعروا بمعاناتنا وتضحياتنا، وغلّبوا
المصلحة الوطنية على خلافاتكم السياسية”.