القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الخميس 28 تشرين الثاني 2024

تقارير إخبارية

مخيم بلاطة ضحيّة "استقواء" الأمن و"حسابات" السلطة

مخيم بلاطة ضحيّة "استقواء" الأمن و"حسابات" السلطة


بقلم: نائلة خليل

منذ ستة أيام ومخيم بلاطة يشتعل. عادت أجواء انتفاضة الأقصى والحصار والاقتحامات من جديد إلى المخيم بين ليلة وضحاها، لكن هذه المرة، ليس من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، بل من قبل الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة.

بات مخيم بلاطة، وهو أكبر المخيّمات الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة المحتلة، ويضمّ 23 ألف لاجئ فلسطيني، مشلولاً كلياً. تعطّلت المدارس والمؤسّسات والحياة العامة. بات الهاجس الأكبر إغلاق مداخل المخيم بالمتاريس، لإعاقة اقتحام عناصر الأمن الفلسطيني المخيم الذي بات يشهد اشتباكات وتبادلاً ليلياً لإطلاق النار بين المسلحين والمئات من عناصر الأمن، منتصف كل ليلة وحتى الفجر.

يعيش المخيم حالة من الغليان غير المسبوقة، بما يعكس ما تعيشه السلطة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة من غليان وقلق. الخوف شديد من انتشار السلاح، وعدم ضبط شارع يعيش الإحباط السياسي والتراجع الاقتصادي المستمر، في ظلّ حالة من الفساد الإداري والمالي، واستقواء المؤسّسة الأمنيّة الفلسطينيّة. يراقب الجميع ما يجري باهتمام شديد، من المقاطعة "مقر الرئيس الفلسطيني" إلى المواطن العادي، من باب اليقين أن بوصلة المخيم عادة ما تشير إلى مسار الأمور.

ينفي مسؤولون أمنيون ورسميون في السلطة وجود "حملة أمنيّة"، على الرغم من أن "عسكرة" الحملة باتت جليّة. لم يتردّد الأمن الفلسطيني، خلال اشتباكه مع المسلحين قبل أيام، في استخدام رشاش رصاص "250 ملم"، تمّ تثبيته على إحدى السيّارات العسكريّة للأمن، قبل أن يبدأ بإطلاق نار عشوائي على مدخل المخيم، ما تسبّب بإصابات كثيرة في بيوت ومتاجر المخيم.

ويمتلك المسلحون بدورهم السلاح، خصوصاً بندقية "م 16"، ما يجعلهم يشتبكون مع الأمن ويمنعون اقتحامه المخيم. ومن أبرز المفارقات أنّ الأجهزة الأمنيّة، حجزت العشرات من رجال الأمن الذين ينتمون إلى مخيم بلاطة، فقد تم منعهم من الخروج من المقار الأمنية في مدن أريحا ورام الله، فيما تمّ استدعاء رجال أمن آخرين من أبناء المخيم، لمغادرة نابلس. وتتناقل أوساط أخرى أنّ بين العساكر من يرفض الانصياع إلى الأوامر واقتحام المخيم.

ويوضح محافظ نابلس أكرم الرجوب الذي يقود الحملة الأمنية على المخيم، لـ "العربي الجديد"، أنّ "المخيم مختطف من مجموعة من المسلحين، تطلق النار العبثي على المؤسّسات والمواطنين، إلى جانب ترويج المخدرات"، لافتاً إلى أنّ "عدد المطلوبين يتراوح ما بين 10 إلى 20 شاباً من المخيم".

لكنّ الأطر التنظيميّة والقياديّة والشعبيّة ترى أنّ الحملة غير مبررة، وتستهدف "كسر شوكة" المخيم، متحدّثة عن "اغتيال" مقصود لسمعته، عبر الترويج بأنّ الحملة الأمنيّة تأتي تحت عنوان المخدرات. وتتساءل عن جدوى وضع مخيم كامل في دائرة الاتهام والتشويه، بسبب وجود اثنين إلى ثلاثة متهمين بترويج المخدرات من بين قائمة المطلوبين، على حدّ قولهم.

وفي هذا السياق، يؤكّد النائب في المجلس التشريعي، جمال الطيراوي، أحد أبرز قيادات المخيم، والذي تلاسن بشكل حاد مع الرجوب، أن "المخدرات باتت شمّاعة لتبرير الحملة الأمنيّة على المخيم". ويقول لـ "العربي الجديد"، إنّ المخيم "بات العنوان المناسب لكلّ من يريد أن يصنع نصراً مهنياً أو شخصياً، بعيداً عن الأجندة الوطنية". ويشير إلى أنّ "عدداً من المطلوبين لا يعلم أنه مطلوب، ولم تصل المخيم بهيئاته وأطره أي قائمة بأسماء هؤلاء المطلوبين، بحسب ما يقوله المحافظ".

وتؤكد المصادر أن الغالبية العظمى من المطلوبين، والذين تجتهد الأجهزة الأمنيّة في ملاحقتهم، هم من حركة "فتح" ومتهمون بإطلاق النار، أي أنّ تهمتهم بالأساس هي حيازة السلاح، الأمر الذي لا تغفره السلطة الفلسطينيّة التي تؤكد باستمرار وجود سلاح واحد هو سلاح الأمن الفلسطيني.

السلاح ودحلان

وفي كواليس المداولات الأمنيّة بين المسؤولين، يبرز تخوّف كبير من ازدياد السلاح في المخيمات، وتحديداً مخيم بلاطة. وتحت عنوان مصادرة السلاح، تشنّ قوات الاحتلال بشكل شبه يومي اقتحامات على المخيم، كان آخرها حملة عسكرية مكثفة تحت عنوان "تنظيف الإسطبلات" قبل أشهر قليلة، وكانت الحصيلة جمع الكثير من قطع السلاح من المخيم، واعتقال أصحابها.

وفي إطار الهدف ذاته، أي جمع السلاح، تنشط حملة عسكريّة تقودها الأجهزة الأمنية الفلسطينية، لكن مع العديد من المفارقات التي يدركها كل متابع للمشهد، إذ عادة ما تغضّ السلطة الطرف عن سلاح موجود بحوزة أحدهم، وتعلم جيداً أنّه لن يُستخدم ضدّ الاحتلال. وهذا ما جعل ظاهرة السلاح في المخيمات لا تختفي بشكل مطلق، بل تكون محظورة على تنظيمات معينة مثل "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، فيما بقي السلاح بحوزة بعض ناشطي "فتح" وغيرهم تحت سمع السلطة وبصرها، علماً أنّها عادة ما تسارع إلى اعتقال من تعتقد أنه يشكل خطراً على الاحتلال، سواء من "فتح" أو غيرها من التنظيمات.

والمفارقة اليوم أنّ الصدام بات بين هؤلاء والسلطة الفلسطينية التي تتهمهم بإطلاق النار في المناسبات، على غرار تحرير الأسرى، وترويع الناس، وغالبيتهم من حركة "فتح"، فضلاً عن وجود عساكر مطرودين من الأمن بين صفوف المطاردين اليوم. ويقول المحافظ في تحدّ واضح: "لماذا لا نرى هذا السلاح يخرج ضدّ الاحتلال الإسرائيلي عندما يقتحم المخيم، ونراه فقط عندما يريد الأمن الفلسطيني أن يحفظ النظام عبر اعتقال المطلوبين؟".

ويجيب أحد المسلحين المحسوبين على "فتح" على سؤال المحافظ، بسؤال مماثل، مفاده "لماذا لا نرى رشاش السلطة يخرج عندما يقتحم الاحتلال محافظة نابلس ومخيماتها، ولماذا تشهر السلطة سلاحها علينا؟".

من جهته، يؤكّد توفيق الطيراوي (27 عاماً)، وهو أحد أبرز المطلوبين للأمن الفلسطيني، "أننا ملتزمون بالتهدئة مع الاحتلال، بناء على أوامر من الرئيس محمود عباس وتعليمات الأجهزة الأمنيّة". ويقول لـ "العربي الجديد": "حاولنا خلال المرحلة الماضية التصدّي لبعض مروّجي المخدرات، لكن الأمن وقف في وجهنا ومنعنا من ذلك، وسبق للمحافظ السابق بالتنسيق مع "فتح"، دخول المخيم واعتقال مروجي المخدرات، وساعدناهم في الدخول بسلاسة، لكن ما يفعله المحافظ اليوم هو إلصاق التهم جزافاً، واقتحام المخيم عنوة لكسر شوكته فقط".

وفي السياق ذاته، يتحدّث أكثر من مطلوب عن "تضليل" عباس بمعلومات "مفبركة" عن المخيم، لإعطاء الضوء الأخضر للأمن الفلسطيني لاقتحامه والتنكيل به. لذلك يجتهد التنظيم والمطاردون منذ أيام، للوصول إلى عباس، وإخباره بحقيقة ما يجري، لكن من دون جدوى، ما دفعهم إلى تنظيم مسيرة أكدوا فيها أمام عدسات الكاميرات أنهم مع القانون والشرعيّة الفلسطينيّة وضد الاستقواء لتشويه المخيم.

ويردّ المحافظ بالتأكيد أنّه "يتلقى أوامره من الرئيس عباس كل يوم، والأخير يدعم النشاط الأمني". ويقول: "أرفض أن يتحدث معي أحد بمنطق الصفقات، أي اعتقال المطلوبين لبضعة أيام ثم الإفراج عنهم".

ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، وفق قيادات المخيّم التي تبدي تخوّفها من التذرّع بدعم القيادي المطرود من "فتح" محمد دحلان للمخيمات، ومنها مخيم بلاطة، ومن هنا الحملة الأمنيّة ضدّه، خصوصاً أن هذه التهمة التي تستخدم لتحقيق أهداف ما، سرعان ما يتمّ تصديقها من أعلى المستويات في السلطة.

ويشدّد النائب الطيراوي، في تصريحاته إلى "العربي الجديد"، على أنّ "دعم دحلان عبارة عن أكذوبة كبرى يصطنعها بعضهم لتمرير أخطائه وأجندته الشخصيّة، وكل من يريد أن يتقرب من الرئيس عباس، ليكون في دائرة صنع القرار، لأنه يدرك حساسية هذا الموضوع، يبادر إلى تجهيز لوائح اتهام مسبقة لكل من يقول لا للسياسيات الخاطئة التي ينفذها بعض المسؤولين في السلطة التنفيذيّة أو الأمن".

وكانت بعض المواقع الإلكترونية، المحسوبة على السلطة الفلسطينيّة، قد سارعت إلى نشر تصريحات على لسان أحد المطاردين المجهولين، يقول فيها إنّهم "يدعمون دحلان"، الأمر الذي يعتبره بعضهم "مكيدة مكشوفة" لتعميق الأزمة أكثر، فيما يجزم المطلوب توفيق الطيراوي ألا علاقة للمطلوبين بهذه التصريحات التي يصفها بأنّها "مفبركة لتبرير الحملة العسكريّة".

نهج الحملات الأمنية

على الرغم من رفض السلطة الفلسطينيّة الحديث عن حملة أمنيّة، وإصرارها على أنّها نشاط أمني مستمر لاستتباب الأمن والنظام، لكنّ المطلعين على المشهد الفلسطيني يدركون أنّ حملات أمنية تستهدف، من وقت إلى آخر، المخيمات الفلسطينيّة. بدأ الأمر في جنين عام 2013، بذريعة اعتقال مروجي المخدرات وسارقي السيارات، ومع بداية الحملة كان المستهدف الأول بيت القيادي في الجهاد الإسلامي بسام السعدي، وعدداً من بيوت ناشطي وأسرى حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، ومع انتهاء الحملة لم يكن هناك أسماء تذكر لخارجين عن القانون تمّ اعتقالهم في الحملة. بعد فترة من اقتحام المخيم، تم تغيير محافظ جنين اللواء طلال دويكات الذي نفّذ الحملة الأمنية في جنين. ومن المفارقة أن الأمن الفلسطيني اعتقل مرافقه خلال اقتحام مخيم عسكر، قرب نابلس، الأسبوع الماضي، لتندلع بعد ذلك اشتباكات بين مسلحي المخيم والأمن.

وطالت حملات أمنية شبيهة مخيم قلنديا قرب رام الله والفارعة وعسكر وبلاطة قرب نابلس، وكان أشدها حين اعتقل الأمن الفلسطيني في رمضان 2012 العشرات، ليحقق معهم على مدار أسابيع في سجن "الظاهرية" في الخليل. وتعرّض غالبيتهم للتعذيب، حتى سارقو السيارات، وتمحور التحقيق حول حيازة أسلحة أو االاتجار بها.

ويستعيد أحد المطاردين في مخيم بلاطة اليوم، تجربة التحقيق معه في سجن "الظاهرية" وما تعرّض له "للاعتراف إن كان بحوزته سلاح أم لا"، لافتاً إلى أنّ "السلطة تسعى وراء من يملك سلاح، في وقت يتركون عملاء الاحتلال طلقاء".

الفساد والكيل بمكيالين

لا يبدو خفياً أنّ ثمّة شعوراً عاماً في مخيم بلاطة، بأنّ المستوى الرسمي الفلسطيني يكيل بمكيالين، ويتعامل مع سكانه دائماً على أساس الاتهام، فضلاً عن التهميش الذي أدى إلى استشراء البطالة والفقر. وأكثر من ذلك، يرى بعض من في المخيم عبئاً بشرياً يطالب بحقّ العودة التي تعيق أيّ تسوية سياسيّة مستقبليّة.

وفي هذا السياق، يلفت الطيراوي إلى أن "الأمور بدأت بخروقات من مجهولين وآخرين معروفين، وناشدنا مع أكثر من جهة المحافظ والأجهزة الأمنية، لتكثيف الجهود، لكننا تفاجأنا بخروج الحملة عن إطارها الصحيح، باتجاه أجندة شخصيّة يمارسها بعضهم مستغلاً نفوذه، ولتحمل في طياتها الهجوم على أماكن مغيّبة ومهمّشة، وكأنها المكان الذي يثبت الانتصار".

ويتحدّث والد أحد المطلوبين في المخيم، لـ "العربي الجديد"، عن شعوره بأنّ "هناك كيلاً بمكيالين بشكل معيب". ويقول: "اعتقل ابننا 65 يوماً بأمر من المحافظ لأنه أطلق النار لدى خروج أحد أصدقائه الأسرى من سجون الاحتلال، أما عندما أطلق شخص معروف النار على آخر في مدينة نابلس وأصابه، لم يمكث معتقلاً أكثر من أربعة أيام". ويتهم المحافظ بأنّه "يتقصّد كل من يحمل السلاح، والتجربة أثبتت أنهم لا يلاحقون مروجي المخدرات أو البلطجية الذين إن اعتقلوا، فإن اعتقالهم لا يدوم سوى أيام قليلة".

يتداول الأهالي أنباء عن وساطات ومحسوبيات وفساد متفشٍ، ويشيرون إلى تورّط مسؤولين كبار، ما يدفعهم إلى مساندة المسلحين، ورفض اقتحام السلطة المخيم عنوة، والتعامل مع المخيم على أنّه مصدّر للمشاكل والجريمة. وفيما يقر المحافظ بأنّ الحملة الأمنيّة تستهدف جميع محافظة نابلس، لكنّه يؤكد أنّ "التطويق الأمني لم يحدث إلا في مخيم بلاطة لأسباب لا أعرفها". ويتابع: "من الواضح أنّ حالة الأمن في بلاطة تستدعي استخدام قوة معدّة ومدرّبة للتعامل مع المسلحين، وكيفية التعاطي مع حالات إطلاق النار"، متمنياً "إلقاء القبض على هؤلاء وإحالتهم سريعاً إلى القضاء".

وفيما يبدو مخيم بلاطة فعلياً، المخيم الوحيد الخاضع لطوق أمني، لكنّ مخيمات أخرى مثل عسكر القريبة من نابلس، ومخيم العين، والبلدة القديمة في نابلس، تشهد بدورها اشتباكات وإطلاق نار بين الشبان ورجال الأمن بشكل دائم منذ بدء الحملة على مخيم بلاطة.

ويتمسّك أمين سر التنظيم في المخيم محمد المسيمي، وغيره من المسؤولين، بضرورة "وجود لوائح اتهام بحق من يقال إنّهم مطلوبون من قبل الشرطة والنيابة، وألا يتمّ اعتقالهم على ذمّة المحافظ من دون تهمة واضحة". ويقول المسيمي لـ "العربي الجديد": "إذا بقيت الأمور على هذه الشاكلة، فهناك احتمال كبير لسقوط ضحايا من الأمن أو المواطنين".

ويشلّ تردي الوضع الأمني حركة المدارس في المخيم، ما يعطل دراسة نحو 3 آلاف طالب. والأسوأ أنّ شبان المخيم نقلوا التوتر مع الأمن، من داخل المخيم إلى شارع القدس، وهو شارع رئيسي جنوبي نابلس يؤدي إلى وسط الضفّة الغربيّة، الأمر الذي يصفه المحافظ بـ "إمعان في الخروج عن القانون" و"عربدة"، فيما يقول شبان المخيم إنّه بمثابة "صراخ" هدفه "لفت الانتباه"، باعتبار أن محاصرة المخيّم تتمّ بعد منتصف الليل وحتى الفجر، وسط إطلاق نار دائم، وتكتّم الإعلام الفلسطيني الرسمي عن نقل ما يجري.

وتقول إحدى القاطنات في المخيم، ابتسام جابر، لـ "العربي الجديد": "عندما يريدون للمخيم أن يكون مخزناً لأصواتهم الانتخابية، يبدأون بالحجّ إلى هنا، لقد مللنا أن نكون خزاناً بشرياً للشهداء والجرحى والأسرى"، معتبرة أنّه "عندما لا نقبل بتفرد المحافظ الذي يستند إلى وشايات كيديّة من رجال الأمن، تُشن علينا حملة عسكرية بذرائع واهية". وتوضح أنه "منذ انتهاء انتفاضة الأقصى والسلطة تشنّ حملات عسكرية في المخيمات الفلسطينية، ولم نسمع يوماً عن حملة اقتصادية أو حملة لمكافحة البطالة، على سبيل المثال".

المصدر: العربي الجديد