القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأحد 24 تشرين الثاني 2024

تقارير إخبارية

مخيم شاتيلا.. قبران شاهدان على مأساة اللاجئين في لبنان

مخيم شاتيلا.. قبران شاهدان على مأساة اللاجئين في لبنان

الثلاثاء، 19 تموز، 2011

مقبرتا شهداء مخيم شاتيلا، في العاصمة اللبنانية بيروت، ترويان حكاية شهداء بالكاد وجدوا قبرًا، يبحث اليوم عمّن يكرِّم من فيه، أو على الأقل يمسح الغبار عنه. إنها حكاية مقبرتين تحوي كل واحدة منهما قبرًا واحدًا فقط.

على الباب الشمالي للمخيم كنّا ننتظر مرافقنا إلى تلك المقبرتين، يلفتك أن البسمة غائبة عن الوجوه المارّة، والمأساة تسكن الملامح، وأكثر المارّين كانوا يمرّون فرادى، ولا عجب، فمذبحتان كانتا كافيتين لتدمير الاجتماع وكافة وجوه الحياة في المخيم، الأولى عام 1982، والثانية عام 1985.

يصل مرافقنا، ذو الجسد النحيل، واللحية المهذبة. يقودنا عبر زواريب ضيقةٍ معتمةٍ، أشبه بتجاعيد تروي حكاية مخيم مضى على تأسيسه اثنان وستون عامًا. نصل إلى مسجد فيهمّ صاحبنا بالدخول، نظرنا نظرة تعجّب، فالوقت ليس موعد أذان، بادرَنا بالقول إننا ندخل الآن مقبرة المخيم، التي كانت مسجدًا قبل ذلك. يكمل صاحبنا الحكاية؛ ففي الأول من رمضان عام 1985، قصف مفاجئ ينهمر على سكان المخيم، الذين ما توقف نحيبهم بعد على من استُشهد في مذابح عام 1982. القذائف والرصاص تستهدف كل أحياء المخيم. المباني المؤلّفة في معظمها من طبقة واحدة، أعجز من أن تصدّ تلك الهجمات، الشهداء يملأون المكان، والجرحى هم شهداء ينتظرون، فلا دواء، ولا مسكّنات متوافرة.

يجتمع الناس في المسجد، ويتشاورون، أين سندفن هؤلاء الشهداء، وأعدادهم تتكاثر، والخشية من الأمراض تتزايد، بسبب الجثث المتراكمة، والمساحة الضيقة، ولا سبيل للناس للوصول بالجثامين إلى "مقبرة شهداء الثورة الفلسطينية" خارج المخيم، وهو المكان الذي دُفن فيه من استُشهد على الجبهة مع العدو "الإسرائيلي" بالأمس، ودون الوصول إلى تلك المقبرة الرصاص والخطف والقتل على الهوية الزرقاء، وهي هوية اللاجئين.

أشار واحد من الحاضرين أنه لا مناص من مقبرة الضرورة في مخيمات الضرورة "فلندفن شهداءنا أسفل هذا المسجد، ولتكن أطهر الأجساد في أطهر مكان". وهكذا كان، وبدأ حفر أرض المسجد على عجل، ليُدفن خلال عامي الحصار في ذلك المسجد جثمان حوالى 575 شهيدًا يرقدون اليوم في مقبرة جامع مخيم شاتيلا على مساحة لا تتعدّى المائة متر مربّع. أسماؤهم محفورة على قطعة من رخام، تتوسط المقبرة المسجد، وصورهم معلّقة، وأجسادهم متلاصقة في قبر واحد.

نكمل الطريق نحو المدخل الجنوبي للمخيم، قاصدين مقبرة شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا في عام1982، يشير صاحبنا إلى البيوت والمحلاّت التي صُودرت من الفلسطينيين منذ سنوات طويلة، ولم ترجع أملاكها بعد إليهم. نمرّ من أمام المقبرة ونكاد نتجاوزها، لولا تنبيه صاحبنا، رغم أننا زرناها قبل ذلك مرارًا، فمحلاّت الباعة عند باب المقبرة تحجب مدخلها تمامًا، وبالكاد استطعنا تجاوز تلك المحلات، والبسطات.

يتذكّر صاحبنا، الذي كان شاهدًا على أحداث المذبحة، كيف أن الجثث تراكمت في الطرقات لثلاثة أيام متواصلة، دون أن يستطيع الناس الوصول إليها. وعندما وصلوا كانت رائحة الجثث تملأ المكان، ولون الجلود تحوّل إلى السّواد بفعل أشعّة شمس صيف عام 1982. أطنان من "الكلس" وبعض الموادّ حاولت التخفيف من انبعاث الروائح. ثمّ أخذت الجرّافات تحفر حفرة كبيرة، لا يُعلم حتى اليوم عدد من دُفن فيها، ألف، ألفان، ربّما أكثر. ينبّهنا صاحبنا إلى ضرورة أن نشيح بنظرنا عن ذلك الحانوت المقام على أرض المقبرة، وقد ظهرت منه بعض زجاجات الخمر، خشية وقوع شجار مع ساكنيه!

أعادتنا المشاهدة، وحديث صاحبنا، إلى عام 1998 يومها جئنا إلى المقبرة، وكانت أكوام النفايات تخفي كلّ معالمها، عتمة الليل طردتها الشموع المضاءة من مسيرة وقف على رأسها المرحوم شفيق الحوت، وكان الجميع ينشد بصوت يختزن كل الأحزان وينادي على الشهداء "يا أحبابي الموتى عودوا، عودوا كما أنتم، شهداء كما أنتم"، وقام الكلّ بتنظيف أرض المقبرة، وبعدها كانت مبادرات من بلديات المنطقة، والوفود الأجنبية، لتعيد للشهداء بعض حقهم، ولتقول إنهم ليسوا فقط عناوين لخطابات الزعماء، بل شهداء وشهود على واقعنا، وحرّاس لذاكرة تأبى أن تشيخ. مقبرتان في مخيم شاتيلا، وقبران يشهدان على عظم المأساة، ورحلة التشرّد الطويلة.

المصدر: المركز الفلسطيني للإعلام