مخيم طولكرم.. معاناة اللجوء لا تختلف
هبة أبو غضيب
نسمات بحر يافا وحيفا وقيسارية.. وقطرات الندى على رؤوس أزهارها، سماء صافية، وأرض تخفق فرحاً بأهلها. تحولت نسماتها إلى عواصف اعتقال، وقطرات نداها أصبحت تزخ رصاصاً على رؤوس أطفالها، سماء حمراء يملأها دخان النيران، وأرض تغرق بالدماء، والبحر يملأه الرماد، بينما كان نصيب كل شخص من قاطنيها مصيبة، هناك من شُتِّت وشرد، وهناك من قتل ونفي، وآخرون اعتقلوا، وأكثر فئة اضطهدت الذين هجروا.
من هنا تبدأ الحكاية، وتقف "العودة" هذه المرة على حافة مخيم طولكرم، الواقع على الجهة الشرقية لمدينة طولكرم شمال الضفة المحتلة، الذي تأسس عام 1950 على أرض مساحتها0,18 كيلومتر مربع ضمن حدود بلدية طولكرم وعدد سكانه 17 ألف نسمة، وهو ثاني أكبر مخيم في الضفة الغربية.
ينحدر سكان مخيم طولكرم من القرى والمدن التابعة لمناطق حيفا ويافا وقيسارية في 1948، تأسس على قطعة أرض استأجرتها وكالة الغوث (الأونروا) من الحكومة الأردنية كسائر المخيمات، وضمن مخطط التوطين، وأصبح تحت سيطرة السلطة الوطنية الفلسطينية في عام 1995.
شهداء المخيم
فكل بيت في المخيم روى ظمأ أرض فلسطين الحبيبة إما شهيداً أو جريحاً أو أسيراً أو هدماً كلياً أو جزئياً لبيته شغفاً بنيل الحرية ثم العودة إلى البيت الأصلي.
ومخيم طولكرم هو الأول في ارتفاع نسبة الشهداء على مستوى الضفة الغربية تبعاً لعدد سكانه، ومن أكثر المخيمات تأثراً بنتائج الانتفاضة الأولى 1987 والانتفاضة الثانية عام 2000 من إعاقات جسدية ونفسية خلفتها جيوش الاحتلال وراءها.
وما قدمه المخيم من أبنائه وزهرات شبابه وأطفاله قد يعتقده البعض عدم اكتراث بروح البشر، ولكن شعار كل فلسطيني هو "أغلى ما نملك هو الإنسان"... فعجباً لمن يظن أنه شعب يضيّع أبناءه هدراً، ولما تحاول أن تروّج له الصحافة الصهيونية، محاولة قدر الإمكان زرع أفكار خاطئة في عقول الجيل الجديد، وفي الرأي العام والدولي! لكن إن فكر كل شخص منهم لوهلة وتمعّن في واقع شعبنا الفلسطيني، لعذر كل امرأة فلسطينية تزغرد لأولادها وفلذات أكبادها عندما يصلها خبر استشهادهم، بينما تحمل في قلبها غصة ألم وكأنها تفقد روحها عندما ترى طفلها تغطيه الدماء، ويزفه أهل مخيمه إلى الجنة، هذا فضلاً عن الأمهات اللواتي ينتظرن وصول جثامين أبنائهم التي تحتفظ بها إسرائيل بهدف الابتزاز السياسي وسرقة الأعضاء والتغطية على فظاعة قتلها، وحتى معاقبتها بعد موتها؛ فأكثر من ثلاثمئة شهيد فلسطيني وعربي ما زال قوات الاحتلال تحتفظ بجثامينهم في ما يعرف بمقابر الأرقام الجماعية.
(أم علي) من مخيم طولكرم، ما زالت تنتظر منذ عشر سنوات وصول جثمان ابنها من جيش الاحتلال وتؤكد بعزم: "أنتظر وصول جثمان ولدي منذ عشر سنوات. لن آكل ولن أملّ ولن يهدأ لي بال حتى أرى قطعة قلبي ابني، وأقبل جبينه، وأدفنه بأرضه الطاهرة. ولو عاد بنا الزمن لأرسلت ابني مرة أخرى ليقاوم". أم علي لم تندم يوماً ـ على حد تعبيرها ـ باستشهاد ابنها في سبيل تحرير الوطن ومقاومة جيش الاحتلال الغاشم.
أما (أم أحمد)، وهي من ذات المخيم، فتحبس هي الأخرى الدمع في عينيها، وتختنق ألماً كلما ذكر اسم ابنها الوحيد الشهيد أحمد، وتقول برعشة حزن لـ"العودة":" عيناي تبكيان دماً كلما وضعت لقمة في فمي، فأتذكر ابني الوحيد بكل تفاصيله وما يحمله من ذكريات طفولة وشباب، لم أنسَ قطّ آخر نظرة، وأعمق احتضان احتضنته إياه ولم يغنني هذا عن ألم فراقه".
واقع المخيم
وأثناء زيارة "العودة" لمخيم طولكرم، رأت أن الحال نفسها في كل مخيم تتكرر، من مشاكل نظام الصرف الصحي والماء والكهرباء. ففصل الشتاء وهطل الأمطار التي ينتظرها كل شخص يكون نعمة على مناطق أخرى، لكنه يصبح نقمة على المخيم؛ لأنّ الأمطار سبب بفيضان المياه القذرة من أنابيب التصرف القديمة، وخصوصاً في المناطق القريبة من المدارس.
في مخيم طولكرم خمس مدارس، تعمل واحدة منها بنظام الفترتين، وتحتضن أطفالها في روضة واحدة، هي ذات المكان لتوزيع الأغذية على أهالي المخيم، وفيه مركز صحي واحد تابع للأونروا واثنان آخران، ومركز برامج نسائية واحد.
لكن البطالة تملأ المخيم، ومدارسها المكتظة، ومشاكل المياه لا تخلو من كل مخيم في الضفة الغربية، وهو أبسط حق يمتلكه الإنسان.
ولعل التقليصات في الخدمات المقدمة من الأونروا انعكست آثارها سلباً على حياة المواطنين في مخيم طولكرم، حيث إن مركز توزيع المؤن، وهو نفسه روضة الأطفال، لا يفي بحاجة المخيم بأكمله؛ فالمؤن التي توزعها الأونروا من أرزّ وزيت وسمن تُوزَّع على عدد بسيط من عائلات المخيم، لا على جميعها، إضافة إلى مبلغ 35 شيكل كل ثلاثة إلى أربعة أشهر لكل فرد في العائلة، ما أدى إلى تفاقم الفقر وتذمّر أهالي المخيم لما يعانونه من نقص في الأغذية، وخاصة في ظل البطالة ونسبة الخصوبة العالية، والأمراض المزمنة، ووجود العديد من الإعاقات الجسدية.
موطنهم الأصل
وينحدر أهالي المخيم من عدد من القرى المهجرة عام 1948مـ منها قرية "سيدنا علي"، وينحدر قسم آخر من أهالي مخيم طولكرم من بلدة قيسارية جنوب حيفا.
المصدر: مجلة العودة، العدد الـ62