مخيم عين الحلوة.. اختصار لملامح النكبة وعلقم اللجوء
يكفي لمن فاتته ملامح النكبة، أن يزور أحد المخيمات التي تحتضن أبناء الشعب المنكوب، حتى تتضح في مخيلته الصورة كاملة.
أن يزور مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان، بآلاف من العيون المتعبة والحزينة التي تعيش في ثنايا أزقته وبيوته المنهكة، في بقعة جغرافية لا تتجاوز مساحتها 0.8 كيلومتراً مربعاً، البعض يسميه «عاصمة الشتات الفلسطيني»، وفيه من معاناة اللجوء والتشريد والحرمان ومن أبسط الحقوق الإنسانية الأهلية ما يكفي ليحمل هذا «اللقب».
صيدا ـ جمال الغربي
المخيم الذي يقع على بعد 3 كيلومترات جنوب شرق مدينة صيدا « 45 كيلومتراً جنوب العاصمة اللبنانية بيروت ويبلغ عدد سكانه حوالى 75 ألف نسمة «إحصاء غير رسمي». تعود قصته إلى نكبة العام 1948 على أرض كان يقام عليها معسكر لجيش الاحتلال البريطاني في الحرب العالمية الثانية. وغالبية سكانه من مناطق شمال فلسطين المحتلة وهذا ما ينجلي في تسمية أحياء المخيم التي تأخذ أسماء تلك المناطق.
«خزان المناضلين» هي التسمية التي يحلو لأهالي المخيم إطلاقها على البقعة التي ظلت تقاوم الاجتياح «الإسرائيلي» عام 1982 بما أتيح لها من قوة وعزيمة. يومها احتلت الدبابات الصهيونية بيروت، إلا أن بنادق الثوار في المخيم بقيت تقض مضاجع جنرالات جيش الاحتلال على الرغم من أن طائراته قد سوت المخيم بالأرض.
خزان المناضلين.. لا يتسع لهم
معاناة أبناء المخيم المكتظ سكانياً مريبة، بحيث لا تتحمل زواريبه مرور أكثر من شخصين في آن واحد وطرقه شبه المعبدة بعكس زواريبه السياسية التي تتسع لمشارب القوى الفلسطينية الوطنية كافة وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، قوى التحالف الفلسطيني والقوى الإسلامية.
مشاكله كثيرة ولاتنتهي بدءاً من وصفه بالجزيرة الأمنية والتعاطي اللبناني الرسمي القاصر مروراً بالواقع المعيشي والإجتماعي الصعب، والواقع الصحي والتعليم المتردي وتقليص وكالة «الأونروا» خدماتها بشكل مبرمج ومقصود.
ولكن السؤال الذي يراود ليس فقط أبناء عين الحلوة بل كل اللاجئين في الأراضي اللبنانية، لماذا لم تستطع بعض القوى اللبنانية الممثلة في المجلس النيابي إقرار الحقوق المدنية والاجتماعية والإنسانية على الرغم من تبنيها تلك الحقوق في اللقاءات المغلقة؟
ولا يبدو الجواب الافتراضي لدى تلك القوى، بأن إقرار الحقوق المدنية والإنسانية والاجتماعية للاجئين سيكون الخطوة الأساسية في إقرار توطين الفلسطينيين في لبنان مقنعاً، أو في الحد الأدنى خاضعاً للنقاش لقسم كبير منهم والذين يرفضون التنازل عن حق العودة إلى ديادهم إلا أن هذه المسألة لا تمنع من تأمين حياة حرة كريمة لهم، فضلاً عن إيجاد صيغة سليمة للعلاقة اللبنانية الفلسطينية.
أخطر من السلاح، وأبعد من التوتر، وأقسى من فقدان الأمن والأمان، هي ضريبة الانسلاخ عن الوطن، وهي الحال في المخيم الذي «ليس بخير» إن أتعب أحدا نفسه وسأل عن الحال.
علقم الحياة اليومية بجوانبها كافة من الفقر والبطالة والواقع التعليمي والأوضاع الصحية وحال الشباب وصولاً إلى ما يسمى فزاعة التوطين، إلى جانب هاجس فقدان الوطن.. يغص في حناجر أبناء «عين الحلوة».. هو العلقم الوحيد الذي لا يداويه سكّر الأيام.
بطالة.. وفقر
من بين عائلات المخيم تصنّف حوالى 1400 عائلة (5000 نسمة)، من ضمن حالات العسر الشديد لدى «الأونروا»، يضاف إلى هؤلاء الفئة المصنفة بـ(N-R)، وهم النازحون على مراحل بعد النكبة (56- 67).
نتيجة لزيادة عدد سكان المخيم، اضطرت عائلات كثيرة إلى البناء العمودي، أو البناء في «الجنينة»، لإسكان ابن متزوج حديثاً، ولتجاوز مشكلة الإيجارات وعدم القدرة على شراء منزل جديد في ظل قانون يمنع الفلسطيني من التملك! وزاد حجم الضغوط على اللاجئ الفلسطيني أكثر في السنوات القليلة الماضية من خلال اللجوء الكثيف للعمال السوريين إلى المخيم. وإن كان البعض يقيّم ذلك بإيجابية لناحية تحريك سوق المخيم الاقتصادية، إلا أن العامل السلبي الذي وُجِدَ تمثل برفع سقف أسعار إيجارات المحال في سوق الخضار، وكذلك إيجارات المنازل.
هذا الوضع أثّر وبشكل كبير على مجمل الحياة الاقتصادية والأسرية في المخيم؛ فالبعض يقدّر متوسط مدخول الفرد بما يقارب الـ 350 ألف ليرة لبنانية شهرياً، أي ما يوازي خط الفقر العالمي. ما أدى إلى زيادة معدلات الطلاق وعمالة الأطفال وارتفاع نسبة «العنوسة» حسب الثقافة السائدة بين الفتيات بسبب ارتفاع سن الزواج لدى الشبان أيضاً.
متعلمون ولكن!
وفاقم هذا الوضع منع الفلسطينيين من ممارسة أكثر من 70 مهنة، لعدم تطبيق قانون المعاملة بالمثل، وعلى مدى عشر سنوات عانى الفلسطينيون من ذلك أشد المعاناة فالبطالة وصلت حد 65 % بين صفوف الشباب، وخصوصاً أصحاب الكفاءات الطبية والهندسية وغيرهم. يضاف إلى ذلك تحوّل عدد من الأطباء والمهندسين عن ممارسة مهنهم إلى ممارسة مهن أخرى: «طبيب يعمل سائق تاكسي، ومهندس يبيع الخضار...». وعلى الرغم من صدور قرار وزاري بالسماح للفلسطينيين بممارسة مهن عديدة كانت محظورة عليهم، إلا أن مفاعيل القرار لم تؤثر بشكل كبير على الواقع المعاش حتى الآن، ولا يعرف مدى التأثير وهل سيكون كبيراً أم ماذا في المستقبل القريب؟!
كارثة التسرب المدرسي
في عين الحلوة ثماني مدارس هي: «الفالوجة، قبية، المنطار، عسقلان، السموع، مرج بن عامر، حطين، بيسان». وهي موزعة على الشكل التالي: خمس مدارس ابتدائية، ومتوسطتان وثانوية واحدة». ويبلغ عدد التلامذة فيها نحو 6200 تلميذً ـ حسب مصدر في اللجان الشعبية ـ يتوزعون بمعدل 40-45 تلميذاً في الصف الواحد. كما أن بعض هذه المدارس تعمل بنظام الدوامين؛ دوام صباحي وآخر مسائي.
أما بالنسبة الى ظاهرة التسرب من المدارس فقد بدأت تتفشى وتتفاقم حالها لدى الطلاب الفلسطينيين حتى وصلت نسبتها إلى 18 %. ويعزز هذا الأمر الصعوبات الجمة في إيجاد وظيفة في سوق العمل اللبنانية أمام المتخرجين الجدد. بالإضافة إلى حالة الفقر المنتشرة بين الفلسطينيين ما يصرف الطالب إلى العمل الحرفي المهني ليساعد أهله.
ويتجه كثير من الطلبة إلى مركز سبلين للتعليم المهني التابع لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، والذي يستوعب 600 طالب بدوام كامل، أو إلى أحد المراكز المهنية التابعة لمؤسسات خيرية واجتماعية.
أما رياض الأطفال فموجودة في المخيم وإلى حد ما تلبي حاجة أهالي المخيم، وهي: روضة خالد بن الوليد، روضة مرشد، روضة غسان كنفاني، روضة صلاح الدين، الروضة التابعة لهيئة الرعاية الاجتماعية، روضة نبيلة برير، روضة هدى شعلان.. ومعظمها تابع لتنظيمات سياسية فلسطينية.
الصحة «تعبانة» يا ليلى
عقب توقيع اتفاقية أوسلو (13 / 09 / 1993)، قلصت «الأونروا» ومنظمة التحرير خدماتهما بشكل كبير، وأضيف إلى ذلك التشديد اللبناني حيال اللاجئ الفلسطيني والذي ارتبط بمقولة «الخوف من التوطين».
ويعتبر الجانب الصحي الأشد وطأة والأكثر تأثيراً على اللاجئ الفلسطيني، فلا تقوم «الأونروا» مثلاً بتغطية تكاليف الفحوص المخبرية كلها والتي لا تُجرى في مختبراتها، إضافة إلى أن إجراء هذه الفحوص غير المتوافرة في مختبراتها يحتاج إلى موافقة مدير قسم الصحة في بيروت، والتي تستغرق عشرة أيام على الأقل، وفي كثير من الأحيان يأتي الجواب بالرفض.
وكشف تقرير صادر عن «الأونروا» في العام 2004، أن أطباء الصحة فيها قد تمت زيارتهم (907617) مرة، وبلغت موازنة الأونروا في العام نفسه 52.8 مليون دولاراً، بمعدل 133 دولاراً فقط للفرد في السنة.
وتفتقر عيادتا «الأونروا» في مخيم عين الحلوة إلى أدوية الأمراض المستعصية وحتى الأمراض العادية، ويقتصر الأمر على المسكنات والأدوية البسيطة «كالأسبرين» و»البنادول»... فضلاً عن عدم وجود صور الكمبيوتر والتصوير المغناطيسي... وألغيت عدة انواع من العمليات الجراحية: « الغضروف، الدوالي ...». ولا يتوافر في مراكز الأونروا إلا التصوير الشعاعي X-RAY، وتفتقر إلى صور «scanner» أو «MRI» أو «ECHO»، كما أنها تفتقر الى أجهزة تخطيط القلب أو الدماغ، ما يضطر المريض إلى اللجوء الى العيادات والمستشفيات الخاصة.
ويقول أحد الأطباء في المخيم: «ثمة مفارقة عجيبة في موضوع صرف الأدوية. وهي لا تخلو من الشك والغرابة في آن معاً. ففي حين يعاني مرضى الحالات المزمنة من نقص الأدوية « أمراض القلب والضغط...» نجد أن ثمة وفرة وحماسة لتقديم ادوية منع الحمل وبأنواعها كافة». ويضيف: «من الملاحظ أيضاً غياب الأدوية المطلوبة في مجال الطب المعاصر، وإبقاء النوعيات القديمة، وعدم إرسال كميات الأدوية الشهرية في موعدها «أمراض القلب والضغط والعصبية وحالات الانفصام...».
وتوجد في المخيم مستوصفات عدة: مستوصف خالد بن الوليد، مستوصف الدكتور أبو جاموس، مستوصف القدس (كان مستشفى)، مستوصف الجبهة الديمقراطية، ومستوصف خالد أكر، والعيادات الطبية التي يرأسها د. وائل ميعاري، مستوصف الهيئة الخيرية الإجتماعية. وثمة مستشفى واحد داخل المخيم هو: النداء الإنساني. أما خارجه فلا توجد إلا مستشفى الهمشري التابعة للهلال الأحمر الفلسطيني.
ووجود مثل هذه المستوصفات ساهم ويساهم بشكل كبير في حل جزء من المشاكل الصحية التي يعانيها الفلسطينيون في المخيم. وتجوز الإشارة إلى نظام التحويلات التي تتبعها هذه المستوصفات الى متخصصين (قلب، عيون...)، فبدلاً من أن يدفع المريض خمسين ألفاً، يأخذ تحويلاً من المستوصف ويدفع فقط من 5000 ـ 10000 ليرة لبنانية.
الشباب.. نبض المخيم
من الواضح أن حالتَيْ «القوقعة» و«الطموح» لدى الشباب الفلسطيني في المخيم تتصارعان بشكل كبير جداً. ولعل الرؤية الصائبة الأقرب إلى الواقع تشير إلى أن «القوقعة» لديهم قد تغلبت على «الطموح» و«المثابرة». و»القوقعة» هنا تأتي على طريق الذوبان في بوتقة العقيدة الدينية والانغماس فيها الى درجة تفضيلها عن البعد الاجتماعي، (في حال تجب الموازنة) نتيجة انتشار حالة من اليأس الدنيوي، فالأوضاع القاسية التي يعيشها هؤلاء تجعل المستقبل المتداخل فيه السياسي والاجتماعي والاقتصادي ينحو باتجاه رسم صورة قاتمة ويعزز من هذه القناعة المشاريع المطروحة والتي تطرح باستمرار: فقدان الوطن، التوطين، الترحيل...
الظروف الصعبة التي يعيشها الشباب الفلسطيني، تتفاقم بشكل خاص مع شريحة المتخرجين الذين لا يجدون عملاً، فالكثيرون من هؤلاء قد تخرّجوا أطباء أو مهندسين أو محامين، إلا أنهم لم يجدوا عملاً لفترة طويلة ما أوصلهم إلى خيارين اثنين: إما أن يبقى أحدهم عاطلاً من العمل وعالة على أهله، وإما أن ينسى شهادته، ويعمل في مجال آخر كبائع للخضار أو سائقاً لتاكسي...
كما أنه بسبب البطالة باتت معدلات الأمية أكبر في صفوف الفلسطينيين ويشير المكتب المركزي الفلسطيني للإحصاء والمصادر الطبيعية، إلى أن 23 % من الفلسطينيين من عمر 15 عاماً وما فوق هم أميّون، فحسب التقرير يوجد 12 % من الفلسطينيين أكملوا المرحلة الثانوية من التعليم.
هذا الواقع المأساوي السائد، من الطبيعي إذا لم تتم معالجته وإعطاؤه الأولوية القصوى على طاولة السياسيين «المعجوقة»، سينعكس سلباً على الشباب الفلسطيني وبالتالي على مصير القضية الفلسطينية، سيؤثر في نفسيّاتهم وطاقاتهم الانسانية أولاً، وعلى سلوكهم تجاه المجتمع ومسؤولياتهم ثانياً، خصوصاً أن المخيمات الفلسطينية كافة هي صورة طبق الاصل عن بعضها تقريباً.
دور المؤسسات الأهلية
تعمل في مخيم عين الحلوة عدة مؤسسات أهلية – اجتماعية تحاول تعويض غياب دور مؤسسات الدولة واهتمامها، وتهتم بـ: المرأة، الطفل، الرياضة، الإعاقة، المسنين... ومن هذه المؤسسات: « بيت أطفال الصمود، نبع، المؤسسة الفلسطينية للرياضة، مركز بيت المقدس، نادي ناجي العلي، مركز التدريب المهني...».
ويهتم قسم من هذه المؤسسات بتطوير المهارات المهنية والفنية عند بعض الطلاب الذين لم يكملوا تعليمهم، فيما يهتم القسم الآخر بتطوير مهارات تخص الفتيات: «الخياطة، التطريز، التزيين، السكرتاريا...». ويقوم المركز النسائي التابع لـ«الأونروا» بتنظيم دورات سريعة حول «الإخراج والتصوير والمونتاج».
هاجس التوطين
يرفض اللاجئون التوطين بشكل تام، وقد أعلن العديد من ممثليهم عن ذلك بوضوح. وأظهر استطلاع للرأي نسبة كبيرة تتجاوز 85 % من اللاجئين في لبنان يرفضون التوطين بشكل لا يقبل المساومة.
ويقول رائف.ع وهو أحد أبناء المخيم: «إن حق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه هو حق تاريخي لا يزول مهما تقدم الزمن».
ويضيف: «إن شعبنا وفي كل أماكن وجوده في الشتات يرفض التجنيس ويعتبره مقدمة للتوطين. ونحن كلاجئين سندافع عن حقنا التاريخي والوطني في فلسطين مع كل الشرفاء في عالمنا العربي انصافاً للحق وإزهاقاً للباطل».
أما أبو أحمد (36 عاماً) فيقول: «بالنسبة إلي لقد كان أجدادي يحدثونني عن أرضي؛ سهولها، جبالها، وديانها، عكا، حيفا... لقد أمضيت حياتي وأنا أحلم بيوم العودة إلى أرضي في فلسطين ولن أرضى عن ذلك بديلاً»، مؤكداً رفضه فكرة التوطين من أساسها، «لأننا أصحاب قضية حق لا يمكن التنازل عنها».
وأضاف: «عانى اللاجئون الفلسطينيون في لبنان ويلات الحروب وذاقوا الأمرّين لذلك أطالب بمعاملتهم معاملة إنسانية تعطيهم حقوقهم المدنية والاجتماعية بما يعزز القضية المشتركة فلسطينياً ولبنانياً ألا وهي محاربة التوطين».
وتقول راضية (55 عاماً) «لو ملّكوني كل أراضي الدنيا، فلن أقبل بديلاً عن أرضي فلسطين.. ولقد ربّيت أولادي على هذا الايمان، وأعتقد أنهم سيحافظون عليه».
حق لا بد منه
الحرمان والفقر والمعاناة المستمرة منذ لحظات التهجير والتشريد الأولى من أرض الوطن مروراً بمآسي اللجوء والعيش بكرامة، لم يمنعوا شعب الجبارين من التمسك بأرضه والتمسك بحق العودة إليها من طريق واحد يمر بفوهة البندقية، لا بل إن ما يعنيه هذا الشعب من صبر عظيم يشهد له التاريخ، هو المحرض الرئيسي لهم ليتمسكوا بحق تحرير وطنهم والدفاع بالدم عن هويتهم القومية التاريخية.. ولو بالأشلاء.
المصدر: صحيفة البناء