القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
السبت 30 تشرين الثاني 2024

تقارير إخبارية

مريول الأونروا

مريول الأونروا


الخميس، 03 أيلول، 2015

حين كنت تلميذة انتقلت من مدرسة ابتدائية إلى مدرسة إعدادية تابعتين للأونروا على مدى تسع سنوات دراسية متتالية في حياتي. اعتبرت هذه السنوات أتعس سنوات حياتي، خصوصاً لجهة المعاناة النفسية لأني كنت باختصار ومنذ العام الأول من المدرسة أكره مريول المدرسة المخطط بالأبيض والأزرق، وهما اللونان المعتمدان شعاراً للأونروا كمؤسسة إغاثية تذكرني دائما بأنني لاجئة.

في الصف الأول الابتدائي وحين كنت أستعد لدخول المدرسة لأول مرة في حياتي أي أنني كنت في السادسة من عمري دخلت أمي المشفى قبل موعد بداية العام بشهر وأصبحت في وضع صحي سيئ. وهكذا لم أجد حولي من يهتم بخياطة المريول للطفلة الصغيرة وكان الجميع من حولي مشغولاً بوضع أمي الصحي وإمكانية تحويلها للعلاج خارج غزة.

جدي والد أمي هو الوحيد الذي عرف سبب دموعي المحتبسة في صمت، وكنت قد حبستها طويلاً افتقاداً لأمي وقيام أبي بدور الأم والأب. وكانت جدتي لأبي امرأة طاعنة في السن لا تستطيع الحركة من مجلسها وتنام حيث تجلس ولا تكف عن عقابنا بأن تربط ساق أحدنا بساق السرير الحديدي لتمنعنا من الحركة بعيداً عنها ونصبح جميعاً مثل الجراء الصغيرة تحت سيطرة نظراتها وأوامرها، وحملني جدي لأمي إلى بيته رحمة وشفقة علي.

جدي كان رجلاً فقيراً ويعيش على مال قليل يرسله له أولاده الذين فرقتهم حرب عام 1967 ما بين الأردن ومصر، ولكنه لم يظهر يوماً أنه يعاني من الحاجة، بل على العكس فقد كان يضع ساقاً فوق ساق ويدخّن غليونه وينفث الدخان في عزة وكبرياء وهو يتباهى بجيبه المليئة بالمال. وفي الحقيقة لم يكن الواقع كذلك ابداً. وهكذا ذهب بي جدي إلى السوق وبعد مساومات طويلة مع بائع القماش العجوز اشترى جدي قطعة قماش تكفي لخياطة مريولي الأول وأصبح همه البحث عن خياطة تقوم بخياطته خلال أقل من 24 ساعة لأن المدرسة ستكون في صبيحة اليوم التالي.

طرق جدي باب جارتهم الخياطة وبعد أن أبدت تأففها وهي تعلم أن جدي لن يمنحها أجرة مجزية طلبت منه أن يتركني مع قطعة القماش حتى آخر النهار في بيتها بين أكوام القماش والقصاصات والخيوط وأمام ماكنة الخياطة العتيقة والتي كانت تديرها بقدمها.

تركني جدي وأحكمت يدي على قطعة القماش الملفوفة بجريدة قديمة وانتظرت أن تمد يدها إليها لكي تقصها على مقاسي وتخيطها ولكن ذلك لم يحدث إلا آخر النهار بعد أن طلبت مني أن أهز صغيرها في سريره المعدني لعدة ساعات حتى تورمت أصابعي النحيلة. وكنت أقبض على طرف السرير بأصابعي فتركت أثراً ورائحة صدأ عليها،. ثم طلبت مني ان أنظف حوش دارها وأجمع أوراق الشجر الجافة وتضورت جوعاً ولم أجد سوى زير الماء لأشرب منه كلما تعاركت أمعائي احتجاجاً، حتى حل المغرب ومدت يدها بـتأفف أكثر ــ لأنها كانت متعبة من خياطة ما يزيد عن عشرين مريولاً جاءت الأمهات سعيدات لاستلامها ــ إلى قطعة القماش وبدأت في قصها ثم خاطتها سريعاً وحين عدت إلى جدي فتح جدي الكيس الورقي ورأى المريول فلم يبد تعليقاً غير الابتهاج لأنه أصبح لدي مريول.

أما أنا وفي الصباح الباكر وحين ارتديته وأصبحت بين زميلاتي الصغيرات والمعلمات يقمن بتوزيعنا إلى الفصول المسقوفة بالقرميد وعلم الأونروا يرفرف فوق مكتب الناظرة فقد شعرت بفداحة ما فعلته بي الخياطة الشريرة فقد كان مريولي أبشع مريول بين مراييل التلميذات بأكمام قصيرة وذيل طويل من ناحية وقصير من ناحية أخرى. ولم تزينه الخياطة بأشرطة ولا أزرار وبدا كما علقت المعلمة وهي لا تدري ما عانيته حتى حصلت عليه ولا تعلم أيضاً أن أمي تصارع الموت: تبدين كأنك في طريقك إلى السجن بهذا الزي ..

المصدر: العربي الجديد