نواب القدس...
رواية الإبعاد ومعركة العودة
الأربعاء، 26 آب، 2015
"يا فرحة ما تمت"،
ينطبق هذا المثل الشّعبي على قصة النواب الفلسطينيين عن مدينة القدس المحتلة، والذين
نجحوا في انتخابات العام 2006 ضمن "قائمة التغيير والإصلاح" التّابعة لحركة
المقاومة الإسلامية "حماس". فمنذ نجاحهم وتحملهم مسؤولية تمثيل القدس في
المجلس التشريعي، بدأت حكومة الاحتلال الإسرائيلي بسلسلة من الإجراءات والملاحقات بحقّهم،
لم تنتهِ فصولها حتى اليوم.
كان أبرز تلك الإجراءات،
إصدار وزارة الداخليّة الإسرائيلية قراراً في مايو/أيار 2006، يقضي بسحب بطاقات الإقامة
الإسرائيلية من كلّ من النّواب: أحمد عطون (47 عاماً)، ومحمد طوطح (46 عاماً)، ومحمد
أبوطير(65 عاماً)، والوزير السّابق لشؤون القدس خالد أبوعرفة (54 عاماً)، تحت حجة
"عدم ولائهم لدولة إسرائيل"، مما يعني طردهم من مدينة القدس المحتلة، وعدم
السّماح لهم بدخولها مجدداً.
واليوم، يقضي النّواب الثلاثة
والوزير السّابق أيامهم في مدينة رام الله، مبعدين عن المدينة التي كان من المفترض
أن يحملوا قضاياها ويمثّلوا أهلها، ويترقبون البتّ في قضية سحب إقاماتهم، وذلك بعد
الالتماس الذي تقدموا به إلى المحكمة العليا الإسرائيلية منذ 2006، وعقدت الجلسة الأخيرة
من المحاكمة في مايو/أيار الماضي.
"العربي الجديد"
التقت النواب الثلاثة والوزير السّابق، واستعرضت معهم بعض محطات وتبعات هذه الملاحقة
الطويلة.
رواية الاعتقال..
والإبعاد
يروي النائب أبوطير لـ"العربي
الجديد" كيف كان "الاحتلال منزعجاً" من وجودهم ونشاطهم السياسي في القدس
المحتلة منذ اللحظة الأولى. ويعود بالذاكرة إلى أيام الحملة الانتخابية، حين كانت تلاحقهم
شرطة الاحتلال وتنصب الحواجز في طريقهم بين الأحياء المقدسية.
ويقول النائب عطون إنه استُدعي
17 مرة للتحقيق لدى شرطة الاحتلال، تلقاها هو وبعض زملائه النواب عن القدس في حملتهم
الانتخابية. وأثناء أحد تلك الاستدعاءات، قال أحد الضّباط الإسرائيليين للنائب أبوطير:
"صَحّيتوا الخيل النايمة في القدس"، ويقصد بذلك أن نشاط أعضاء قائمة
"الإصلاح والتغيير" أدى إلى تنشيط ورفد الحركة السياسية في مدينة القدس.
لم يكن يتوقع أن تترك سلطات
الاحتلال لهذا النّشاط السياسي الفلسطيني الفرصة كي يعمل في القدس. بعد 3 أشهر من الانتخابات،
أي في إبريل/نيسان 2006، بدأت حكومة الاحتلال بالدفع نحو سحب إقامات النواب المقدسيين
وإبعادهم، وتذرعت حينها بعملية استشهادية وقعت في تل أبيب تبنتها حركة "الجهاد
الإسلامي".
وفي 29 مايو/أيار 2006 تحديداً،
تلقى النواب والوزير السّابق قراراً من وزير الداخلية الإسرائيلي آنذاك روني بار أون،
يخيّرهم فيه بين البقاء كأعضاء في المجلس التشريعي والحكومة الفلسطينية، وبين سحب إقاماتهم، ويمهلهم
30 يوماً للردّ، وهو الأمر الذي قابلوه بالرفض المطلق. ما أن انتهت الأيام الثلاثون،
حتى وجد الأربعة أنفسهم في سجون الاحتلال، وذلك في إطار الردّ الإسرائيلي على عملية
اختطاف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، والتي تبعها اعتقال نواب ووزراء حركة
"حماس".
حكم على أبوطير بالسجن
4 سنوات، وعلى طوطح وعطون بالسّجن 3 سنوات ونصف السنة، أمّا أبوعرفة فقد حكم عليه
27 شهراً. وبسبب وجودهم قيد الاعتقال، تم تأجيل قضية إبعادهم عن القدس المحتلة لبضع
سنوات.
في يونيو/حزيران 2010 كان الأربعة قد خرجوا من السّجن
وعادوا إلى مدينتهم ليجابهوا القرار القديم المتجدد بإبعادهم، إذ تم امهالهم مُجدداً
30 يوماً للخروج القسري من القدس. انتهت المهلة التي أعطيت للنائب أبوطير، فتم اعتقاله
من مشارف بلدة صور باهر شرقي القدس، في حين كان قد بقي على المهلة المعطاة للنائبين
طوطح وعطون وللوزير أبوعرفة أقل من 48 ساعة.
قرار الاعتصام
عن تلك اللحظات يقول عطون:
"لم يكن خيار الرضوخ للقرار الإسرائيلي بالإبعاد مطروحاً أمامنا، لا يمكن أن نقبل
على أنفسنا الخروج من مدينتنا وأن ننفذ هذا القرار بأنفسنا". وبناء على ذلك، أعلن
النائبان عطون وطوطح والوزير السابق أبوعرفة في الأول من يوليو/تموز 2010 اعتصامهم
الشهير في مقر بعثة الصليب الأحمر في مدينة القدس، والذي استمرّ 19 شهراً، رافضين إبعادهم
عن المدينة.
وقد شكلت خيمة اعتصامهم
في مقر الصليب الأحمر على مدار عام ونصف العام مقصداً للوفود الفلسطينية والأجنبية
المتضامنة معهم. وتحوّلت خلال تلك الفترة إلى ما يشبه المقرّ الشعبي لأهالي القدس الممثل
لقضاياهم وصمودهم. وكانت تنطلق منها الاعتصامات المتضامنة مع الأسرى، وتقام فيها معارض
فنية وصلوات جمعة وغيرها من النشاطات، إلى أن اقتحمت قوات الاحتلال مقر الصليب الأحمر
في يناير/كانون الثاني 2012 واعتقلت طوطح وأبوعرفة، فيما كانت قد اعتقلت عطون قبل ذلك
بـ4 أشهر. وبعدما قضى النواب فترات متفاوتة في سجون الاحتلال، تم تنفيذ قرار الإبعاد
بحقّهم فعلياً، إذ أفرج عنهم من السجون إلى مدينة رام الله، حيث ما زالوا يقيمون منتظرين
قرار المحكمة العليا في قضيتهم.
حرمان من العائلة
عندما ترشح النائب طوطح
للانتخابات عام 2006، كانت ابنته البكر عُلا في الصّف الثّالث الابتدائي، وكذلك الأمر
بالنسبة للوزير أبوعرفة وابنته أسيل. بعد الاعتقال المتكرر، خرج طوطح وأبوعرفة من سجون
الاعتقال في سبتمبر/أيلول 2014، ليجدا مكان الطفلتين فتاتيْن على أبواب التخرج من المدرسة،
والبحث عن التخصص الجامعي المناسب.
يلخّص طوطح هذه التبعات
الاجتماعية التي سببتها إجراءات الاحتلال بالقول: "لقد كان رمضان الماضي أول رمضان
أقضيه كاملاً مع عائلتي منذ 9 سنوات.
ليس من السّهل الرجوع إلى العائلة بعد هذه الفترة
الطويلة، ستكون هناك فجوات في التعامل بشكل أكيد". أما النائب أبوطير الذي خرج
من السّجن الإسرائيلي نهاية يوليو/تموز الماضي، فيتحدث عن أحفاده العشرين الذين قلما
جمعته معهم ومع آبائهم وأماتهم مائدة واحدة بسبب الاعتقالات المتكررة والإبعاد عن القدس.
في ظلّ هذه الحياة العائلية
غير المستقرة، يضطر النواب المبعدون إلى تحمل تكاليف منزلين؛ فلكل واحد منهم بيت في
رام الله، وبيته الأصلي في القدس. ولا يمكن للنواب نقل عائلاتهم لتعيش بالكامل في رام
الله وإغلاق بيوتهم في القدس نهائياً، إذ إن القانون الإسرائيلي يعتبر نقل "مركز
الحياة" من القدس إلى الضفة الغربيّة سبباً كافياً لسحب بطاقة الإقامة الإسرائيلية
التي يحملها المقدسيون.
إضافة إلى ذلك، يتشاطر النّواب
والوزير السّابق آثار الإبعاد ومشاعر الألم عند وقوع أحداث ذات أهمية في القدس، سواء
على الصعيد العائلي الشَخصي، أو على الصعيد الوطني الجماعي. على الصعيد الشخصي، وحين
كان جميع أفراد عائلة النائب عطون، على سبيل المثال، يحتفلون في تركيا بزواج أخيه محمود
بعد قضائه تسع عشرة سنة في سجون الاحتلال والإفراج عنه ضمن صفقة الأحرار وإبعاده إلى
هناك، كانت سلطات الاحتلال تبعد النائب عطون عبر حاجز قلنديا إلى مدينة رام الله.
أما الوزير السّابق أبوعرفة،
فقد تخرّج ابناه هذا الصيف من جامعات الأردن ولم يتمكن من حضور حفل تخرجهما، لأن سحب
الإقامة منه يمنعه بالضرورة من السّفر لعدم وجود أوراق رسمية بيده. يقول أبوعرفة:
"هذا العام تخرج ابني محمد وابني معاذ من الجامعة، وابنتي أسيل من المدرسة، أتمنى
أن يختم العام بفرحة العودة إلى القدس".
وعلى الصعيد الوطني الجماعي،
يتابع النواب ما يجري في مدينتهم المقدسة عن بعد، ولا يستطيعون مشاركة أبنائها يوميات
المواجهة والصمود فيها. عوضاً عن ذلك، يحاول النواب أن ينشطوا في مدينة رام الله، ولكن
نشاطاتهم تبقى ضيقة في إطار زيارة أهالي الشهداء والأسرى، وفي ظلّ تعطيل عمل المجلس
التشريعي منذ سنوات. ولا يخفي النواب والوزير السابق انعكاس التوتر المستمر الحاصل
بين السلطة الفلسطينية وحركة "حماس" على مضاعفة شعورهم بالغربة.
التطورات القضائية
في جلسة المحكمة الثامنة
والأخيرة التي عقدت مطلع مايو/أيار الماضي بحضور طاقم موسع من ثمانية قضاة، طلب القضاة
من وزارة الداخلية الإسرائيلية الردّ على الاقتراح التالي: "لو قدّم النّواب استقالتهم
من المجلس التّشريعيّ، هل تقبلون رجوعهم إلى القدس؟". وقد أمهلت المحكمة العليا
وزارة الداخليّة حتى مطلع أغسطس/آب الجاري لتقديم ردّها، ولكنها ما زالت تماطل وتطالب
بتمديد المهلة، ومن المتوقع أن تقدم ردّها خلال الأسابيع القريبة. كما شجعت المحكمة
العليا وزارة داخلية الاحتلال على منح النواب المبعدين على الأقل تصاريح لدخول القدس
عوضاً عن بطاقات الإقامة، وذلك في تلميح يبدو أنه ينبئ بموقفها المعارض لسحب الإقامات.
وفي حديث لـ"العربي
الجديد" مع المحامي فادي قواسمي، أحد أفراد طاقم الدفاع الذي يمثل النواب المبعدين،
أوضح أن دفاعهم ضدّ الإبعاد يستند إلى 3 ادعاءات رئيسية. يتلخص الأول بأن الانتخابات
التشريعية الفلسطينية جرت بموجب اتفاقية أوسلو التي سمحت للمقدسيين بالترشح والانتخاب
فيها، كما أن حكومة الاحتلال في ذلك الحين كانت على علم بمشاركة حركة "حماس"،
ولم تعترض ذلك، بل قامت بفتح مراكز البريد الإسرائيلي في القدس وتحويلها لمراكز اقتراع.
أما الادعاء الثّاني، فيستقي
دعائمه من القانون الدوليّ، الذي يعتبر القدس منطقة محتلة تسري عليها معاهدة لاهاي،
التي تمنع في بندها رقم (45) "إرغام سكان الأراضي المحتلة على تقديم الولاء للقوة
المعادية". كما أن اتفاقية جنيف في بندها رقم (49) تمنع نقل أو إبعاد سكان منطقة
محتلة، إلا في حالات معيّنة غايتها المحافظة على حياة السكان ولا تنطبق عليها حالة
النواب.
أما الادعاء الثالث، بحسب
قواسمي، فيتعلق بالقانون الإسرائيلي نفسه، إذ إن ما يُسمى "قانون الدخول إلى إسرائيل
لعام 1952" والذي تستند إليه وزارة داخلية الاحتلال في قرارها سحب إقامات النواب
المقدسيين، لا يعطي وزير الداخلية أية صلاحية لسحب الإقامة وفقاً لمعيار "الولاء
لدولة إسرائيل".
ويضيف قواسمي: "حتى
لو افترضنا جدلاً أن القانون يعطي تلك الصلاحية، فإنه لا يقدم أي تعريف لمفهوم (الولاء)".
ويقارن قواسمي بين قانون "الدخول إلى إسرائيل"، وبين قانون "المواطنة
الإسرائيلية"، الذي لطالما رفضت حكومات الاحتلال الإسرائيلية المتعاقبة أن تضيف
إليه تعليمات تتعلق بسحب الجنسية الإسرائيلية ممن يُدّعَى عدم ولائهم، ومثال على ذلك
الرفض الإسرائيلي القانوني لسحب الجنسية الإسرائيلية من يجال عمير، المستوطن الذي قتل
رئيس حكومة الاحتلال السابق إسحق رابين عام 1995.
إذن هي أسابيع قليلة تفصل
النواب المبعدين عن تقرير مصيرهم وعودتهم إلى القدس من عدمها، إلا إذا فاجأتهم سلطات
الاحتلال بالمزيد من التأجيل. وفي انتظار ردّ وزارة الداخلية ومن ثمّ قرار المحكمة،
يبقى النواب والوزير السّابق في ترقب وسط تفاؤل حذر، يزيد وينقص، بعودتهم القريبة المُقيدة
ربما بشروط قاسية.
"كان واضحاً في الجلسة
الأخيرة للمحكمة أنها وجدت حرجاً شديداً في تأييد قرار سحب الهوية، وكان ذلك مؤشراً
إيجابياً لصالحنا"، يقول أبوعرفة، ويستدرك: "في نهاية الأمر، نحن نؤمن بعودتنا
إلى القدس من منطلق أننا أصحاب الحقّ". ويعتبر عطون أن قرار الإبعاد فيما لو تم
تثبيته، ليس قراراً ضد شخوص النواب فحسب، "بل هو قرار ضدّ مدينة القدس ولصالح
إفراغها من الحياة السياسية تماماً".
المصدر: العربي الجديد