القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

تقارير إخبارية

وليد طه الفلسطيني المعلّق بين السماء والأرض

وليد طه الفلسطيني المعلّق بين السماء والأرض

السبت، 12 آذار 2011
يوسف حاج علي - السفير

كانت لحظات صعبة تلك التي استدعى خلالها الطبيب مازن حيدر العائلة إلى غرفة الانتظار المربعة بالقرب من العناية الفائقة ونظر في عيون أفرادها ليبلغها بوضع مريضها. دفع طبيب الجراحة العامة المناوب في مستشفى الجامعة الأميركية العائلة لمواجهة اللحظة الحاسمة. لحظة القرار. أبلغها بأن عليها أن تختار بين إبقاء الوضع على ما هو عليه والانتظار، وبين الموافقة على غسل الكليتين اللتين تعطلتا بالكامل عن العمل يوم أمس. وضع العائلة كلها بمواجهة قرارين أسهلهما مهول.

لم يكن وليد طه، النجّار الفلسطيني، الذي أدخل المستشفى منذ نحو أسبوعين بعدما احترق وهو نائم وحده في سريره خلال فترة بعد الظهر في منزله الكائن في عرمون، يسمع الحوار الدائر بين الطبيب وبين عائلته الصغيرة.

غفا وليد الذي تعود أن يدخن في غرفة نومه، ليفيق على نفسه محترقاً يطرق باب المنزل المقابل لباب منزله بعدما استطاع أن يصل إليه، قبل أن يقع على الأرض وينقله الجيران على عجل إلى المستشفى لتبدأ رحلة معاناته الشخصية ومعاناة العائلة. ربما كانت السيجارة سبب الحريق.. ربما كان احتكاكاً كهربائياً.. ربما.. وربما..

ليس ذلك مهماً الآن.

في طوارئ مستشفى الجامعة الأميركية أجريت الإسعافات الأولية. الحروق التي أتت على نحو سبعين بالمئة من جسمه وترواحت بين الدرجتين الثانية والثالثة، واستدعت تدخلاً أكثر تخصصا. حاولت العائلة أن تنقله إلى قسم الحروق المتخصص في مستشفى الجعيتاوي. جاء الجواب فجاً: «الأسرّة كلها مشغولة، وفي حال شغور أحدها ينبغي إحضار مبلغ عشرين ألف دولار». ومنذ أكثر من أسبوعين، لم يشغر سرير في المستشفى المذكور على الرغم من الاتصالات المتكررة اليومية. «مستشفى بيروت الحكومي» قال إنه لا يعالج الحروق.

لكن ذلك أيضاً لم يعد مهماً الآن.

في اليوم التالي لدخوله الطوارئ، نقل وليد إلى العناية الفائقة في الطبقة الرابعة التي كان ما يزال يرقد فيها. بلغت كلفة فحوصات الطوارئ وحدها خمسة ملايين ليرة. سددتها العائلة بدلاً من قسط محمود، رابع أبنائه، الذي يدرس إدارة الأعمال في الجامعة.

كأنه قدر لئيم كتب على زوجة وليد، اللبنانية سهام دمج، وأبنائهما الخمسة منال وميرنا ومحمد ومحمود وملاك، يحتّم عليهم تحمّل كل الكوارث دفعة واحدة: إصابة الأب، واحتراق المنزل، وتشرّد أفراد العائلة، ثم ضياع القسط الجامعي للابن، وتراكم فواتير الأصفار المخيفة التي يتصل قسم المحاسبة في المستشفى من أجلها كل يوم.

فاتورة العلاج الكاملة وصلت حتى يوم أمس إلى نحو خمسين مليون ليرة. وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين لم تقدم كامل الدعم والحماية اللذين أنشئت من أجلهما. تلاسنت منال، الابنة البكر، مع المسؤول المعني فيها فاستدعى هذا الأخير الأمن من أجل إخراجها من مكتبه. لم تحصل على أكثر من «شيك» مصرفي لا تزيد قيمته عن أربعة آلاف دولار.

والسفارة الفلسطينية لم تكن أفضل حالاً. وعدت بشيك مصرفي قيمته ثلاثة آلاف دولار فقط. أما وزارة الصحة اللبنانية التي تنصلت من الموضوع بداية، وأحالته على الوكالة بعد أن علمت بأن المصاب «فلسطيني» عاد وزيرها وأرسل، يوم أمس، مندوباً من قبله ليحصل على صورة عن الملف، واعداً بجواب يصل بعد غد الاثنين.

لكن، ربما يكون الأوان قد فات.

يوم أمس، دخل الطبيب الشاب ليبلغ العائلة بأن مساحة الحروق، التي أضعفت مناعة وليد إلى حدها الأدنى، بدأت بتعطيل وظائف أعضائه واحداً بعد الآخر. فقسم العناية الفائقة في الجامعة لا يقوم بتطبيب الحروق التي تحتاج إلى علاج متخصص غير متوفرّ في الأميركية، بل يكتفي بمدّه بالتنفس وبالمحافظة على ثبات حالته.

وحال وليد تتراجع على مدار الساعة. بعد الرئتين، تعطّل عمل الكليتين. توقف جسم وليد عن تصريف البول، وعندما يرتفع منسوب الأملاح من دون أن يتمكن الجسم من تصريفها، يدخل في مرحلة التسمم، التي يليها الموت حكما.

إيصال آلات تنظيف الكليتين ليس بالمهمة السهلة. على العكس، فحتى الجسم المعافى يتمكّن بالكاد من تحمّل عملية تنظيف الكلى. ويمكن لزرع الآلات أن يؤدي إلى هبوط في ضغط الدم الذي يحاول الأطباء إبقاءه ثابتا، وبالكاد ينجحون.

يوم أمس الأول، هبط معدّل ضربات القلب إلى مستوى منخفض جداً قبل أن يتمكن الأطباء من إعادتها إلى ما كانت عليه. قال الطبيب ان ذلك الإجراء، في حال كتب له النجاح، لن يفعل أكثر من تأخير تدهور الحالة لساعات، أو أياماً إضافية في أفضل حال.

اليوم، بات حتى نقل وليد إلى مركز حروق متخصص خطوة متأخرة. فالمهمة الصعبة تحتاج إلى الكثير من العناية والدقة والمعدات الحسّاسة.

دخل الطبيب ليقول، بشكل موارب، ومن دون أن يستخدم الكلمات القاسية، ان وليداً المعلق بين السماء والأرض، بات أقرب إلى الأولى منه إلى الثانية.

قال كلماته وخرج من غرفة الانتظار الخانقة وترك للعائلة أن تتخذ القرار الصعب.

لتقديم أي مساعدة يمكن الاتصال على هذين الرقمين:

١٩٩٦٤٧ ـ ٧١

٢١٩٩٨٢ ـ ٠٣