يوم فلسطين في القلعة: عندما جاء الفلسطينيون ورحلوا
الأحد، 01 نيسان، 2012
لم يكن احتفال يوم الارض في لبنان هذا العام على غرار سابقاته : فرح ودبكة، همس في الخيبة ويأس من العودة. الفلسطنينيون ينهشهم الحنين حتى اغفلوا اصدقاءهم.
يمكنك ان تطل على احياء يوم الأرض في لبنان من خلال الخطابات الحماسية التي يطلقها زعماء الأحزاب: حزب الله، حماس، فتح، الجهاد الاسلامي، حركة أمل والجماعة الاسلامية. مفادها أنه لا بد من التحرير و لا مناص من المقاومة، و لا شيء فوق الوحدة، ولا أهم من فلسطين.
ويمكنك ان تطل عليه ايضا من خلال الضيوف القادمين اليه من كافة اصقاع الارض: مئتان وخمسون رجل وامرأة من اربع وستين دولة، أتوا رغم بعد المسافات، (الهند، باكستان، فيليبين، اليابان،اندونيسيا، اليونان،فرنسا، الولايات المتحدة، النروج، ألمانيا...).
صوت يهودي: فلسطين هي فقط فلسطين
منهم من أتى رغم كل الضغوطات والاعاقات، على غرار هولاء المؤمنين اليهود الثلاثة، الذين يواجهون جور بني جلدتهم، لأنهم ما انفكوا يكررون أن فلسطين هي فلسطين ولن تكون يوما اسرائيل وأن تحريرها آت لا محال. جاؤوا مرة أخرى إلى لبنان ليقولوها مجددا. كان حضورهم هذا العام الأكثر لفتا للانتباه..
صوت فرنسي: فلسطين هي الرمز
أقل للانتباه كان مجيء فرسان ثلاثة ولكن ليس أقل أهمية، قدموا من ارض فولتير، فرنسا، التي تحولت مع مرور الزمن الى ارض الصهيوني برنار هنري ليفي، وحيث يواجهون كافة الطرق القمعية الخبيثة، لمنعهم من المشاركة من الاحتفالات المؤيدة لفلسطين: " هل تعرفين سيدتي، هم لا يقولون لنا لا تذهبوا، بل يرفضون تسليمنا جوازات السفر"، قال أحدهم، توماس ويرليه، وهو المؤسس الشاب لحزب لا يزال صغيرا "حزب التضامن الفرنسي". ويتابع قائلا: " كان من المفترض أن نكون خمسة، ولكن جئنا فقط ثلاثة، لأنهم رفضوا تسليم الإثنين الأخريين جوازات السفر". ولكننا جئنا رغم ذلك وأردنا أن نرفع العلم الفرنسي أيضا" أكد ويرليه ، والذي رايناه يحمل العلم الثلاثي الألوان مرتفعا عاليا بين الأعلام الفلسطينية واللبنانية والايرانية والباكستانية والماليزية والتركية و......
"اردنا أن نقول عاليا بأنه ليس كل الفرنسيين مع اسرائيل" يضيف (توماس) بشيء من التحدي والكثير من الشجاعة، عندما تعلم حجم القمع والملاحقة والمراقبة التي يتعرضون لها في بلد يوزع شهادات حسن سلوك بالحرية والديمقراطية. "بالنسبة إلينا فلسطين هي الرمز، لأنها في قلب المواجهة مع هذا النظام العالمي الذي تقع الصهيونية على رأسه والقدس عاصمته" قبل أن يذكر: " لا تصدقون ما ينعتوننا به في الوسائل العلامية الفرنسية"، والتي تسعى الى شيطنتهم، عبر تصويرهم بأنهم يمينيين نازيين متطرفين.
صوت نروجي: العلم مرفوعا ولو كرهوا
وقد جاءت أيضاً زوجة المدير السابق للبنك الدولي جامس فولفنسوهن والتي اشتهرت عندما رفعت العلم الفلسطيني على شرفة منزلها في (وارسو) وعندما سالناها عن هذا الموقف، ذكرت وهي تضحك المرات التي حاولوا خلالها ثنيها عن رفع هذا العلم الفلسطيني ولكنها ابت واصرت...
وحضر ايضا وفد هندي، ربما هو الأكبر عددا،( اربعون شخصا)، جاؤوا بحرا (مسلمون وهندوس وبوذيون) ومن بينهم ظهير أحمد صديقي الذي أسر لمراسلنا أنه "توضأ قبل الخروج من الفندق لأنه كان يأمل أن يستشهد من أجل فلسطين على ارض الجنوب".
وقد حضر أيضا ممثل للثورة البحرينية، الثورة المظلومة، محمود ميرزا الذي ابى إلا وأن يشارك في يوم ارض فلسطين، وهو يقول: " الشعوب تريد تحرير فلسطين وإسقاط كافة الأنظمة العميلة " والتي هي بحسب رأيه السبب قي تأخر تحرير فلسطين.
وهناك أيضاً السيدة الالمانية فاطمة رجائي اللتي اعتنقت الاسلام منذ اقترانها من زوجها الايراني.. و المخرج المسرحي الياباني، شوموشي سوتي هوارا، القادم بمفرده وعلى حسابه من هذا البلد الخاضع للهيمنة الأميركية دونما تأفف...
وهنا وهناك ...ف وراء كل واحد من هولاء الناشطين ألف قصة وقصة من النضال من أجل فلسطين اجتمعت في هذا اليوم...
يوم الأرض في القلعة
وفي هذا اليوم الفلسطيني بامتياز، لا بد لنا أن نطل عليه من خلال الفلسطينيين انفسهم، اصحاب القضية وموضوعها. وهم الذين في لبنان لاجئين منذ أكثر من ثلاثة أجيال. (400 ألف) وقد جاؤوا بالمئات، عوائل وعوائل، من مختلف المخيمات: عين الحلوة، المية المية، البرج الشماي، شاتيلا... ولم يسمح لهم بأكثر من ثلاثة آلاف.
شاءت الضرورات الأمنية أن يتم احتفالهم في قلعة شقيف، أعلى نقطة في الجنوب اللبناني (700 متر فوق سطح البحر)، والأكثر إطلالة على فلسطين، رغم المسافة: ثلاثة كيلومترات عن فلسطين المحتلة، خشية ان يحصل ما حصل في العام الماضي عنما فتح الجنود الصهاينة النار على المتظاهرين في مارون الراس فاردوا ستة منهم شهداء. هذا الاختيار لم يلق استحسان الكثيرين من الفلسطينيين. وبالأخص منهم مسؤولي الاحزاب.
منهم السيد فرحات سليم فرحات، الفدائي السابق والنقابي الحالي والجالس بين الناس للمشاركة في الاحتفال. هو يسكن في مخيم "شاتيلا شارون"، كما يحلو له أن يسميه، نسبة إلى مجزرة صبرا وشاتيلا. (كل اللاجئين الفلسطينيين عندما تأسلهم من أين هم، يجيبون عن المخيم اللبناني الذي يقطنون فيه. عليك أن تحدد لهم عن أصلهم الفلسطيني حتى يذكروه لك).
هذا الاحتفال بالنسبة إلى هذا الفلسطيني المفوه والذي يعود أصله الى قضاء الصفد " هو جهاد، لأنهم منعونا من الوصول إلى فلسطين". " لو وضعت السلطات الاسلاك على الحدود، لكان أفضل"، يضيف مسنفراً. مؤكدا أن " الشعب الفلسطيني يقدم كل أولاده إلى الشهادة... فداء للحرية الحمراء".
متأملأ بالشعوب العربية وليس بالأنظمة. مدينا الحواجز العسكرية اللبنانية التي أوقفتهم وفتشتهم،وراجيا اللبنانيين أن يتحملوا الفلسطينيين حتى يعودوا الى وطنهم.
ذكرى فلسطين: ساعة سعادة
في يوم الأرض في القلعة، أكثر ما يلفت انتباهك هو جو الفرح والسعادة، مجموعات صغيرة من شبان يرقصون ويدبكون، يغنون لفلسطين ويرددون كلمات لطالما أنشدها آباؤهم في السبعينات: " طالعلك يا عدوي طالع، من كل بيت وحارة طالع" . وحين تسالهم: لماذا انتم فرحون، ففلسطين لم تحرر بعد، يجيب أحدهم:" الحزن في القلب، ولكن الفرح الذي يجب أن نظهر حين نتذكر فلسطين". ربما هي رسالة تحدي في مواجهة اليأس الذي يحاول العدو بثه في قلب هؤلاء الشبان الذين ولدوا جميعهم في لبنان، ولم يعرف أحد منهم قط فلسطين.
فلسطين :عندما تصفى القلوب
يلفتك أيضا الحضور النسائي: الصبايا منهن والأقل شبابا والعجائز. إحداهن أم حسن، وقد بلغت من العمر عتيا. كانت جالسة دون حراك طيلة الاحتفال بجسدها النحيل ، ونظاراتها السميكة. جاءت لأنها تريد أن تتذكر مع كل اقارنها فلسطين التي غادرتها صغيرة، (لا تتذكر كم كان عمرها، ربما في الخامسة عشرة، إلا أنها ولدت في الزوق سبعة أعوام قبل النكبة). وحينما نسألها، هل تأملين بالعودة إلى فلسطين، يصعب عليها ان تسمع، فتجيب ابنتها عنها، وهي ايضا أم حسن والتي لم تعرف فلسطين قط فتقول مرددة :" فقط عندما تصفى القلوب وتقف الناس مع بعضها البعض" قبل أن تكرر مرارا " ان شاء الله، يا ريت، من تمك (فمك) لابواب السماء، يا ريت، يا ريت".
سيدة أخرى، التقيتها بينما كانت البالونات التي تحمل أطياف العلم الفلسطيني تطير نحو فلسطين المحتلة على وقع التغاريد. الحاجة سميحة عطوان تقول ان لديها أمل أن تتحرر فلسطين قريباً " ولكن بعد أن يصل الدم الى الركب"، قبل أن تستدرك:" وفقط على أيدي المسلمين المقاومين والاحرار".
إمرأة ثالثة، أم فادي من شاتيلا، كانت جالسة على احدى حجارة القلعة، تعرفت عليها في خضم العراك الذي اندلع فجأة بين الشباب. كانت تنظر إليهم وهم يركضون في كل صوب، متسائلة:" ما الذي حصل لهم، فهم دوما دمهم حامي، وهل سوف يحررون فلسطين بهذا الدم الحامي؟"
الهروب إلى فلسطين
كانوا قد سمعوا أن أحد اقرانهم تعرض للضرب على ايدي القوى الأمنية. وقد حُمل نحو سيارة الاسعافات الأولية ، فركضوا في كل الاتجاهات وهم يصرخون، متسائلين عن سبب التعدي على قرينهم ، البعض منهم أخذ يرشق الحجارة باتجاه القوى الأمنية، والتي كانت تنهال على المشاركين، قبل أن يهدأ المشهد الهائج بفضل شبان تدخلوا لهذه الغاية.
وقد تبين في نهاية المطاف أن الشاب "المتعدى عليه" حاول التسلل خارج السياج الأمني الموضوع حول ساحة القلعة، ورفض الانصياع لتحذيرات القوى الأمنية فطوقته وحصل ما حصل... قالوا أنه اراد أن يذهب نحو فلسطين!
الامتحان والخيبة: ربما يستطيع حزب الله ان يحرر فلسطين
كثير هم الفلسطينيون الذين يعتبرون أن تحرير فلسطين هو وعد إلهي ولكنه لا بد من اختبار يسبقه، من معاناة وابتلاءات...
وكثير هم الشبان الذين أبدوا يأسهم من تحرير فلسطين، وقد أسروا لي تململهم من أوضاعهم في لبنان وغيرها، ومن الانقسامات التي تنهش الجسد الفلسطيني ومن الوعود العربية التي راحت أدراج الرياح، ومن الخلافات الحزبية المستعرة،و أيضا من فقرهم وغناء قادتهم.
"هم يعلمون أبناءهم في أفضل الجامعات أما نحن فلا أحد يسأل عنا"، هذا ما قاله لي الشاب ابراهيم الذي أصر على ألا أذكر اسمه الكامل وهو الطالب في كلية الطب التابعة للأونوروا، والذي أقصى ما بات يأمله هو أن يسافر إلى اوروبا، ربما إلى ألمانيا، " حيث يكون للأنسان حقوق "، بحسب زعمه، والذي يؤكد أن نصف الشباب قد رحلوا بالفعل. وعنما سألته إذا كان متفائلا بتحرير فلسطين أجابني بالنفي. وهو الذي قال لي بينما كان أبناء جلدته يرقصون ويغنون " كيف سيحررون فلسطين إذا كانوا يمرحون وكأنها استردت؟". وهو الذي يرفض أن ينتسب إلى المنظمات، ولا يعلم من الذي يدعم فلسطين في العالم من الذي يقف ضدها وقد استغرب وجود يهود معادين للصهيونية. "يجب أن تعرف كل صغيرة وكبيرة عن فلسطين" كانت نصيحتي له...
وبينما كان ابراهيم يرافقني في مقابلاتي ويسرد لي يأسه بين الفينة والفينة، دون أن يفسر اسباب مشاركته في هذا الاحتفال، توقف هنيهة وقال، دونما سؤال ولا تعقيب :" نعم، ربما.. يستطيع حزب الله أن يحرر فلسطين!"
فجأة رحلوا
فجأة، حصل ما لم يكن في الحسبان. انتهى الاحتفال بينما كانت الوفود الاجنبية تستعد لإلقاء كلماتها. رحل الفلسطينيون جميعا، قيادة وقاعدة... دونما اية نظرة الى الوراء. لم يروا أن ممثل الوفد اليهودي يسرائيل فيس كان يستعد لإلقاء كلمته: "الصهيونية تشوه اليهودية، سنذهب سوية إلى القدس ونصلي سوية، مع حسن نصر الله" أصر أن يقولها.. وأن الممثل الهندي كان يريد أن يتوجه إليهم... وأن وأن...
بسرعة قياسية، انتهى الاحتفال.. رحل الفلسطينيون وبقي المتضامنون لوحدهم...أولئك الآتون من مسافات بعيدة... والمناضلون للقضية الفلسطينية رغم الصعوبات والضغوطات...
بعضهم استاء،...بعضهم تأثر قليلا.. وأكثرهم لم يكترث... " جئنا لنراهم، ليعلموا أننا معهم، بأنهم ليسوا لوحدهم، وحتى ولو لم يعرفوا سنكون معهم، لأن فلسطين تستحق ذلك"، قالها أحدهم، عندما استفززته بالسؤال، قبل ان يصعد الى الباص!
المصدر: موقع المنار