أبو التحرير:
بعد تهديدي بالقتل والاعتقال غادرت مخيم النيرب إلى المجهول راكباً قوارب الموت
للبحث عن الأمان
مجموعة العمل
– فايز أبو عيد
أبو التحرير
(اسم مستعار) "55 عاماً" لاجئ فلسطيني من أهالي عكا في فلسطين ولد في
مخيم النيرب بحلب شمال سوريا، كان شاهداً
على حقبة وأحداث جسام مرت بمخيم النيرب، وما شهده من فوضى للسلاح وزج ابنائه عنوة
بالصراع الدائر في سورية.
حاول أبو
التحرير جاهداً أن يحافظ مخيم النيرب على حياديته وأن لا ينزلق بمتاهة الأحداث في
سورية، إلا أنه تعرض بسبب ذلك للتهديد بالقتل واعتقال أولاده، من خلال إلصاق تهم
كيدية بعائلته، فاضطرر لمغادر المخيم إلى إدلب ومن ثم تركيا وهناك مكث قليلاً
وعندما ضاقت به الأحوال ركب قوارب الموت واتجه مع عائلته إلى ألمانيا.
يقول أبو
التحرير: "كنت أعمل مدرساً لطلاب الشهادتين الثانوية والإعدادية في إطار دورات تعليمية عامة في المعاهد، وخاصة
في البيوت داخل مدينة حلب وفي المخيم و قرية النيرب السورية، في أواخر شهر حزيران
٢٠١١ وأنا ذاهب إلى النيرب لإعطاء دروس خصوصية للطلاب في القرية المحاذية للمخيم، حينها كانت الأحداث في
سورية قد اندلعت بقوة، وسيطرت قوات المعارضة السورية على معظم قرى الريف الشمالي
والجنوبي لمدينة حلب، الأمر الذي دفع الأمن العسكري والجوي السوري لتدبير صدام بين
أهالي تلك القرية وسكان مخيم النيرب، تمثلت في إشعال فتنة لتعكير العلاقة والأجواء
الأخوية والروابط المتينة بين الطرفين، حيث عمدت قوات الأمن السوري إلى استغلال
شجار بالأيدي بين طالبين في المرحلة الإعدادية أحدهما من مخيم النيرب وأخر من
القرية، فقام الأمن السوري بتضخيم هذه الحادثة
لشحن النفوس وتحريض الأهالي على بعضهم.
ويتابع أبو
التحرير سرد قصته لمجموعة العمل بالفعل في
صباح اليوم التالي وقعت الواقعة فأثناء خروج الطلاب من قاعة الامتحان أخذ أزيز
الرصاص يتطاير في الهواء معلناً حدوث مأساة حقيقية، لم تحصل منذ ثلاثة وستين عاماً
إذ اشتبكت مجموعة ممن سممت عقولهم من كلا الطرفين بالسلاح و قُتل على أثره ثلاثة
من خيرة شباب مخيم النيرب ومثلهم تماماً من شباب قرية النيرب، وسال الدم القاني
بين الطرفين اللذين باتا يتربصان لبعضهما، وبذلك نجحت الفتنة وتم اقحام مخيم
النيرب في الصراع الدائر بسورية بعد أن كان يتخذ الحياد الإيجابي من الأزمة فيها.
يضيف أبو
التحرير بعد أيام من ذلك شُكلت لجنة مؤلفة من عشرة أشخاص – خمسة من أبناء مخيم
النيرب، وخمسة من أبناء قرية النيرب -
بقرار من أمين فرع حزب البعث في حلب مهمتها التفاهم لإيجاد صيغة مصالحة بين
الطرفين وإطفاء جذوة الخلاف الدائر
بينهما، على أثره اجتمعت اللجنة التي ضمت إليها مسؤول مؤسسة اللاجئين بحلب ابراهيم فياض
والمحامي عبد القادر أبي رحمة، وقررت بعد عدة اجتماعات إزالة الحواجز وإعادة فتح
المحال التجارية وأن يتحمل كل طرف مصيبته باعتبار عدد القتلى بين الطرفين متساوي.
مستطرداً بدء الأمن السوري بعد هذه الفتنة على حد تعبيره
بتشكيل لجان شعبية من أهالي مخيم النيرب للدفاع عن مخيمهم، حيث شكل ما يسمى لواء القدس
الفلسطيني تزعمه المهندس الفلسطيني (محمد السعيد) الذي عين (عدنان السيد) نائباً
له، وأوكل مسؤولية القيادة العسكرية للشاب
(محمد رافع) إضافة إلى عدد من أبناء المخيم الموالين للنظام من جهة وممن وجدوا في
الرواتب العالية المقدمة للفرد منهم فرصة
للعيش.
ويشير أبو
التحرير إلى أن السلاح انتشر بين شباب المخيم بشكل فوضوي عشوائي وأصبح خطراً
يهدد أبناءنا، حينها تعالت الأصوات الحريصة على أمن وسلامة المخيم رافضة هذا الواقع الجديد، وكان السؤال المنطقي
المطروح بين جميع السكان ما العمل ؟ وكيف لنا أن نحمي أولادنا شر وخطر انتشار
السلاح الذي يهدد حياتهم خارجياً وداخلياً، خاصة بعد حصول مشاحنات وشجار بين عائلات من المخيم، حيث استخدمت السلاح ضد
بعضها مما أدى إلى جرح وقتل عدد من أبناء المخيم، هذا الأمر دفع بعض العقلاء للبحث
عن مخرج لتلك المصيبة التي ورط الأمن السوري فيها المخيم.
يضيف أبو
التحرير ألتقيت بعدد من وجهاء المخيم وممن لهم سلطة حقيقية فاعلة اجتماعياً
وسياسياً وحكومياً للبحث عن حل لمعضلة
انتشار السلاح بطريقة فوضوية في مخيم
النيرب، حيث اتفقنا حينها على عقد لقاء جماهيري، أو مؤتمر شعبي لوجهاء المخيم
من أجل تبادل الآراء والأفكار
واتخاذ الإجراءات الكفيلة بعدم إقحام المخيم في الصراع الدائر في سورية، وحصر
استخدام السلاح للدفاع عن المخيم أو في حال تعرضه لهجوم واعتداء من قبل المسلحين،
منوهاً إلى أنه في شهر رمضان ٢٠١١ تم توجيه الدعوة لحوالي مئتي شخصية فلسطينية
مرموقة من أبناء المخيم لحضور الاجتماع في
صالة البستان، حضر منهم ما يقرب مئة وسبعين شخصاً ناقشوا أوضاع المخيم وما آلت
إليه الأمور من تسيب أمني، حيث طالب المجتمعون بسحب السلاح من الشباب وتجميعه في
مكان واحد، وإزالة الحواجز التي وضعها الأمن العسكري والجوي على بوابة المخيم،
والعمل على تشكيل لجنة شعبية لإدارة شؤون المخيم.
ويوضح أبو
التحرير أن تلك القرارات لم تنفذ بسبب إقالة أمين شعبة الحزب في المخيم من منصبه، حيث تعرض منزله للهجوم من قبل
(شبيحة) المخيم وتهديده بوضع المسدس على رأسه، كما تم تهديدي شخصياً مما منع تحويل
توصيات اللقاء الشعبي إلى حيز التطبيق.
الهجرة إلى
تركيا
بعد تلك
التهديدات بدأ الأمن العسكري بمراقبته أبو التحرير وأولاده، خاصة بعد التقارير
العديدة التي كتبها بعض من أبناء المخيم للأمن السوري يتهمونه فيها بقيادة المظاهرات التي خرجت للتنديد بالنظام
السوري، والتعامل هو وأولاده مع الجيش الحر وتزويد مشافيه الميدانية بالدواء، وأكد
أبو التحرير أنه وبعد تهديدي أنا وأولادي بالاعتقال والقتل لم أجد أمامي بداً من
مغادرة المخيم، وبالفعل توجهنا يوم ١٢ /٤
/٢٠١٢ نحو مدينة أطمة التابعة لمحافظة إدلب ومنها تسللنا بطريقة غير نظامية قاطعين
الحدود التركية باتجاه مدينة الريحانية، حيث
كانت رحلتنا موفقة ولم نجد أية صعوبات ولم يعترض طريقنا أحد.
أقمنا في
الريحانية مدة ثلاثة أشهر تقريباً لم نجد فيها أي عمل نقتات منه، وهنا بدأ المال
الذي بحوزتنا بالنفاد، حينها أخبرني صديقي أن هناك فرصة عمل لي ولأولادي في مدينة
اسطنبول، فحزمنا أمتعتنا وغادرنا الريحانية إلى اسطنبول ومكثنا فيها حوالي السنتين
والنصف، لكن أيضا لم تأت الرياح بما تشتهي السفن، حيث لم نجد عملاً في اسطنبول
نحصل منه على ما يسد رمقنا وحاجتنا، إلى أن وجد أبني فرصة عمل في معمل لصناعة
حمالات ألبسة بلاستيكية، إلا أن ولدي ترك العمل بعد عدة أشهر بسبب عدد ساعاته
الطويلة والأجرة الزهيدة التي لا تكفي تكاليف الحياة وأجرة المنزل.
يضيف أبو
التحرير بدأت الدنيا بما رحبت تضيق بنا نتيجة عدم وجود مورد مالي ثابت يساعدنا على
تحمل أعباء الحياة، وما زاد الطين بله أن صاحب المنزل قرر رفع الايجار، هنا اضطررت
أن استدين بعض المال من الأصدقاء، وبدأت الديون تتراكم عليّ، وهذا ما دفعني للسفر
إلى مختلف المدن التركية للبحث عن عمل كي أتمكن من خلاله سداد الديون لأصحابها،
إلا أن محاولاتي باءت بالفشل، وهنا كان
لابد من التفكير بالهجرة إلى أوروبا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ولسداد الديون وصون
الكرامة.
طريق الألم
والمعاناة
بعد ضنك
الحياة في تركيا قرر أولادي الهجرة إلى أوروبا علهم يجدون الراحة فيها، إلا أن
طريقهم لم يكن سهلاً فعانوا الأمرين في طريق الهجرة حيث خرجوا من تركيا إلى
اليونان ومن ثم اتجهوا براً إلى ألمانيا وهولندا، بعد فترة وجيزة يسر الله أمري
واتفقت مع أحد المهربين لنقلنا إلى اليونان ومن ثم ألمانيا، وعند الموعد المحدد
ركبت أنا وعائلتي أحد قوارب الموت الذي كان على متنه عدد كبير من عائلات مخيم
النيرب .
يستطرد أبو
التحرير أن أصعب ما في هذه الرحلة هو مشهد
تلك الأم التي تحمل على يديها طفلين أحدهما رضيع والثاني يكاد يمشي على قدميه
وتحاول أن تقطع فيهم الغابات والبوادي مشياً على الأقدام وتتنقل بهم من بلد إلى
بلد، وذاك الأب الذي يحمل ولداً على كتفيه والثاني يمسك به بيده اليمنى والثالث
بيده اليمنى ومحفظة الألبسة على ظهره ويسير ماشيا من بلد إلى بلد وغيرهم الكثيرون
من الأسر والعائلات، يكمل أبو التحرير رواية قصته لقد قطعنا الحدود التركية عبر
البحر ( البلم ) إلى جزيرة كوس في اليونان، كانت رحلة مرعبة شاقة بلغت فيها القلوب
الحناجر والجميع أي حوالي أربعين شخصاً في البلم على دعاء واحد ولسان واحد سائلين
الله السلامة كي لا تكون بطون الحيتان قبورنا كما حصل مع العديد ممن سبقنا، وبفضل
من الله بلغنا مأمننا على أرض جزيرة كوس اليونانية وفيها عانينا الأمرين حيث بقينا
فيها حوالي أسبوع ننام في الشوارع بسبب كثافة الناس وغلاء الفنادق، مشيراً إلى أنهم
تجرعوا الحنظل في اليونان حيث كانوا ينامون في الشوارع والحدائق ويأكلون القليل من
الطعام، استمر الحال على ما هو عليه عدة أيام إلى أن غادروا جزيرة كوس على متن
باخرة كبيرة إلى أثينا وقد استغرقت الرحلة على متنها حوالي اثنتي عشرة
ساعة متواصلة، ومن أثينا بدأنا رحلتنا بعد وصولنا بخمس ساعات إليها متجهين إلى
مقدونيا، مشيت أنا وعائلتي مع حوالي ألف شخص باتجاه مقدونيا سيراً على الأقدام حيث
وصلنا إليها بعد أربع ساعات، وكانت محطة القطار مكاناً لتجميع المهاجرين لإعطائهم
الموافقة على المغادرة إلى صربيا فمكثنا في مقدونيا طول النهار حتى الساعة الثامنة
مساء في العراء بالمحطة عانينا فيها كثيراً من قلة النظافة هناك وكثرة الناس و
الحر الشديد،.
يتابع أبو
التحرير خرجنا من مقدونيا في الساعة العاشرة مساء بالباص حتى الحدود مع صربيا
ووصلنا تقريبا في الثانية صباحاً، نمنا تلك الليلة في الشارع العام على الرصيف
وكانت ليلة باردة نسبياً فنخر البرد أجسادنا لأننا كنا نرتدي الملابس الصيفية، عند
الصباح بدأنا من جديد مرحلة السير مشياً
نحو صربيا وكان الطريق إليها متعباً للغاية بسبب وعورة الأرض وتضاريسها الصعبة،
وعند وصولنا إلى الطرف الصربي قام حرس الحدود بإطلاق الرصاص باتجاهنا مما دفعنا
إلى تغيير مسارنا والسير بعيداً عن عيون حرس الحدود ومرمى نيرانهم حتى وصلنا
النقطة المعدة من قبلهم لاستقبال المهاجرين فسلمنا أنفسنا للبوليس، وبعد حوالي عشر
ساعات تمكنا من الحصول على ورقة الموافقة، فغادرنا بعدها إلى مدينة بلغراد
العاصمة، وبعد وصولنا مكثنا في العاصمة يوماً واحداً، ثم انطلقنا نحو حدود
هنغاريا برفقة عدد من المهربين كنا قد
اتفقنا معهم مسبقاً، وفي الطريق واجهنا عقبات عديدة حيث طلب المهربون منا النزول من الحافلة والسير على الأقدام، فمشينا ما يقارب ثلاث ساعات في الطين والوحل
بسبب المطر الذي كان ينهمر فوق رؤوسنا، بعد ذلك دخلنا في الغابات لنتوارى عن أعين
البوليس الهنغاري بغية المرور دون أن يرانا وبقينا مختبئين بالغابة بين الأشجار
حوالي الساعتين كانتا من أقسى الساعات التي مرت علينا وخاصة أن معنا أطفال صغار،
لذلك قررنا أن نسلم أنفسنا للبوليس الهنغاري رأفة بالأطفال والنساء، بعد ساعة
تقريباً وصول الباص الذي أقلنا إلى معسكر المهاجرين، الذي بقينا فيه ما يقارب
اثنتي عشرة ساعة ثم نقلونا إلى مكان آخر، ومنه غادرنا إلى مدينة بودابست العاصمة.
من بودابست
إلى ألمانيا
مكثنا في
بودابست يوماً واحداً وفي اليوم التالي اتفقنا مع مهرب وانطلقنا باتجاه ألمانيا
فقطعنا خلال رحلتنا النمسا ومنها إلى ألمانيا، استغرقت الرحلة حوالي ثمانية ساعات،
وصلنا بعدها الأراضي الألمانية في منطقة
تسمى ( بيساو )، هناك تسلمنا البوليس الألماني ونقلنا إلى معسكر للمهاجرين، وفي
اليوم التالي نقلونا إلى ملعب كرة قدم مخصص لمبيت المهاجرين، وبعد يومين قام
البوليس الألماني بالتحقيق معنا ليعرفوا من أي البلاد أتينا ، وبعد التحقيق تم
نقلنا إلى معسكر آخر بقينا فيه ثلاثة أيام، ومن ثم نُقلنا مجدداً إلى معسكر في مدينة
اسمها (بيليفيلد)، وبعد أكثر من شهر قامت
السلطات الألمانية بفرزنا إلى المدينة النهائية التي ستستقر بها كل عائلة ريثما
يصدر قرار إقامتهم، وكان نصيبنا أن نستقر في مخيم جماعي يبعد حوالي ٧٠٠ كم سبعمائة
كيلو مترا من العاصمة برلين، أو ما يسمى ( هايم ) يقطنه حوالي اثنتا عشرة عائلة،
بقينا في المعسكر حوالي ستة أشهر، بعد ذلك تم نقلنا إلى شقة سكنية واسعة في نفس
المدينة، ومن ثم حددوا لنا موعداً للتقدم إلى لجنة للتحقيق معنا، وبعد مرور عام تقريبا على ذلك جاءت الموافقة
بإعطائنا الإقامة الألمانية لمدة ثلاث سنوات، وحصلنا على بطاقة وجواز سفر يخولنا
بالتحرك في دول الاتحاد الأوروبي أو أي بلد آخر.
يختم أبو
التحرير سرد حكايته مشدداً على أنه لو وجد
دولة عربية أو إسلامية توفر له ولعائلته ما توفره الدول الأوروبية لما تردد في
الذهاب إليها، لكن للأسف كل الدول أقفلت أبوابها في وجوه اللاجئ الفلسطيني السوري،
مضيفاً انه ما كان بالمستطاع غير الذي نحن فيه من أجل تلبية متطلبات الحياة، سائلا
الله تعالى أن يفرج الهم ويزيل الأسباب التي أوصلتنا لما نحن فيه وأن ينتصر الحق
وتتحرر أرضنا ونعود إلى فلسطين عودة ظافرة شامخة.